أفكار وآراء

كُلْفَة التعقيد في سلاسل الإمداد

ترجمة قاسم مكي

اعتقد آدم سميث أبو الرأسمالية الحديثة (1723 - 1790) أن الأسواق تتطلب إطارا أخلاقيا مشتركا بين المشتري والبائع. لا غرابة في ذلك فأفكاره مستمدة من أوضاع سوق القرن الثامن عشر التي كان منتجوها ومستهلكوها جيرانا في الغالب.

تقدمت بنا إنجازات التقنية والنقل والاتصالات كثيرا منذ ذلك الوقت وأوجدت لنا سلاسل إمدادٍ عالمية معقَّدة. خفَّضت هذه السلاسل الأسعارَ الاستهلاكية. لكنها جلبت معها مخاطرها الخاصة بها من نفوذ احتكار مشوِّه للسوق إلى استغلال للقوى العاملة وتدمير للبيئة.

أحد تكاليف سلاسل الإمداد هذه (التي توجد في المنتجات المادية ورأس المال العالمي) ظهورُ وسطاء تجارة أقوياء، من بين هؤلاء شركاتٌ من شاكلة «كارجيل» التي تنقل سنويا أكثر من 200 مليون طن من المواد الغذائية وبضائع أخرى، من بينها أيضا العديدُ من المؤسسات المالية الكبيرة التي تجمع الأوراق المالية في حِزَمٍ معقَّدة ومنصات تقنية كبيرة كـ«آمازون» وشركاتُ تجزئة عملاقة مثل «وول مارت» بل حتى سماسرة عقارات سكنية يتوسطون بين البائعين والمشترين.

هؤلاء الوسطاء يساهمون في الأداء السلس للرأسمالية، كما تحاجج كاثرين جادْج الأستاذة بجامعة كولومبيا في كتابها الجديد «التبادل المباشر - ظهور اقتصاد الوسطاء وقوة الذهاب إلى المصدَر».

فالوسطاء- تكتب جادْج- «يمكنوننا من شراء البضائع التي تُنتج في الجانب الآخر من العالم وتكوين محفظة استثمارية متنوعة وطلب مواد بقالة دون أن نغادر بيوتنا.

لكن هذه القوة الموحِّدة تقوض المسؤولية بإيجادها قدرا كبيرا من الانفصال بين المشترين والبائعين بحيث يستحيل حساب التكلفة الحقيقة لتيسير الحصول على السلع وانخفاض الأسعار.

هنالك الكثير من الأمثلة التي تدعم هذه المسألة بدءا من صناعة المنسوجات التي تُستخدم في إنتاجها قوى عاملةُ من الأطفال إلى حوادث تفشي بكتيريا «إي كولاي» في سلاسل توريد الغذاء المعقدة إلى الريوع (الرسوم) الباهظة التي يحصل عليها الوسطاء في الخدمات المالية وتقنية المنصات، وفي هذه الحالة الأخيرة يجعل عدم تماثل المعلومات من الصعب على المشاركين في السوق أن يكونوا على قدم المساواة في معرفة ما يباع ويشترى، وهذا شيء آخر ذكر آدم سميث أنه شرط أولي وأساسي لنجاح السوق في أداء وظيفتها بشكل جيد.

من المؤكد أن العولمة الفائقة (التي انطلقت منذ تسعينيات القرن الماضي- المترجم) والتركز الشديد لنفوذ الشركات وراء فشل أداء السوق ابتداء من أزمة الرهونات العقارية بالولايات المتحدة في عام 2008 وإلى أوضاع نقص الإمدادات بسبب اختلال سلاسل التوريد في السنوات الأخيرة، لكن الكاتبة جادْج تعتقد أن « نمو اقتصاد الوساطة» مشكلة في حد ذاته لأنه ينزع المسؤولية وبل حتى الأخلاق عن نظام السوق.

لنتأمل مثلا الكيفية التي تغيَّرَ بها مشهدُ ملكية أسهم الشركات العامة في العقود الأخيرة. ففي الولايات المتحدة في عام 1950 كان حوالي 6.1% فقط من هذه الأسهم مملوكا للمؤسسات والباقي بأكمله في حيازة أفراد يصوتون على أشياء مثل انتخاب من يحتل منصبا في مجلس إدارة الشركة.

أما اليوم يملك الوسطاء المؤسَّسيُّون مثل صناديق التقاعد والصناديق المشتركة وصناديق التحوط وغيرها 70% من هذه الأسهم.

إلى ذلك يستخدم معظم هؤلاء الوسطاء وسيطَين رئيسيين آخرَين هما شركتا استشارات خدمات الوكالة آي إس إس «خدمات الأسهم المؤسَّسِية» وجلاس لويس لاستيفاء مطلوبات التصويت في الشركات على الرغم من محاولات هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية القضاء على مثل هذا التصويت التلقائي. كل هذا يجعل من الصعب على الشركات ممارسة مسؤوليتها الاجتماعية.

هنالك المزيد من هذه الأمثلة. إذن هل من المدهش بعد عقود من خضوع السوق لسيطرة الوسطاء الذين يركزون على خفض التكاليف والعوائد المعدلة وفقا لارتفاع المخاطر و«الكفاءة» أن يكون لدينا المزيد من التقلب المالي وتنامي أعطال سلسة التوريد واحترار الكوكب؟

السؤالان الكبيران هما: كيف يمكن تغيير هذا النظام ومن يتحمل تكاليف ذلك؟ لا يوجد حل شافٍ ووافٍ لأي منهما على الرغم من أن التكنولوجيا تقدم فرصا جديدة للربط بين المشترين والبائعين.

ظهور إقراض النظير (تمكين الأفراد من الحصول على قروض من أفراد آخرين مباشرة ودون وساطة مؤسسات مالية - المترجم) وتجارة التجزئة المباشرة للمستهلك والطباعة ثلاثية الأبعاد التي تمكن من تقصير سلاسل التوريد كلها أمثلة لهذه الفرص على الرغم من أيا منها لا يقترب في الوقت الحاضر من الحجم الكافي لدعم الأنظمة المالية أو الصناعية الحالية.

ستشكل السلبية وتحديات التضخم (التي ستدفع ببعض المستهلكين وواضعي السياسات للعودة إلى الأسعار المنخفضة باعتبارها السبيل الوحيد للرفاه) رياحا عكسية قوية ضد التغيير الشامل.

مع ذلك من المهم تذكر أن التغيير يوجد سلفا في بعض المجالات وإن كان يحدث ببطء.

وكما تشير جادج وهي خبيرة بالإجراءات المالية فقد بدأنا لتونا وبعد 15 عاما من أزمات 2008 التفكير في الكيفية التي قاد بها اختراق «طبقات» أنظمة الإقراض إلى بنوك أكثر استقرارا وعددٍ أقل من المستهلكين المدينين.

وتماما كما دفعتنا أزمة الرهونات العقارية الأمريكية (2008-2009) إلى مراجعة تكاليف الوسطاء الماليين قد تضطرَّنا أعطال سلاسل التوريد الحالية إلى حساب التكاليف الحقيقية لخفض أسعار السلع والخدمات الأخرى.

رنا فوروهار مؤلفة أمريكية محررة مشاركة في الفاينانشال تايمز ومعلقة اقتصادية بشبكة «سي أن أن.»

ترجمة خاصة لـ $ عن «الفاينانشال تايمز»