مستقبل الحضارة الغربية (1-4) أفول الحضارات وبزوغها
الثلاثاء / 7 / ذو القعدة / 1443 هـ - 21:42 - الثلاثاء 7 يونيو 2022 21:42
التأملات التي ذكرناها في المقالات السابقة عن مستقبل الحضارة الغربية، تفضي إلى القول إن هذه الحضارة في طريقها إلى الأفول، وأن هذا الأفول سوف يبدأ من مركزها المتمثل في الغرب الأمريكي، وأن هناك حضارات أخرى قد بدأت في النشوء منذ عقود عديدة (مع الأخذ في الاعتبار أن أفول الحضارات وبزوغها قد يستغرق أحيانًا بضعة قرون). فما المعيار الذي يمكن أن نستند إليه في هذا التفسير الذي يدعمه كثير من كبار فلاسفة التاريخ؟ وما موضع الحضارة الإسلامية في هذا المشهد؟
تفقد الحضارة قوتها الحقيقية حينما تفقد طابعها الإنساني، وتميل إلى سياسة العدوان على الدول الأكثر ضعفًا. ولذلك فإن القوة العسكرية ليست معيارًا لتألق الحضارة وتقدمها، خاصة حينما يتم استخدامها، لا من أجل أن تصبح الدولة أو الأمة مرهوبة الجانب، بل من أجل العدوان على الآخرين. هذا بالضبط هو حال الغرب الذي لجأ إلى استخدام القوة العسكرية في نهب ثروات الشعوب واستعبادها، ولكنه قد تجسد بصورة وحشية في الغرب الأمريكي الذي استخدم هذه القوة في ترويع ومحاولة سحق وإخضاع دول أخرى في اليابان وفيتنام والعراق، وغير ذلك مما لا يُحصى. ولو كانت القوة العسكرية معيارًا لتقدم الحضارة وقوتها، لكانت قبائل التتار هي الأكثر تحضرًا من الشعوب التي اجتاحتها.
ولم تكن العولمة بذرائعها التكنولوجية سوى صورة أخرى من صور العدوان الذي مارسه الغرب بقسوة في سعيه إلى استغلال الشعوب. لقد انكشف الآن قناع العولمة باعتبارها مجرد ذريعة للرأسمالية الغربية المتوحشة التي تسعى إلى تطويع العالم واستغلاله باعتباره سوقا لمركزية الغرب على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي. العولمة في الأصل هي نتاج سياسات الغرب في الهيمنة على العالم.
كما أن قوة الحضارة ليست مرهونة بالنظم السياسية. حقًا إن الديمقراطية كانت لها دائمًا فوائد عظيمة في الدول الغربية التي تبنتها حتى في أثينا في عصر القدماء، ولكن بعض الحضارات عبر العصور -حتى في عصرنا الراهن- قد نشأت وازدهرت في ظل نظم غير ديمقراطية: نجد ذلك في أثينا في عهد بركليز التي كانت أوليجاركية، وفي الحضارة الإسلامية في عهد المأمون التي ازدهرت في ظل نظام الخلافة، وفي حضارة الصين الناهضة في عصرنا الراهن على سبيل المثال.
وفي مقابل ذلك، نجد أن ديمقراطية الغرب المزعومة ليست ديمقراطية حقيقية: فهي ديمقراطية فيما يتعلق بالتعامل مع الجنس الأبيض، ولكنها عنصرية فيما يتعلق بالتعامل مع الجنس الأسود حتى من أبناء الوطن نفسه. وهي تدعم إسرائيل وسياساتها العنصرية والتوسعية على حساب الشعب الفلسطيني وشعوب الدول المجاورة، بل إنها تدعم كل السياسات والقرارات التي من شأنها تفتيت وإضعاف الدول العربية لمصلحة إسرائيل.
السؤال الآن: ما موقفنا نحن كأمة عربية في هذا المشهد؟ الأمة العربية هي جزء من حضارة أوسع هي الحضارة الإسلامية التي استطاعت استيعاب كل التنوعات الدينية والعرقية، وهي حضارة لا تزال في مرحلة سكون، وإن كانت هناك بقاع مضيئة أو ناهضة في هذه الأمة الإسلامية، خاصةً في ماليزيا، ربما بسبب قرابتها الجغرافية من موجات تأثير الحضارة الناهضة في جنوب شرق آسيا منذ عقود عديدة. ولا سبيل أمام نهضة أو صحوة الأمة العربية سوى أن تشارك في صنع الحضارة. وهذا يقتضي رصد المشهد الراهن، واستدعاء القوى التي تصنع الحضارة، لا من خلال القطيعة مع هذا العالم، وإنما من خلال توظيف عوامل نشأة الحضارات، وعلى رأسها إتاحة الشروط المهيئة للإبداع على الأصعدة كافة. فالإبداع يعني استيعاب المغاير وهضمه، من أجل إيجاد شيء جديد يكشف عن شخصية المبدع، ويحقق وجوده بأن يفسح موضعًا لقدم راسخ له في هذا العالم الجديد الذي نحيا فيه. ولقد كان هذا حال كل الحضارات الناهضة فيما مضى، وهو أيضًا حال الحضارات التي نهضت في عصرنا الراهن. ويكفي أن نتأمل في هذا الصدد التجربة اليابانية التي قامت في البداية على رصد ومسح كل ترسانة الغرب للاستفادة من جوانب القوة فيها، ومعرفة جوانب الضعف التي يمكن تجاوزها على المسارات كافة: الصناعية والاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والتعليمية، إلخ. كما يكفي أن نتأمل هنا حال اليابان منذ عهد ليس ببعيد، حينما تأملت تجربة النهضة المصرية في عصر محمد علي التي سرعان ما أجهضها الغرب: فقد بعثت الحكومة اليابانية وفودًا متعاقبة في ذلك العهد من أجل التعرف على تجربة النهضة المصرية. فانظر الآن أين نحن من التجربة اليابانية!
إن التجربة اليابانية تقدم المثل الأعلى لدول العالم التي تريد أن تلحق بركب العصر، وأن تحافظ على هويتها في الوقت ذاته. ولم يكن التقدم الياباني (كما يلاحظ مؤلف كتاب «المعجزة اليابانية») محصورًا في مجال الصناعة والتكنولوجيا التي أصبحت صادراتها تهدد الصناعات الأمريكية بقوة في عقر دارها، بل إن هذا التطور المستمر يمتد إلى مجال الثقافة والتعليم: كتعلم الموسيقى والفنون واللغات الأجنبية. ولقد بلغ تطور التعليم حدًا بلغ أن الدارسين اليابانيين الذين يلتحقون بالجامعات الأمريكية لا يجدون إلا القليل مما يمكن إضافته إلى معارفهم الأصلية!
ومع أهمية كل ما تقدم ذكره، فإنه ينبغي التأكيد على أن مجال الثقافة والقيم لا يقل أهمية وخطورة عن مجال العلم والتكنولوجيا، بل ربما يكون المجال الأول هو الأقدر على ترسيخ هوية البشر وتأكيد خصوصيتهم. والمدخل إلى ذلك كله إنما يكون من خلال التعليم الذي ينبغي أن تستثمر فيه الدول أعظم طاقاتها.
سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»
تفقد الحضارة قوتها الحقيقية حينما تفقد طابعها الإنساني، وتميل إلى سياسة العدوان على الدول الأكثر ضعفًا. ولذلك فإن القوة العسكرية ليست معيارًا لتألق الحضارة وتقدمها، خاصة حينما يتم استخدامها، لا من أجل أن تصبح الدولة أو الأمة مرهوبة الجانب، بل من أجل العدوان على الآخرين. هذا بالضبط هو حال الغرب الذي لجأ إلى استخدام القوة العسكرية في نهب ثروات الشعوب واستعبادها، ولكنه قد تجسد بصورة وحشية في الغرب الأمريكي الذي استخدم هذه القوة في ترويع ومحاولة سحق وإخضاع دول أخرى في اليابان وفيتنام والعراق، وغير ذلك مما لا يُحصى. ولو كانت القوة العسكرية معيارًا لتقدم الحضارة وقوتها، لكانت قبائل التتار هي الأكثر تحضرًا من الشعوب التي اجتاحتها.
ولم تكن العولمة بذرائعها التكنولوجية سوى صورة أخرى من صور العدوان الذي مارسه الغرب بقسوة في سعيه إلى استغلال الشعوب. لقد انكشف الآن قناع العولمة باعتبارها مجرد ذريعة للرأسمالية الغربية المتوحشة التي تسعى إلى تطويع العالم واستغلاله باعتباره سوقا لمركزية الغرب على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي. العولمة في الأصل هي نتاج سياسات الغرب في الهيمنة على العالم.
كما أن قوة الحضارة ليست مرهونة بالنظم السياسية. حقًا إن الديمقراطية كانت لها دائمًا فوائد عظيمة في الدول الغربية التي تبنتها حتى في أثينا في عصر القدماء، ولكن بعض الحضارات عبر العصور -حتى في عصرنا الراهن- قد نشأت وازدهرت في ظل نظم غير ديمقراطية: نجد ذلك في أثينا في عهد بركليز التي كانت أوليجاركية، وفي الحضارة الإسلامية في عهد المأمون التي ازدهرت في ظل نظام الخلافة، وفي حضارة الصين الناهضة في عصرنا الراهن على سبيل المثال.
وفي مقابل ذلك، نجد أن ديمقراطية الغرب المزعومة ليست ديمقراطية حقيقية: فهي ديمقراطية فيما يتعلق بالتعامل مع الجنس الأبيض، ولكنها عنصرية فيما يتعلق بالتعامل مع الجنس الأسود حتى من أبناء الوطن نفسه. وهي تدعم إسرائيل وسياساتها العنصرية والتوسعية على حساب الشعب الفلسطيني وشعوب الدول المجاورة، بل إنها تدعم كل السياسات والقرارات التي من شأنها تفتيت وإضعاف الدول العربية لمصلحة إسرائيل.
السؤال الآن: ما موقفنا نحن كأمة عربية في هذا المشهد؟ الأمة العربية هي جزء من حضارة أوسع هي الحضارة الإسلامية التي استطاعت استيعاب كل التنوعات الدينية والعرقية، وهي حضارة لا تزال في مرحلة سكون، وإن كانت هناك بقاع مضيئة أو ناهضة في هذه الأمة الإسلامية، خاصةً في ماليزيا، ربما بسبب قرابتها الجغرافية من موجات تأثير الحضارة الناهضة في جنوب شرق آسيا منذ عقود عديدة. ولا سبيل أمام نهضة أو صحوة الأمة العربية سوى أن تشارك في صنع الحضارة. وهذا يقتضي رصد المشهد الراهن، واستدعاء القوى التي تصنع الحضارة، لا من خلال القطيعة مع هذا العالم، وإنما من خلال توظيف عوامل نشأة الحضارات، وعلى رأسها إتاحة الشروط المهيئة للإبداع على الأصعدة كافة. فالإبداع يعني استيعاب المغاير وهضمه، من أجل إيجاد شيء جديد يكشف عن شخصية المبدع، ويحقق وجوده بأن يفسح موضعًا لقدم راسخ له في هذا العالم الجديد الذي نحيا فيه. ولقد كان هذا حال كل الحضارات الناهضة فيما مضى، وهو أيضًا حال الحضارات التي نهضت في عصرنا الراهن. ويكفي أن نتأمل في هذا الصدد التجربة اليابانية التي قامت في البداية على رصد ومسح كل ترسانة الغرب للاستفادة من جوانب القوة فيها، ومعرفة جوانب الضعف التي يمكن تجاوزها على المسارات كافة: الصناعية والاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والتعليمية، إلخ. كما يكفي أن نتأمل هنا حال اليابان منذ عهد ليس ببعيد، حينما تأملت تجربة النهضة المصرية في عصر محمد علي التي سرعان ما أجهضها الغرب: فقد بعثت الحكومة اليابانية وفودًا متعاقبة في ذلك العهد من أجل التعرف على تجربة النهضة المصرية. فانظر الآن أين نحن من التجربة اليابانية!
إن التجربة اليابانية تقدم المثل الأعلى لدول العالم التي تريد أن تلحق بركب العصر، وأن تحافظ على هويتها في الوقت ذاته. ولم يكن التقدم الياباني (كما يلاحظ مؤلف كتاب «المعجزة اليابانية») محصورًا في مجال الصناعة والتكنولوجيا التي أصبحت صادراتها تهدد الصناعات الأمريكية بقوة في عقر دارها، بل إن هذا التطور المستمر يمتد إلى مجال الثقافة والتعليم: كتعلم الموسيقى والفنون واللغات الأجنبية. ولقد بلغ تطور التعليم حدًا بلغ أن الدارسين اليابانيين الذين يلتحقون بالجامعات الأمريكية لا يجدون إلا القليل مما يمكن إضافته إلى معارفهم الأصلية!
ومع أهمية كل ما تقدم ذكره، فإنه ينبغي التأكيد على أن مجال الثقافة والقيم لا يقل أهمية وخطورة عن مجال العلم والتكنولوجيا، بل ربما يكون المجال الأول هو الأقدر على ترسيخ هوية البشر وتأكيد خصوصيتهم. والمدخل إلى ذلك كله إنما يكون من خلال التعليم الذي ينبغي أن تستثمر فيه الدول أعظم طاقاتها.
سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»