أعمدة

حيوات

 
التقيت به مصادفة في إحدى صالات الرياضة البدنية «الجِم» وهي الأولى لي إذ كنت أُشاهده فقط على شاشة التلفزيون الوطني وهو يرعى المناسبات أو يُدلي بالتصريحات. ونحن نمشي على الشريط في الماكينتين المتجاورتين عرّفني الرجل المُهيب بنفسه وابتسامة عريضة تملأ وجهه: «أنا أخوك فلان بن فلان الفلاني، أسعى من الاشتراك في هذه الصالة إلى تخفيف وزني الزائد والاستمتاع بما بقي من العمر» رددت عليه: باحترام شديد «معروف طال عُمرك أنت ما محتاج تعرف بنفسك لأن وجهك مألوف، واجد أشوفك في الأخبار وأسمع عن تواضعك من الناس اللي يعرفوك زين.. كيف ما أعرفك ؟». ضحك الرجل وقال: «أتمنى أن أكون كذلك وأسأل الله العفو والعافية. شرب من قنينة ماء وضعها على الأرض قريبًا من الماكينة وواصل حديثه: هل تصدق أنه في سنوات العمل التي جاوزت الثلاثين لم أكن أستطيع الاشتراك في صالة عامةِ كهذه ولا الجلوس في مقهى عام ولا تخصيص مسجد أُصلي فيه ؟ لن أكون مبالغًا إذا أخبرتك أنني وُلدت من جديد. ها أنا يا أخي أكتشف حياة جديدة، كنت أسمع عنها سماعًا، لدي خطط للسفر، سأجوب العالم وأُعيد اكتشافه، سأستمتع بالجو الأسري كما يجب». وبدون أي تحضير للكلام قلت: «ما قصرت كفيت ووفيت»، لكن اسمح لي لم أكُن أتصور أنك بهذه الدرجة من البساطة». عاود الرجل الابتسام وبصورة عفوية ربت على كتفي وقد بدا مُرهقًا بسبب الجهد الذي بذله على جهاز المشي وقال: «ما الذي يجعلني غير بسيط ؟ لِم يتكبر الإنسان والموت يترصده في أي لحظة وفي كل مكان؟! طلب الرجل أن يترك لي رقمه فأمليت عليه رقم هاتفي.. أجرى اتصالًا قطعه ثم قال وهو يهمُ بالخروج: سأتصل بك خلال هذا الأسبوع انتظر مكالمتي، لقد ارتحت لك».

- في رواية «أخفُ من الهواء» للكاتب الأرجنتيني فريدريكو جينمير يقع مراهق في يد امرأة عجوز تعيش وحدة قاتلة عندما حاول القيام بعملية سرقة لمنزلها. إحساس المرأة كبيرة السن بالوحدة دفعها إلى استدراج الشاب وحبسه في الحمام وكانت رغم ذلك تطالبه بالتحلي بالهدوء وأن لا يحاول إيذاءها أو إيذاء نفسه.

رغبة العجوز في الخروج من وحدتها ألهمتها فكرة أن تُحّول محاولة السطو إلى حديث مع الشاب المراهق حول حياتها. بدأت تنفيذ الفكرة مع المداومة على إطعامه البسكويت واللحم. كانت العجوز تستعرض كل يوم قصة من حياتها وتقدم في الوقت ذاته النصائح التي حصلت عليها بفعل الخبرة من الحياة للشاب المراهق لمدة شهرين لتأتِ بعد ذلك النهاية المؤلمة. انتهت الرواية بأن تركت المرأة غاز المطبخ مفتوحًا فأنتشر في كل أرجاء المنزل. أما الشاب فعندما أدرك أن رائحة الغاز ستقضي عليه بدأ بالصراخ لكن العجوز لم تعبأ بذلك واختارت أن تكون نهايتها بنهايته فهي لا تدري كيف لمراهق أن يتصرف مع عجوز حبسته مدة شهرين في حمام منزلها. ببساطة متناهية وُلدت فكرة الخروج من الوحدة وبنفس البساطة انتهت قصتي مراهق على أعتاب دخول معركة الحياة وامرأة هرِمة شارفت على توديعها.

في حلقة مميزة من حلقات برنامج «بي بي سي أكسترا» بثتها إذاعة «بي بي سي عربي» مؤخرًا طرحت الحلقة موضوعًا مهمًا تناول «العلاقات السامة» في المجتمعات العربية وخطورتها. تحدث في الحلقة أشخاص مختلفو المشارب والأعمار قدموا تجاربهم الشخصية ووصفوا هذه النوعية من العلاقات بأنها «مُرهقة» و«مدمرة» تترك آثارًا سلبية عميقة بعيدة المدى.

ولا ريب أن خروج الحلقة بنتيجة واحدة اتفق عليها الجميع وهي أن هذه النوعية من العلاقات غالبًا ما تجلب الأذى للآخر هذه نتيجة طبيعية فما من مادة سامة إلا وهي قاتلة.

وإذا بحثنا عن مثل هذه العلاقات في واقعنا المُعاش فإنه توجد أمثلة لا حصر لها ليس هناك هدف إلا إلى الإضرار وتعكير صفو الحياة فهناك العلاقة الزوجية دائمة الاضطراب التي تفتقر إلى انعدام التفاهم والاستقرار و«المودة والرحمة» وهناك علاقة الفرد المشبوهة بوطنه من باب أنها لا تقوم على الإخلاص والولاء أوقات الرخاء والضيق والشدة وعلاقات الجيرة غير الآمنة والصداقة الزائفة أو الزمالة التي تقوم على تغليب المصلحة ولا تعرف الاحترام وحفظ الود وتذكر المعروف. إن علاقات مُشتبه في صدقيتها كهذه وتحمل كمية عالية من السُمية يتوجب اجتثاثها من جذورها بأي ثمن وتحت أي مُسمى فهي أشبه بالنبتة السامة التي لا منفعة تُرتجى من ورائها.

آخر نقطة

آمنًا كان، يطالع التلفزيون ويلهو مع أطفاله، يتنقل بين منصات هاتفه المحمول باسمًا. فجأة جاءته الفكرة الشيطانية، علق على الصورة المنشورة بمنصة «تويتر» بجملٍ قصيرة غاية في سوء الأدب وقلة التهذيب، بعد عشر دقائق انهار سور الأمان من حوله وتبدلت الصورة.