أفكار وآراء

عودة كيسنجر!

ارتبطت الحرب الباردة الأولى ارتباطا شبه عضوي بهنري كيسنجر؛ المفكّر الاستراتيجي ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. اليوم يعود كيسنجر ليشغل العالم إثر مشاركته الأخيرة في منتدى دافوس الدولي، من منزله الريفي في غابات ولاية كنتاكي الأمريكية، لا سيما عندما صرَّح عن رأيه في الحرب الأخيرة أي حرب بوتين على أوكرانيا التي لا تزال دائرة. والتي حدثت منذ 24 فبراير الماضي في قلب أوروبا لتعيد تذكير العالم بأجواء الحرب الباردة.

كثيرون فهموا تصريحات كيسنجر عن طريق الخطأ حين قدروا قصده؛ الإبقاء على الوضع كما هو عليه، لكنه بطبيعة الحال كان يقترح أن تبقى الأوضاع كما هي عليها قبل يوم 24 فبراير (يوم بداية الغزو الروسي لأوكرانيا) وذلك تحرزا من خطر أن تفلت الأمور ويعجز العالم، فيما لو امتدت هذه الحرب أكثر من ذلك، عن أي تأطير لها ما يعني الدخول في حرب عالمية ثالثة لا محالة.

يبدو كيسنجر الحاضر دائما بذهنه الوقاد، فيما هو اليوم يناهز 100 عام، كما لو أنه يلاحظ الآثار الباقية للنظام العالمي الذي كان أحد صانعيه الكبار في النصف الثاني من القرن العشرين، لا سيما عبر تصميمه للهوامش الساخنة للحرب الباردة (لبنان - أفغانستان - إرتريا) وليس صدفةً أنها حروب كانت نهايتها بين عامي 1989 - 1991 هي ناهية الحرب الباردة ذاتها.

وفيما يبدو أن كيسنجر اليوم يحاول أن يقنع كثيرين في العالم بأن جدوى حرب باردة ثانية (وإن بدت أنها ستكون أكثر قسوة من الحرب الباردة الأولى) فإنها من ناحية ثانية ستكون أفضل بما لا يقاس من أي حرب ساخنة ثالثة إذا ما اندلعت بين دول العالم الكبرى انطلاقا من قلب أوروبا!

ما يدفع هنري كيسنجر اليوم للتحذير من عواقب حرب باردة ثانية لن تكون كسابقتها أبدا هو؛ وفق الحوار الذي أجرته معه مجلة «التايمز» اللندنية مؤخرا حين قال: «إن الحرب الباردة الثانية ستكون أكثر خطورة من الحرب الباردة الأولى؛ لأن كلا من الولايات المتحدة والصين تملكان موارد اقتصادية مماثلة بخلاف وضعهما في الحرب الباردة الأولى، إضافة إلى ظهور تقنيات تدمير أكثر رعبا، خصوصا مع صعود الذكاء الاصطناعي». وهو تحذير استراتيجي لا نتصوَّر أن يتم إهماله من قِبل قادة العالم.

التصميم الناجح الذي أدّى لنهايات الحرب الباردة هو ما يشير إليه كيسنجر في دعوته إلى أن ترضى أوكرانيا بحدود ما قبل 24 فبراير كسبب لإنهاء الحرب الدائرة في أراضيها اليوم؛ فدعوة كيسنجر إلى أن تصبح أوكرانيا دولة محايدة، على ما كان عليه الأمر مع فنلندا (التي تملك هي الأخرى حدودا طويلة مع روسيا) بعدم الانتماء للناتو ربما يعيد التذكير بجدوى الحرب الباردة التي أدّت فيها دعاية القيم الليبرالية ما لم تؤدِّه أسلحة الدمار الشامل في هزيمة الاتحاد السوفييتي حين أنهت الحرب الباردة في عام 1991 ذلك العام الذي أرَّخ وحدَّد به المؤرخ البريطاني الماركسي المرموق «إيريك هابزباوم» عمر القرن العشرين باعتباره أقصر القرون.

لا يزال كيسنجر على إيمانه بفكرة الاحتواء الناعم بصفته شعارا سياسيا فعّالا عبر إشاعة القيم الليبرالية الغربية ونموذجها في الفردية والحريات، وهو النموذج الذي أصبحت به اليوم دولة مثل بولندا (التي كانت عاصمتها رمزا لحلف وارسو) جزءا من المعسكر الليبرالي الغربي. هذا يعني، بحسب كيسنجر، أن انتصار أوكرانيا الليبرالية (إذا قبلت بحدود ما قبل 24 فبراير مبررا للتسوية وإنهاء الحرب) سيكون مسألة وقت، مع ما يعني ذلك من تأثير كبير لردود فعل إيجابية على الجزء الأوكراني المحتل من روسيا مع مضي الوقت. لا يرغب كيسنجر أن يرى روسيا دولة منهارة، إذا ما لم يتم النظر إليها كدولة مهمة (مهما بدت أسباب الصراع معها) لأن انهيار روسيا تحت الضغط الغربي -إن حدث- سيكون خطورة استراتيجية كبرى على أوروبا.

لقد ظل ثعلب الدبلوماسية و«دكتور الشر» -بحسب نعوت يساريي الحرب الباردة- بذهنه الوقَّاد وآرائه المثيرة للتأمل بمثابة مخزن أفكار استراتيجية ربما لا يزال بعضها يملك الوجاهة ذاتها التي تفيد في تسكين صراع في قلب أوروبا، قد لا يعلم أحد مداه إذا ما استمر!