إشراقات

الحج في القرآن الكريم

تأملات قرآنية

 
إن أكبر تجمع لأداء شعيرة دينية جماعية في مكان واحد على كوكب الأرض بأعمال مشتركة مخصوصة في أيام مخصوصة لا يكون إلا عند المسلمين، وذلك في أداء مناسك الحج، هذه الشعيرة التي هي خامس ركن من أركان الإسلام، فيجتمع ما يزيد عن مليوني شخص في بقعة واحدة وهي الحرم المكي الذي شرفه الله وأعلى مكانته بوجود الكعبة الشريفة، التي رفع قواعدها إبراهيم عليه السلام في قصة ذكر القرآن الكريم تفاصيلها.

ونجد أن هذه الشعيرة حظيت باهتمام بالغ بذكر تفاصيلها وحيثياتها في القرآن الكريم، فنجد أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بأشرف بقعة على هذه الأرض وهي الكعبة الشريفة التي قال الله تعالى فيها في سورة آل عمران: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)» فالكعبة الشريفة بنتها الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام كما تشير كتب التفسير، فهي أول بيت وضع للناس، وأشارت كتب التفسير إلى أن الملائكة كانت تطوف بالكعبة الشريفة قبل خلق آدم عليه السلام، ومن الآيات البينات التي توجد في هذا المكان المقدس الحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السلام، فبعد أن أتم إبراهيم عليه السلام رفع قواعد البيت من جديد بوحي من الله تعالى، أنزل من الجنة الحجر الأسود، وأنزل كذلك الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام، وغاصت رجلاه في الصخر، وهو حجر المقام.

ويحكي القرآن الكريم قصة إعادة بناء الكعبة بيد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وكيف أنهما أخذا يدعوان لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، وطلبا من الله أن يريهما مناسكهما، وذلك في سورة البقرة بقوله: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)».

ولو تتبعنا صفة الحج وشعائره التعبدية لوجدناها مرتبطة ارتباطا وثيقا بسيدنا إبراهيم عليه السلام وعائلته التي اصطفاها الله له والتي امتد نسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلـم، وذلك ظاهر جلي في أمور شتى، فهو امتداد لحج إبراهيم عليه السلام، فالسعي بين الصفا والمروة هو سعي السيدة هاجر زوجة سيدنا إبراهيم وأم سيدنا إسماعيل عليهم السلام، عندما كان ابنها يبكي من العطش وكانت تركض بين جبلي الصفا والمروة لترى إن كان أحد من الناس قد اقترب لتستسقي منه الماء لولدها، ولكن الله فجر بئر زمزم من تحت قدمي سيدنا إسماعيل عليه السلام، فسعيها بين الصفا والمروة أصبح منسكا عند المسلمين من مناسك الحج والعمرة، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ».

كما أن ذبح الهدي من قبل حجاج بيت الله ولعامة المسلمين في عيد الأضحى هو مرتبط بقصة امتثال سيدنا إبراهيم لأمر الله في ذبحه لسيدنا إسماعيل ولكن الله عز وجل جزاء نجاح سيدنا إبراهيم في هذا البلاء، أنزل عليه كبشا من الجنة ليضحي به عن ابنه عليهما السلام، فأصبح من مناسك الحج عند المسلمين، فقال تعالى في سورة البقرة: «وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

وبين القرآن الكريم أن للحج أشهرا معلومات لا يصح الإحرام إلا فيهن فقال تعالى في سورة البقرة: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ» وهذه الأشهر هي شهر شوال وشهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة، على الرغم من أن أغلب المناسك تكون في شهر ذي الحجة، إلا أنه يجوز الإحرام ابتداء من شهر شوال.

كما بين سبحانه وتعالى أن وجود الأشهر القمرية وتغير الأهلة خلقها الله لتكون مواقيت للناس في عباداتهم وحسابهم للسنين، فيعرف الناس شهر الصوم وأشهر الحج وغيرها من أشهر السنة فقال تعالى في سورة البقرة: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

وبين الله تعالى أن للحج منافع كثيرة منها ما يتعلق بالشعائر التعبدية، ومنها ما يتعلق بالمنافع الدنيوية، ومن المعلوم أن موسم الحج هو موسم نشط في التجارة فقال الله تعالى في سورة الحج: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)».

وقد أعلن الله تعالى وأعلم في يوم الحج من أنه بريء من المشركين ورسوله فقال تعالى في سورة التوبة:« وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».