أعمدة

الكويت التي نُحب

 
تحضر الكويت في المخيلة كموطئ غربة وموطن ثروة، إذ كانت «العالي» كما يطلق عليها المهاجرون منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إذ كانت بالنسبة لسكان شبه الجزيرة العربية مكان عمل وأمل لتحسين ظروف العيش والتكسب من العمل، إثر اكتشاف النفط وحاجة الشركات للأيدي العاملة، فصارت الكويت مقصدًا للعمال والمتعلمين.

لم يكن الطريق إلى «العالي» سهلا بالنسبة للعمانيين الذين دخلوا إليها بوثائق سفر متعددة، منها جواز السفر الذي تمنحه حكومة السلطان سعيد بن تيمور، وكان الحصول على الجواز صعبًا نظرًا للشروط التعجيزية التي تفرضها الحكومة، وأيضا كانت إمامة عُمان تمنح وثائق سفر إلى الكويت، وكذلك سلطنة بن عفرار المهري قبل إلغائها عام 1967، إذ كانت جزءا من محمية عدن وتحظى بالحماية البريطانية. ونظرًا لسهولة الحصول على جواز بن عفرار، فقد حمله أهالينا ودخلوا به إلى الكويت وهناك أطلق عليهم المهرة.

يمكن تلمس أثر الهجرات إلى الكويت عن طريق الأدب، ونذكر على سبيل المثال ما كتبه الكاتب الشهيد غسان كنفاني في روايته (رجال تحت الشمس)، حيث حاول ثلاثة مهاجرين الدخول إلى الكويت بواسطة صهريج مياه، وكذلك في مجموعته القصصية (موت السرير رقم 12) التي تحكي عن بطلها العُماني محمد بن علي أكبر، الذي أهدى له كنفاني مجموعته القصصية الأولى وخص بها عائلة محمد علي المقيمة في (أبخا) أي مدينة بخاء في شمال سلطنة عمان، واستقطبت الكويت رموز الثقافة العربية في تلك الفترة منهم غسان كنفاني، ورسام الكاريكاتير ناجي العلي، الذي نجد ملامح وجوده في الكويت في رواية (في حضرة العنقاء والخل الوفي) للروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل.

كانت الكويت في الخمسينيات والستينيات ساحة للأفكار والأيديولوجيات في المنطقة، وخاصة حركة القوميين العرب، التي أسست فرعها في الكويت عبر أحد مؤسسيها المرحوم الدكتور أحمد الخطيب (1927-2022)، وقد تفرعت عن حركة القوميين عدة أحزاب وتنظيمات يسارية واشتراكية، بل وتأسست فيها حركة فتح الفلسطينية، وهنا لسنا بصدد الغوص في تفاصيل الدور الكويتي في دعم حركات التحرر الوطني، ولا الإشعاع الثقافي الذي قدمته المؤسسات الإعلامية مثل مجلة العربي، بل نكتب عن الكويت كما نراها ونزورها.

فالدافع الخفي لكتابة هذا المقال، هو انطباعي الشخصي بعد زيارة خاطفة للكويت استمرت خمسة أيام، كنت في ضيافة الصديق يوسف العنزي (أبو يعقوب)، وهو أحد الأصدقاء الكويتيين المقيم بين الكويت وصلالة والمُحب لسلطنة عمان وشعبها.

تعمدت خلال زيارتي الأخيرة الذهاب إلى ديوانية المرحوم الدكتور أحمد الخطيب، وهناك التقيت بالدكتورة سعاد المعجل مع بعض الأكاديميين والشباب من محبي الخطيب مجايليه، طبعا كان للصديق الكاتب مسعود بيت سعيد، الفضل في تعرّفي على الدكتورة سعاد، التي قدمتني لحضور ديوان الخطيب، وهناك تطرقنا للحديث عن الوضع العربي والدور الشعبي والرسمي للكويت في مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني.

لم يكن مقبولا بالنسبة لي زيارة الكويت دون اللقاء بالصديق ناصر صفر (أبو بدر)، وهو الذي عرّفني على النخب الثقافية والسياسية في الكويت أثناء زيارتي الأولى لها في شتاء 2013، فهذه المرة ذهبنا معًا إلى عدة مكتبات منها مكتبة كلمات ومكتبة صوفيا، واقتنينا منها ما يُغني، وبعدها بليلة التقيت بالشاعر الجميل محمد السالم، الذي أهداني ثلاثية الروائي الراحل ناصر الظفيري، مشددا عليّ بأن اقرأ رواية الصهد التي أشار فيها إلى الوجود العماني في الكويت، وقد اجتمعنا مع مجموعة من النخب المثقفة من أجيال مختلفة في ديوانية الشاعر والكاتب عيد الدويخ، وحضر معنا الشاعر دخيل الخليفة، وسعد الياسري، ومحمد المغربي، ومحمد العتابي، والشاب عبدالله الحسيني. وكحال الديوانيات في الكويت فقد شهدت الجلسة أحاديث شيّقة في مجالات ثقافية وفكرية متنوعة.

إن الزائر للكويت لا تكفيه زيارة خاطفة أو طواف على عجل، بل التريث والانتقال على مهل بين عدة مناطق وحواضر، يمكن أن يُقلل من الاشتياق الأبدي إلى الكويت، التي تحضر على خجل في أعمالنا الأدبية، رغم حضورها الآسر في المخيلة كساحة تفاعل ونضوج للأفكار والوعي.