أسماء المترجمين العرب تتعرض لعملية إخفاء !
يرفعونها من الأغلفة ويزيحونها إلى الصفحات الداخلية
الثلاثاء / 7 / ذو القعدة / 1443 هـ - 20:16 - الثلاثاء 7 يونيو 2022 20:16
ثائر ديب: لا بد أن يشكل المترجمون نقابة تحميهم -
محمد عبد النبي: الكتاب لا بد أن يكون هو النَجم.. لا الكاتب أو المُترجِم -
لمياء المقدم: هناك ضرورة لميثاق شرف يحمي المهنة -
أحمد شافعي: هناك مترجمون يقبلون هذه السياسة لأن أعينهم مكسورة -
محمد آيت حنا: حجب اسم المترجم مصادرة لحق القارئ في الاختيار -
ريم نجمي: المترجم الفوري يحصل في أيامٍ على ما نجنيه في شهور -
ما يزال المترجمون الحلقة الأضعف، في مجال الترجمة. تخيَّلوا. «جينفر كروفت» وهي واحدة من أهم المترجمين الأمريكيين تشكو من أن اسمها لا يوضع على الغلاف الخارجي لترجماتها. جينفر التي كانت سبباً رئيسياً في حصول البولندية أولجا توكارتشوك على جائزة مان بوكر عن روايتها «Flights»، ثم فوزها فيما بعد بجائزة نوبل قالت لـ«نيويورك تايمز» إنها لن تقبل التعاقد على أي ترجمة إلا بشرط كتابة اسمها على الغلاف الخارجي. قصة جينفر نبه إليها مؤخراً المترجم المصري ماهر البطوطي على «فيسبوك» في إطار التأكيد على أن المترجمين العرب أكثر حظاً من مترجمي الغرب، لكن ما قاله البطوطي لا يعني أن جميع دور النشر العربية تضع اسم المترجم على الغلاف، فحتى الآن يزيحه بعضها إلى الصفحة الداخلية وأحياناً إلى «الترويسة»، كما أن بعض دور النشر تضعه على الغلاف بحجم صغير للغاية يحتاج معه إلى عدسة مكبرة لقراءتها، وهكذا فإن مشاكل المترجمين كما يتحدثون هم أنفسهم لـ«عمان» تبدأ من إخفاء أسمائهم قسرياً.
المترجم المغربي محمد آيت حنا تعرض للأمر مرة واحدة، إذ فوجئ بإحدى الدور تخبره بعدم نشر اسمه على الغلاف، فرفض، ولم يكن السبب الوحيد لعدم إتمام التعامل معها، لكنه اعتبره حجة كافية.
آيت حنا يرى أن المسألة معقدة شيئا ما وترتبط في اعتقاده ببُعدين أساسيين، البُعد الأول هو التقليد المتبع داخل ثقافة ما، ومن طرف ناشر ما، خاصة إذا ما كان ناشرا عريقا. والبُعد الثاني يرتبط بوضع الترجمة العام داخل لغة ما، وما يترتب عليه من حقوق للقارئ. يعلق: «بالنسبة للبعد الأول نرى ثقافات عريقة في النشر والكتاب، ودورا راسخة في الترجمة والنشر، كحال الدور الفرنسية لا تضع عادة اسم المترجم على الغلاف. لكن بالنسبة لها هذا تقليد، ليس فيه من تمييز أو تمايز. المشكلة مع بعض الناشرين العرب، هو أنهم لا يتبعون تقليداً أو شكلاً راسخاً في التعامل مع اسم المترجم، فتراهم أحياناً يكتبونه وأحياناً يغفلونه، والكتابة والإغفال هنا غالباً لا تتم عشوائياً، إنما عن نية مبيَّتة تجاه القارئ. فلك أن ترى كيف أن نفس الدار تطبع للمؤلف نفسه عديد الكتب، فتضع على بعضها اسم المترجم وعلى بعضها الآخر تغفله. ولنا مثل في حالة المرحوم سامي الدروبي، وكيف أن دور النشر تضع اسمه على أعمال دوستويفسكي، وتغفل اسم المترجم إن كان مترجماً غيره. هذا يعني أن دار النشر واعية بأن اسم الدروبي عامل جوهري في بيع كتب دوستويفسكي».
ينتقل آيت حنا إلى البُعد الثاني المتعلق بحال الترجمة، مؤكداً أننا «أدرى بوضعية ثقافتنا ونعلم أن الترجمة ليست حقاً بخير، وأن ثمة تمايزات وصدوعاً داخل نسيجها العام. ثمة فروقات أكيدة بين المترجمين، فروقات ساهمت في تشكل وعي القراء تجاه فعل الترجمة، بحيث صارت للقراء قوائم مترجميهم المفضلين، كما مؤلفيهم. وحين تقدم دار النشر على إخفاء اسم المترجم، وبيع الكتاب مغلفاً، فإنما تصادر حق القارئ في الاختيار»، لافتاً إلى ضرورة أن ينتبه المترجم إلى البند المتعلق بكتابة اسمه على الغلاف، ويعمل على توضيحه في العقد.
ليست تلك هي المسألة الملحة الوحيدة بالنسبة للمترجم فهناك على سبيل المثال قضية تفاوت أسعار الترجمة وأجور المترجمين وغيرها.. فما المشكلة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لآيت حنا؟ يجيب: «ثمة أيضاً الجانب المرتبط بتفاوت جودة الترجمات، ومدى اضطرار الناشر إلى الاستعانة بخدمات مراجعين ومحررين. عموماً حقوق المترجم العربي المادية أقل بكثير من نظيرتها في دول أخرى، لكنها ليست مأساوية. الفراغ القانوني المؤطر لعلاقة الناشر بالمترجم، ربما يظل هو النقطة الأكثر إلحاحاً. لكن على العموم أشدد على العلاقة الودية بين المترجم وناشره، وهي حالي مع معظم الناشرين الذين أشتغل معهم. ويظل التأكيد على وضع عقود والاتفاق على بنودها قبل الشروع في الترجمة أمراً مهماً، خاصة للمبتدئين من المترجمين».
محاكاة الغرب
أما المترجم السوري ثائر ديب فلم يسبق أن رفضت إحدى دور النشر وضع اسمه كمترجم على الغلاف. يقول: «لو تعرّضت لذلك لرفضتُ وأصررتُ على ظهور الاسم واضحاً. وذلك تأكيداً مني على أهمية عمل المترجم. ومع أن وضع اسم المترجم على الغلاف الداخلي للكتاب وحجبه عن الغلاف الأساس هو نوع من التقليد في بعض الثقافات الأوروبية وثقافات أخرى تحاكيها، وهو أمر ناجم عن الهامشية النسبية للترجمة في هذه الثقافات التي يُتَرْجَم منها أكثر بكثير مما يُتَرجَم إليها، فإن محاكاة هذه الثقافات في هذا الأمر تبقى غير ضرورية وغير صحيحة بالمرة، ناهيك عن أن اسم المترجم لا يُحجب كلية، بل يظهر على الغلاف الداخلي ويبقى حاضراً وموجوداً في النهاية»
وإذا ما كان ثائر يتفهم احتياج المترجم، لا سيما المبتدئ، إلى سبل العيش، ويتفهم، تالياً، موافقته على أشياء تحطّ من قدر عمله، فإنه يُبقي على دعوته المترجمين إلى رفض تجاهل أسمائهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ويرى أنَّ السير باتجاه حلّ أمثل لتلك المشكلة وسواها من مشاكل المترجمين تكون بتضامنهم على مستويات مختلفة، وصولاً إلى تشكيلهم اتحادات ونقابات تدافع عنهم وتفرض شروطهم، فضلاً عن رسمها ملامح التقويم السليم لعملهم ولنوعيته، ما يحول دون تطفّل بعض الدخلاء.
مهنة خطرة
المترجمة الأردنية نوال العلي تسرد حكايتين دالتين، الأولى جرت عام 1991، إذ قتل المترجم هيتوشي إيغارشاي لأنه نقل «آيات شيطانية» لسلمان رشدي إلى اليابانية، والثانية في القرن الـ16 حيث أعدم وليام تينديل لأنه ترجم الإنجيل إلى الإنجليزية. تعلق: «إذن كما ترى يمكن للترجمة أن تكون مهنة خطرة مثلها مثل الكتابة. اليوم قد يأخذ قتل المترجم أشكالًا رمزية، منها تجاهل اسمه لدى عرض الكتاب وهذا شائع في صحافتنا، وحين يقرر الناشر أن يخفي هويته، فلا يوجد أي مبرر لذلك إلا إن كان المترجم روبوتاً أو تطبيقاً إلكترونياً في أسوأ الأحوال. وربما يختار المترجم نفسه عدم وضع اسمه بسبب طبيعة الكتاب، وهذا شأن آخر».
اسم المترجم معيار قياسي لدى نوال العلي، وقد تختار كتبًا أحيانًا فقط لثقتها في خيارات المترجم الذي يعلن اسمه بدوره متحملًا مسؤولية العمل. أيًا كان الأمر، وتخلص إلى أنه من غير المقبول أن لا يكون اسم المترجم على الغلاف في مكان واضح لا يقل عن اسم المؤلف نفسه، معلقة: «ليس كما تفعل دار الساقي أحيانًا، كأنك تحتاج عدسة مكبرة لقراءة الاسم»!
وتقول: «شخصياً لديَّ تجارب كصحفية في صعوبة الوصول إلى المترجمين أو معرفة أسمائهم، مثلًا حاولت معرفة اسم المترجم لأحد الكتب الصادرة عن «جروس»، فوجئت بأن الأمر ليس سهلًا، وأخذ وقتًا وجهدًا إلى أن عرفته وحاورته عبر الدار وليس مباشرة. أحيانًا شككت في أن أسماء المترجمين وهمية، مثلًا ثمة مترجمة تصدر كل فترة عملًا لحنة آرنت، حاولت العثور على طريقة للتواصل معها لمحاورتها، زودتني الدار بإيميل فقط ولم يجب عليه أحد، وفتشت عنها كأكاديمية كونها تُقدَّم بحرف دال يسبق اسمها وفي السوشال ميديا وبين أوساط مترجمي الفكر الألماني ولكن بلا طائل».
خسارة الناشر
من جهته يؤكد المترجم المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس أن وضع اسم المترجم على الغلاف هو إحدى الإيجابيات التي يحسدنا عليها المترجمون في الغرب، ويرى أن اسم المترجم على الغلاف مهم، خاصة مع تفاوت مهارات المترجمين، فكثير من القراء في العالم العربي يشترون الترجمة لثقتهم في ذائقة المترجم وجودة ترجمته، أي أن الناشر هو الخاسر في هذه الحالة عندما يغفل اسم المترجم على الغلاف.
كل الأعمال التي ترجمها جريس صدرت باسمه على الغلاف، ما عدا أربعة أعمال (من بين ثلاثين)، ثلاث ترجمات لدى دار «الكرمة» وهي: «الوعد»، و«تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين»، و«حلم»، وترجمة واحدة لدى شركة المطبوعات اللبنانية «حياة». كلتا الدارين حجتهما واحدة، وهي أنهما تتبعان تقاليد دور النشر الغربية التي لا تضع اسم المترجم على الغلاف، بل على الصفحة الأولى الداخلية. وقد كان له نقاش طويل حول هذا الأمر مع الدارين، وقَبِل رأيهما وإنْ لم يقتنع به. مع الإشارة إلى أن كلتا الدارين كانتا حريصتين على ذكر اسمه على الغلاف الخلفي الذي يضم نبذة عن العمل.
البعض يرى في عدم وضع اسم المترجم على الغلاف إهانة له، وتحقيراً لدوره، كان جريس يرى في ذلك مبالغة شديدة. يقول: «هناك أشياء أخرى أهم من وضع اسم المترجم على الغلاف، منها التعاقد المنصف، والمكافأة الجيدة، ووجود محرر على تفاهم مع المترجم في الدار، وأيضاً المراجعة اللغوية المتقنة، ثم الرجوع للمترجم في أي تغيير، مهما كان بسيطاً، قبل الطبع. هذه الأشياء بالنسبة لي أهم من وضع اسمي بالبنط العريض على الغلاف. وكم من ترجمات يخجل المترجم من وضع اسمه على غلافها، لأن مراجعاً أجرى تغييرات كثيرة، خاطئة، دون الرجوع إلى المترجم، أو لأن الترجمة تنشر وهي حافلة بالأخطاء الطباعية أو الهفوات التي يستطيع أي مراجع محترف تصحيحها».
ترجمات لقيطة
أما المترجم المغربي رشيد وحتي فيقول إنه لم يسبق له أن أبخسه ناشرٌ حقه الرمزي. يتساءل: «كيف لنا، مثلاً، أن نَفْصِلَ الترجمة الإنجليزية لرباعيات الخيام عن اسم فيتزجيرالد؟ كيف لنا أن نقرأ ترجمة عربية لنفس الرباعيات بغلاف يهمل، عنوةً، وضع اسم أحمد رامي أو أحمد صدقي الزهاوي أو عبد الحق فاضل أو جلال زنكبادي؟ النصوص تُبْعَثُ، تعيش حياةً ثانيةً، عبرَ ترجمتها، فعجباً لناشر يحاول رمزياً قتل باعثي الروح من جديد في روائع التراث الإنساني.. تنضاف إلى هذه الظاهرة غير الصحية ظاهرة الترجمات التجارية «اللقيطة»، الغُفْل من اسم المترجِم(ين)، التي لا أب لها، أو لها أكثر من أب، عبر إسنادها لمجموعة من الأشخاص في اشتغال جماعي متنافر ورديء، خارج كل إطار مِهَني».
إحساس غير جيد
المترجم المصري المقيم في ألمانيا أحمد فاروق ترجم عملين وصدرا عن دار «الجمل» التي وضعت اسمه وفقاً لسياستها في الصفحة الداخلية، والروايتان هما «خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء» لبيتر هاندكه، و«سنوات الكلاب» لغونتر غراس. يقول: «كانتا أول ترجمتين فلم أتحسس من الموضوع، كمترجم ينشر لأول مرة». تكرر ذلك مرة ثالثة مع دار المطبوعات التي لا تضع اسم المترجم على الغلاف ولا حتى على الغلاف الداخلي وإنما في الترويسة الخاصة ببيانات الكتاب كما حدث حينما أصدر ترجمته لرواية أويغن روغه «عند تلاشي الضوء». يقول: «لم أعترض لأنها سياسة الدار، لكن الإحساس لم يكن لطيفا. وجود اسم المترجم على الغلاف هو امتياز عظيم نتمتع به في العالم العربي ويحاول مترجمو الأدب في أوروبا وأمريكا إقناع دور النشر بتطبيقه. ولا يحدث ذلك هناك إلا في حالات نادرة. وأعتقد أننا يجب أن نتمسك بهذا التقليد الرائع في العالم العربي».
المشكلة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لأحمد فاروق هي عدم التناسب بين الوقت والجهد المبذول في ترجمة الأعمال الأدبية بالذات، وبين الأجور المدفوعة. يقول: «لحسن الحظ توجد بعض برامج الدعم للغة مثل الألمانية، ولكنها غير كافية، ولا يحصل عليها المترجم دائما بشكل كامل. والمؤسسات الداعمة للترجمة والتي تدفع أجوراً جيدة نسبياً للمترجمين تمارس رقابة أخلاقية على الترجمة».
مقارنة غير منصفة
المترجمة المغربية المقيمة في ألمانيا ريم نجمي لم تتعرض لهذا الموقف، إذ أن جميع الأعمال التي ترجمتها وضعت فيها دور النشر اسمها على الغلاف، لكن – تقول بحكم احتكاكها بسوق النشر في ألمانيا- المعتاد أن لا يحمل الغلاف اسم المترجم ونجده في الغالب داخل الكتاب وأحياناً ببنط صغير بالكاد يُقرأ، وربما لذلك ليست لديها حساسية كبيرة في هذا الاتجاه. تعلق: «غير أني في الوقت نفسه أجد المقارنة هنا غير منصفة للمترجم في العالم العربي بالنظر إلى واقع المكافآت الضئيلة مقارنة بزميله المترجم في ألمانيا أو دول أوروبية، وبالتالي يعتبر هذا التقدير المعنوي مشروعا إذا تمسك به المترجم العربي، خاصة وأن أسماء بعض المترجمين أصبحت علامة جودة أدبية، مثل اسم صالح علماني بالنسبة لي، وهناك قراء يقبلون على شراء أعمال مترجم معين يشهد له لا فقط بجودة الترجمة وإنما بذائقته في اختيار أعمال مميزة تستحق القراءة».
القضية الأكثر إلحاحا بالنسبة لريم نجمي هي التقدير المالي، خاصة بالنسبة للعرب الذين يعيشون في الخارج: «لا أخفيك أمرًا محزناً، أن المكافأة التي قد يحصل عليها المترجم بعد شهور من ترجمة كتاب، قد يحصل عليها مترجم فوري في أيام عمل في فعالية أو مؤتمر. وهو ما يجعل الترجمة الأدبية عملا يحتاج إلى الكثير من الحب والتضحية للقيام به، ونحن في أمسِّ الاحتياج إلى حلول في هذا الاتجاه كدعم مؤسسات ثقافية دولية للمترجم».
الاسترزاق من الترجمة
من جهتها تقول المترجمة التونسية لمياء المقدم إنها لم تتعرض للتجربة، لكن في كل مرة توقع عقدا تشترط أن يكون اسمها على الغلاف الخارجي، لكنها لا تستطيع الحكم على المترجمين الآخرين أو أن تطلب منهم أن يحذوا حذوها. تقول: «هناك من يسترزق من الترجمة ويعيل أسرة وبالتالي فالضغوطات كبيرة. في رأيي المسألة برمتها تتعلق بمدى مهنية دور النشر والتزامها بأخلاقيات العمل. الترجمة عمل أدبي مستقل بذاته وشغل شاق لا يجب على دور النشر التقليل منه أو من شأن المترجمين. وكما لا يمكن أن يصدر كتاب من دون أن يكون اسم مؤلفه عليه، لا يجب أن تصدر ترجمة من دون أن يكون اسم مترجمها عليها. هذه بديهيات في رأيي وساراماغو يقول: يكتب الكتاب آدابا محلية يحوِّلها المترجمون إلى آداب عالمية. إخفاء اسم المترجم من غلاف الكتاب يعكس وجهة نظر خاطئة مفادها أن دور المؤلف أهم من دور المترجم، وهذا ليس صحيحاً وحجتنا في ذلك إدغار ألان بو، فلم يُعترف به كشاعر مهم إلا بعد أن ترجمه بودلير».
لمياء المقدم تقترح أن يكون هناك ميثاق شرف يحمي المهنة وحقوق دور النشر والمترجمين على حد سواء، ويكون ملزماً لكل من يمارس الترجمة في جميع ميادينها، ولا بد أن يتضمن بنوداً كفيلة بسحب التراخيص من دور النشر التي تخل بهذا الميثاق. وتلفت الانتباه إلى أنه سيكون من المفيد جداً إيجاد فرع نقابي يمثل المترجمين ويدافع عن مصالحهم، كما تشير إلى قضية أخرى تتعلق بأجور المترجمين الكارثية: «هناك دور نشر كثيرة تترجم الكتب الأجنبية فقط من أجل الحصول على المنح التي تقدمها صناديق دعم الترجمة في البلد الأصلي للكتاب. هذه المنح هي في الأصل موجهة للمترجم لكن بعض الناشرين يستحوذون عليها ويمنحون المترجم جزءاً بسيطاً منها. عن نفسي لا يمكن أن أترجم تحت هذه الظروف، ولا أتعاقد إلا مع من يحترم الترجمة والمترجمين ويحترم جهدهم وحقوقهم، ولحسن الحظ توجد دور نشر تتعامل بأسلوب حضاري معنا، لكن من باب الأمانة ولإكمال الصورة أشير إلى أن الكتاب الذي يحصل مترجمه على أجر عال يُباع بسعر مرتفع، وبذلك تبقى المعضلة في كيفية الموازنة بين أجر المترجم وسعر الكتاب».
احترام الخيارات
المترجم المصري محمد عبد النبي تعرض لهذه التجربة أكثر من مرة، وتعامل معها بطريقة عادية تمامًا، فالقضية بالنسبة له هي سياسة دار نشر، وكثير من دور النشر بالخارج لا تحرص على كتابة اسم المترجم على الغلاف، إلَّا للضرورة كأن تكون هناك أكثر من ترجمة سابقة معروفة لنص كلاسيكي أو أن يكون المترجم مفكرًا أو كاتبًا مهمًا ووجود اسمه على النص كفيل بأن يسهم في الترويج له باعتباره تجربة إبداعية متكاملة وليس مجرد ترجمة لنص. يعلق: «ما دمتُ رضيت التعامُل مع إحدى دور النشر كمُترجم فلا بدّ أن أحترم خياراتها التحريرية، ما دامت حقوقي مكفولة وسيعرف كل شخص سيقلب الكتاب بين يديه أو حتى يقرأ عنه إعلانا أنني من قمت بترجمته ولن يُنسَب الفضل في ذلك لأحد غيري لا سمحَ الله. رأيي أن الكتاب لا بد أن يكون هو النَجم، لا الكاتب ولا المُترجِم، لأننا نرى كتباً كثيرة تباع الآن بكثرة لمجرد وجود اسم كاتبها وربما مترجمها على الغلاف، وهناك مترجمون يعرف كل الناس أسماءهم ولا يعرفون لمَن يترجمون ولا عمّ تتكلم تلك الكتب. المهم الضجيج وخلاص».
لا نتحدث عن «أفيش»
المترجم المصري أحمد شافعي تعرض بدوره للتعامل مع ناشر يعلم أنه يتبع هذه السياسة الغريبة، فأوضح رفضه لها بداية، فوافق الناشر على استثنائه دونما حاجة إلى نقاش أصلا. يحكي: «قدم لي الناشر، وهو من أعرق الناشرين العرب، تفسيرا لاتباعه هذه السياسة يؤسفني القول إنه وجيه. قال إن الدار تبذل جهدا لإصلاح أغلب الترجمات بما يجعلها تتحرج من نسبتها لاحقاً إلى مترجميها، لأن عملهم فيها مدين ديناً ثقيلاً لعمل كثيرين غيرهم، فتزيح الدار اسم المترجم إلى ستر الصفحات الداخلية».
ويقول: «بعض الناشرين يؤكدون أنهم يتبعون تقاليد النشر الغربي. طيب، أحب أن أقول لهؤلاء إن السياسة في الغرب نفسه باتت كريهة ومرفوضة، ففي سبتمبر الماضي وقع أكثر من مائة كاتب رسالة مفتوحة قالوا فيها إنهم سيطالبون في عقودهم بأن يضمن الناشرون عند ترجمة أعمالهم أن يظهر اسم المترجم على الغلاف الأمامي. وصدقني، أنا، على المستوى الشخصي، لا أبحث عن مجد، ثم إننا لا نتحدث عن أفيش مثلا يراه القاصي والداني، بل محض غلاف لكتاب تطبع منه بضعة آلاف نسخة في أفضل الحالات، فأي مجد في هذا؟ أي مجد في الأدب كله اليوم؟ نحن محبوسون في فقاعة لا يرانا أحد، هذه سياسة خاطئة، ولا أعرف ما المكسب الذي يتحقق من اتباعها».
قبل أيام كان شافعي يبحث عن كتاب على موقع إلكتروني لبيع الكتب، ولم يجد اسم المترجم على غلافه، فلم يشتر الكتاب طبعاً، لأنه بحسب التعبير الدارج لا يشتري «سمك في ميَّه» ، ولا يمكن أن يشتري كتاباً لا يثق في مترجمه. يقول: «أنا بالطبع أتعاطف مع من يفعل أي شيء تحت ضغط الحاجة، ما دام الشيء مشروعاً طبعاً. لكنني أعتقد أن بعض المترجمين الذين يقبلون هذه السياسة يقبلونها لأن أعينهم مكسورة، لأنهم عراة أمام محرري هذه الدور الذين يصححون أخطاءهم المخجلة في الفهم وفي الصياغة، ويقوّمون اعوجاج ترجماتهم، ويشاركونهم في التستر على جرائمهم. لكن المترجم المسؤول منفرداً عن ترجمته لا يجب أن يقبل بهذا».
ويختم حديثه: «مشاكل الترجمة هي مشاكل العرب عموماً في هذه اللحظة. تقريباً ليس لدينا أي شيء من طراز رفيع، إلا فلتات. الجودة لدينا شذوذ، وطفرة، لأننا بوضوح في عصر انحطاط. طبيعي أن تجد أغلب ناشرينا جهلة وتجاراً، وأغلب مترجمينا مرتزقة وغير مؤهلين، وأغلب قرائنا مدعون لا يميزون الجيد من الخبيث. وحينما نخرج من عصر الظلام هذا، سنخرج وقد صار كل شيء أفضل».
محمد عبد النبي: الكتاب لا بد أن يكون هو النَجم.. لا الكاتب أو المُترجِم -
لمياء المقدم: هناك ضرورة لميثاق شرف يحمي المهنة -
أحمد شافعي: هناك مترجمون يقبلون هذه السياسة لأن أعينهم مكسورة -
محمد آيت حنا: حجب اسم المترجم مصادرة لحق القارئ في الاختيار -
ريم نجمي: المترجم الفوري يحصل في أيامٍ على ما نجنيه في شهور -
ما يزال المترجمون الحلقة الأضعف، في مجال الترجمة. تخيَّلوا. «جينفر كروفت» وهي واحدة من أهم المترجمين الأمريكيين تشكو من أن اسمها لا يوضع على الغلاف الخارجي لترجماتها. جينفر التي كانت سبباً رئيسياً في حصول البولندية أولجا توكارتشوك على جائزة مان بوكر عن روايتها «Flights»، ثم فوزها فيما بعد بجائزة نوبل قالت لـ«نيويورك تايمز» إنها لن تقبل التعاقد على أي ترجمة إلا بشرط كتابة اسمها على الغلاف الخارجي. قصة جينفر نبه إليها مؤخراً المترجم المصري ماهر البطوطي على «فيسبوك» في إطار التأكيد على أن المترجمين العرب أكثر حظاً من مترجمي الغرب، لكن ما قاله البطوطي لا يعني أن جميع دور النشر العربية تضع اسم المترجم على الغلاف، فحتى الآن يزيحه بعضها إلى الصفحة الداخلية وأحياناً إلى «الترويسة»، كما أن بعض دور النشر تضعه على الغلاف بحجم صغير للغاية يحتاج معه إلى عدسة مكبرة لقراءتها، وهكذا فإن مشاكل المترجمين كما يتحدثون هم أنفسهم لـ«عمان» تبدأ من إخفاء أسمائهم قسرياً.
المترجم المغربي محمد آيت حنا تعرض للأمر مرة واحدة، إذ فوجئ بإحدى الدور تخبره بعدم نشر اسمه على الغلاف، فرفض، ولم يكن السبب الوحيد لعدم إتمام التعامل معها، لكنه اعتبره حجة كافية.
آيت حنا يرى أن المسألة معقدة شيئا ما وترتبط في اعتقاده ببُعدين أساسيين، البُعد الأول هو التقليد المتبع داخل ثقافة ما، ومن طرف ناشر ما، خاصة إذا ما كان ناشرا عريقا. والبُعد الثاني يرتبط بوضع الترجمة العام داخل لغة ما، وما يترتب عليه من حقوق للقارئ. يعلق: «بالنسبة للبعد الأول نرى ثقافات عريقة في النشر والكتاب، ودورا راسخة في الترجمة والنشر، كحال الدور الفرنسية لا تضع عادة اسم المترجم على الغلاف. لكن بالنسبة لها هذا تقليد، ليس فيه من تمييز أو تمايز. المشكلة مع بعض الناشرين العرب، هو أنهم لا يتبعون تقليداً أو شكلاً راسخاً في التعامل مع اسم المترجم، فتراهم أحياناً يكتبونه وأحياناً يغفلونه، والكتابة والإغفال هنا غالباً لا تتم عشوائياً، إنما عن نية مبيَّتة تجاه القارئ. فلك أن ترى كيف أن نفس الدار تطبع للمؤلف نفسه عديد الكتب، فتضع على بعضها اسم المترجم وعلى بعضها الآخر تغفله. ولنا مثل في حالة المرحوم سامي الدروبي، وكيف أن دور النشر تضع اسمه على أعمال دوستويفسكي، وتغفل اسم المترجم إن كان مترجماً غيره. هذا يعني أن دار النشر واعية بأن اسم الدروبي عامل جوهري في بيع كتب دوستويفسكي».
ينتقل آيت حنا إلى البُعد الثاني المتعلق بحال الترجمة، مؤكداً أننا «أدرى بوضعية ثقافتنا ونعلم أن الترجمة ليست حقاً بخير، وأن ثمة تمايزات وصدوعاً داخل نسيجها العام. ثمة فروقات أكيدة بين المترجمين، فروقات ساهمت في تشكل وعي القراء تجاه فعل الترجمة، بحيث صارت للقراء قوائم مترجميهم المفضلين، كما مؤلفيهم. وحين تقدم دار النشر على إخفاء اسم المترجم، وبيع الكتاب مغلفاً، فإنما تصادر حق القارئ في الاختيار»، لافتاً إلى ضرورة أن ينتبه المترجم إلى البند المتعلق بكتابة اسمه على الغلاف، ويعمل على توضيحه في العقد.
ليست تلك هي المسألة الملحة الوحيدة بالنسبة للمترجم فهناك على سبيل المثال قضية تفاوت أسعار الترجمة وأجور المترجمين وغيرها.. فما المشكلة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لآيت حنا؟ يجيب: «ثمة أيضاً الجانب المرتبط بتفاوت جودة الترجمات، ومدى اضطرار الناشر إلى الاستعانة بخدمات مراجعين ومحررين. عموماً حقوق المترجم العربي المادية أقل بكثير من نظيرتها في دول أخرى، لكنها ليست مأساوية. الفراغ القانوني المؤطر لعلاقة الناشر بالمترجم، ربما يظل هو النقطة الأكثر إلحاحاً. لكن على العموم أشدد على العلاقة الودية بين المترجم وناشره، وهي حالي مع معظم الناشرين الذين أشتغل معهم. ويظل التأكيد على وضع عقود والاتفاق على بنودها قبل الشروع في الترجمة أمراً مهماً، خاصة للمبتدئين من المترجمين».
محاكاة الغرب
أما المترجم السوري ثائر ديب فلم يسبق أن رفضت إحدى دور النشر وضع اسمه كمترجم على الغلاف. يقول: «لو تعرّضت لذلك لرفضتُ وأصررتُ على ظهور الاسم واضحاً. وذلك تأكيداً مني على أهمية عمل المترجم. ومع أن وضع اسم المترجم على الغلاف الداخلي للكتاب وحجبه عن الغلاف الأساس هو نوع من التقليد في بعض الثقافات الأوروبية وثقافات أخرى تحاكيها، وهو أمر ناجم عن الهامشية النسبية للترجمة في هذه الثقافات التي يُتَرْجَم منها أكثر بكثير مما يُتَرجَم إليها، فإن محاكاة هذه الثقافات في هذا الأمر تبقى غير ضرورية وغير صحيحة بالمرة، ناهيك عن أن اسم المترجم لا يُحجب كلية، بل يظهر على الغلاف الداخلي ويبقى حاضراً وموجوداً في النهاية»
وإذا ما كان ثائر يتفهم احتياج المترجم، لا سيما المبتدئ، إلى سبل العيش، ويتفهم، تالياً، موافقته على أشياء تحطّ من قدر عمله، فإنه يُبقي على دعوته المترجمين إلى رفض تجاهل أسمائهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ويرى أنَّ السير باتجاه حلّ أمثل لتلك المشكلة وسواها من مشاكل المترجمين تكون بتضامنهم على مستويات مختلفة، وصولاً إلى تشكيلهم اتحادات ونقابات تدافع عنهم وتفرض شروطهم، فضلاً عن رسمها ملامح التقويم السليم لعملهم ولنوعيته، ما يحول دون تطفّل بعض الدخلاء.
مهنة خطرة
المترجمة الأردنية نوال العلي تسرد حكايتين دالتين، الأولى جرت عام 1991، إذ قتل المترجم هيتوشي إيغارشاي لأنه نقل «آيات شيطانية» لسلمان رشدي إلى اليابانية، والثانية في القرن الـ16 حيث أعدم وليام تينديل لأنه ترجم الإنجيل إلى الإنجليزية. تعلق: «إذن كما ترى يمكن للترجمة أن تكون مهنة خطرة مثلها مثل الكتابة. اليوم قد يأخذ قتل المترجم أشكالًا رمزية، منها تجاهل اسمه لدى عرض الكتاب وهذا شائع في صحافتنا، وحين يقرر الناشر أن يخفي هويته، فلا يوجد أي مبرر لذلك إلا إن كان المترجم روبوتاً أو تطبيقاً إلكترونياً في أسوأ الأحوال. وربما يختار المترجم نفسه عدم وضع اسمه بسبب طبيعة الكتاب، وهذا شأن آخر».
اسم المترجم معيار قياسي لدى نوال العلي، وقد تختار كتبًا أحيانًا فقط لثقتها في خيارات المترجم الذي يعلن اسمه بدوره متحملًا مسؤولية العمل. أيًا كان الأمر، وتخلص إلى أنه من غير المقبول أن لا يكون اسم المترجم على الغلاف في مكان واضح لا يقل عن اسم المؤلف نفسه، معلقة: «ليس كما تفعل دار الساقي أحيانًا، كأنك تحتاج عدسة مكبرة لقراءة الاسم»!
وتقول: «شخصياً لديَّ تجارب كصحفية في صعوبة الوصول إلى المترجمين أو معرفة أسمائهم، مثلًا حاولت معرفة اسم المترجم لأحد الكتب الصادرة عن «جروس»، فوجئت بأن الأمر ليس سهلًا، وأخذ وقتًا وجهدًا إلى أن عرفته وحاورته عبر الدار وليس مباشرة. أحيانًا شككت في أن أسماء المترجمين وهمية، مثلًا ثمة مترجمة تصدر كل فترة عملًا لحنة آرنت، حاولت العثور على طريقة للتواصل معها لمحاورتها، زودتني الدار بإيميل فقط ولم يجب عليه أحد، وفتشت عنها كأكاديمية كونها تُقدَّم بحرف دال يسبق اسمها وفي السوشال ميديا وبين أوساط مترجمي الفكر الألماني ولكن بلا طائل».
خسارة الناشر
من جهته يؤكد المترجم المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس أن وضع اسم المترجم على الغلاف هو إحدى الإيجابيات التي يحسدنا عليها المترجمون في الغرب، ويرى أن اسم المترجم على الغلاف مهم، خاصة مع تفاوت مهارات المترجمين، فكثير من القراء في العالم العربي يشترون الترجمة لثقتهم في ذائقة المترجم وجودة ترجمته، أي أن الناشر هو الخاسر في هذه الحالة عندما يغفل اسم المترجم على الغلاف.
كل الأعمال التي ترجمها جريس صدرت باسمه على الغلاف، ما عدا أربعة أعمال (من بين ثلاثين)، ثلاث ترجمات لدى دار «الكرمة» وهي: «الوعد»، و«تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين»، و«حلم»، وترجمة واحدة لدى شركة المطبوعات اللبنانية «حياة». كلتا الدارين حجتهما واحدة، وهي أنهما تتبعان تقاليد دور النشر الغربية التي لا تضع اسم المترجم على الغلاف، بل على الصفحة الأولى الداخلية. وقد كان له نقاش طويل حول هذا الأمر مع الدارين، وقَبِل رأيهما وإنْ لم يقتنع به. مع الإشارة إلى أن كلتا الدارين كانتا حريصتين على ذكر اسمه على الغلاف الخلفي الذي يضم نبذة عن العمل.
البعض يرى في عدم وضع اسم المترجم على الغلاف إهانة له، وتحقيراً لدوره، كان جريس يرى في ذلك مبالغة شديدة. يقول: «هناك أشياء أخرى أهم من وضع اسم المترجم على الغلاف، منها التعاقد المنصف، والمكافأة الجيدة، ووجود محرر على تفاهم مع المترجم في الدار، وأيضاً المراجعة اللغوية المتقنة، ثم الرجوع للمترجم في أي تغيير، مهما كان بسيطاً، قبل الطبع. هذه الأشياء بالنسبة لي أهم من وضع اسمي بالبنط العريض على الغلاف. وكم من ترجمات يخجل المترجم من وضع اسمه على غلافها، لأن مراجعاً أجرى تغييرات كثيرة، خاطئة، دون الرجوع إلى المترجم، أو لأن الترجمة تنشر وهي حافلة بالأخطاء الطباعية أو الهفوات التي يستطيع أي مراجع محترف تصحيحها».
ترجمات لقيطة
أما المترجم المغربي رشيد وحتي فيقول إنه لم يسبق له أن أبخسه ناشرٌ حقه الرمزي. يتساءل: «كيف لنا، مثلاً، أن نَفْصِلَ الترجمة الإنجليزية لرباعيات الخيام عن اسم فيتزجيرالد؟ كيف لنا أن نقرأ ترجمة عربية لنفس الرباعيات بغلاف يهمل، عنوةً، وضع اسم أحمد رامي أو أحمد صدقي الزهاوي أو عبد الحق فاضل أو جلال زنكبادي؟ النصوص تُبْعَثُ، تعيش حياةً ثانيةً، عبرَ ترجمتها، فعجباً لناشر يحاول رمزياً قتل باعثي الروح من جديد في روائع التراث الإنساني.. تنضاف إلى هذه الظاهرة غير الصحية ظاهرة الترجمات التجارية «اللقيطة»، الغُفْل من اسم المترجِم(ين)، التي لا أب لها، أو لها أكثر من أب، عبر إسنادها لمجموعة من الأشخاص في اشتغال جماعي متنافر ورديء، خارج كل إطار مِهَني».
إحساس غير جيد
المترجم المصري المقيم في ألمانيا أحمد فاروق ترجم عملين وصدرا عن دار «الجمل» التي وضعت اسمه وفقاً لسياستها في الصفحة الداخلية، والروايتان هما «خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء» لبيتر هاندكه، و«سنوات الكلاب» لغونتر غراس. يقول: «كانتا أول ترجمتين فلم أتحسس من الموضوع، كمترجم ينشر لأول مرة». تكرر ذلك مرة ثالثة مع دار المطبوعات التي لا تضع اسم المترجم على الغلاف ولا حتى على الغلاف الداخلي وإنما في الترويسة الخاصة ببيانات الكتاب كما حدث حينما أصدر ترجمته لرواية أويغن روغه «عند تلاشي الضوء». يقول: «لم أعترض لأنها سياسة الدار، لكن الإحساس لم يكن لطيفا. وجود اسم المترجم على الغلاف هو امتياز عظيم نتمتع به في العالم العربي ويحاول مترجمو الأدب في أوروبا وأمريكا إقناع دور النشر بتطبيقه. ولا يحدث ذلك هناك إلا في حالات نادرة. وأعتقد أننا يجب أن نتمسك بهذا التقليد الرائع في العالم العربي».
المشكلة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لأحمد فاروق هي عدم التناسب بين الوقت والجهد المبذول في ترجمة الأعمال الأدبية بالذات، وبين الأجور المدفوعة. يقول: «لحسن الحظ توجد بعض برامج الدعم للغة مثل الألمانية، ولكنها غير كافية، ولا يحصل عليها المترجم دائما بشكل كامل. والمؤسسات الداعمة للترجمة والتي تدفع أجوراً جيدة نسبياً للمترجمين تمارس رقابة أخلاقية على الترجمة».
مقارنة غير منصفة
المترجمة المغربية المقيمة في ألمانيا ريم نجمي لم تتعرض لهذا الموقف، إذ أن جميع الأعمال التي ترجمتها وضعت فيها دور النشر اسمها على الغلاف، لكن – تقول بحكم احتكاكها بسوق النشر في ألمانيا- المعتاد أن لا يحمل الغلاف اسم المترجم ونجده في الغالب داخل الكتاب وأحياناً ببنط صغير بالكاد يُقرأ، وربما لذلك ليست لديها حساسية كبيرة في هذا الاتجاه. تعلق: «غير أني في الوقت نفسه أجد المقارنة هنا غير منصفة للمترجم في العالم العربي بالنظر إلى واقع المكافآت الضئيلة مقارنة بزميله المترجم في ألمانيا أو دول أوروبية، وبالتالي يعتبر هذا التقدير المعنوي مشروعا إذا تمسك به المترجم العربي، خاصة وأن أسماء بعض المترجمين أصبحت علامة جودة أدبية، مثل اسم صالح علماني بالنسبة لي، وهناك قراء يقبلون على شراء أعمال مترجم معين يشهد له لا فقط بجودة الترجمة وإنما بذائقته في اختيار أعمال مميزة تستحق القراءة».
القضية الأكثر إلحاحا بالنسبة لريم نجمي هي التقدير المالي، خاصة بالنسبة للعرب الذين يعيشون في الخارج: «لا أخفيك أمرًا محزناً، أن المكافأة التي قد يحصل عليها المترجم بعد شهور من ترجمة كتاب، قد يحصل عليها مترجم فوري في أيام عمل في فعالية أو مؤتمر. وهو ما يجعل الترجمة الأدبية عملا يحتاج إلى الكثير من الحب والتضحية للقيام به، ونحن في أمسِّ الاحتياج إلى حلول في هذا الاتجاه كدعم مؤسسات ثقافية دولية للمترجم».
الاسترزاق من الترجمة
من جهتها تقول المترجمة التونسية لمياء المقدم إنها لم تتعرض للتجربة، لكن في كل مرة توقع عقدا تشترط أن يكون اسمها على الغلاف الخارجي، لكنها لا تستطيع الحكم على المترجمين الآخرين أو أن تطلب منهم أن يحذوا حذوها. تقول: «هناك من يسترزق من الترجمة ويعيل أسرة وبالتالي فالضغوطات كبيرة. في رأيي المسألة برمتها تتعلق بمدى مهنية دور النشر والتزامها بأخلاقيات العمل. الترجمة عمل أدبي مستقل بذاته وشغل شاق لا يجب على دور النشر التقليل منه أو من شأن المترجمين. وكما لا يمكن أن يصدر كتاب من دون أن يكون اسم مؤلفه عليه، لا يجب أن تصدر ترجمة من دون أن يكون اسم مترجمها عليها. هذه بديهيات في رأيي وساراماغو يقول: يكتب الكتاب آدابا محلية يحوِّلها المترجمون إلى آداب عالمية. إخفاء اسم المترجم من غلاف الكتاب يعكس وجهة نظر خاطئة مفادها أن دور المؤلف أهم من دور المترجم، وهذا ليس صحيحاً وحجتنا في ذلك إدغار ألان بو، فلم يُعترف به كشاعر مهم إلا بعد أن ترجمه بودلير».
لمياء المقدم تقترح أن يكون هناك ميثاق شرف يحمي المهنة وحقوق دور النشر والمترجمين على حد سواء، ويكون ملزماً لكل من يمارس الترجمة في جميع ميادينها، ولا بد أن يتضمن بنوداً كفيلة بسحب التراخيص من دور النشر التي تخل بهذا الميثاق. وتلفت الانتباه إلى أنه سيكون من المفيد جداً إيجاد فرع نقابي يمثل المترجمين ويدافع عن مصالحهم، كما تشير إلى قضية أخرى تتعلق بأجور المترجمين الكارثية: «هناك دور نشر كثيرة تترجم الكتب الأجنبية فقط من أجل الحصول على المنح التي تقدمها صناديق دعم الترجمة في البلد الأصلي للكتاب. هذه المنح هي في الأصل موجهة للمترجم لكن بعض الناشرين يستحوذون عليها ويمنحون المترجم جزءاً بسيطاً منها. عن نفسي لا يمكن أن أترجم تحت هذه الظروف، ولا أتعاقد إلا مع من يحترم الترجمة والمترجمين ويحترم جهدهم وحقوقهم، ولحسن الحظ توجد دور نشر تتعامل بأسلوب حضاري معنا، لكن من باب الأمانة ولإكمال الصورة أشير إلى أن الكتاب الذي يحصل مترجمه على أجر عال يُباع بسعر مرتفع، وبذلك تبقى المعضلة في كيفية الموازنة بين أجر المترجم وسعر الكتاب».
احترام الخيارات
المترجم المصري محمد عبد النبي تعرض لهذه التجربة أكثر من مرة، وتعامل معها بطريقة عادية تمامًا، فالقضية بالنسبة له هي سياسة دار نشر، وكثير من دور النشر بالخارج لا تحرص على كتابة اسم المترجم على الغلاف، إلَّا للضرورة كأن تكون هناك أكثر من ترجمة سابقة معروفة لنص كلاسيكي أو أن يكون المترجم مفكرًا أو كاتبًا مهمًا ووجود اسمه على النص كفيل بأن يسهم في الترويج له باعتباره تجربة إبداعية متكاملة وليس مجرد ترجمة لنص. يعلق: «ما دمتُ رضيت التعامُل مع إحدى دور النشر كمُترجم فلا بدّ أن أحترم خياراتها التحريرية، ما دامت حقوقي مكفولة وسيعرف كل شخص سيقلب الكتاب بين يديه أو حتى يقرأ عنه إعلانا أنني من قمت بترجمته ولن يُنسَب الفضل في ذلك لأحد غيري لا سمحَ الله. رأيي أن الكتاب لا بد أن يكون هو النَجم، لا الكاتب ولا المُترجِم، لأننا نرى كتباً كثيرة تباع الآن بكثرة لمجرد وجود اسم كاتبها وربما مترجمها على الغلاف، وهناك مترجمون يعرف كل الناس أسماءهم ولا يعرفون لمَن يترجمون ولا عمّ تتكلم تلك الكتب. المهم الضجيج وخلاص».
لا نتحدث عن «أفيش»
المترجم المصري أحمد شافعي تعرض بدوره للتعامل مع ناشر يعلم أنه يتبع هذه السياسة الغريبة، فأوضح رفضه لها بداية، فوافق الناشر على استثنائه دونما حاجة إلى نقاش أصلا. يحكي: «قدم لي الناشر، وهو من أعرق الناشرين العرب، تفسيرا لاتباعه هذه السياسة يؤسفني القول إنه وجيه. قال إن الدار تبذل جهدا لإصلاح أغلب الترجمات بما يجعلها تتحرج من نسبتها لاحقاً إلى مترجميها، لأن عملهم فيها مدين ديناً ثقيلاً لعمل كثيرين غيرهم، فتزيح الدار اسم المترجم إلى ستر الصفحات الداخلية».
ويقول: «بعض الناشرين يؤكدون أنهم يتبعون تقاليد النشر الغربي. طيب، أحب أن أقول لهؤلاء إن السياسة في الغرب نفسه باتت كريهة ومرفوضة، ففي سبتمبر الماضي وقع أكثر من مائة كاتب رسالة مفتوحة قالوا فيها إنهم سيطالبون في عقودهم بأن يضمن الناشرون عند ترجمة أعمالهم أن يظهر اسم المترجم على الغلاف الأمامي. وصدقني، أنا، على المستوى الشخصي، لا أبحث عن مجد، ثم إننا لا نتحدث عن أفيش مثلا يراه القاصي والداني، بل محض غلاف لكتاب تطبع منه بضعة آلاف نسخة في أفضل الحالات، فأي مجد في هذا؟ أي مجد في الأدب كله اليوم؟ نحن محبوسون في فقاعة لا يرانا أحد، هذه سياسة خاطئة، ولا أعرف ما المكسب الذي يتحقق من اتباعها».
قبل أيام كان شافعي يبحث عن كتاب على موقع إلكتروني لبيع الكتب، ولم يجد اسم المترجم على غلافه، فلم يشتر الكتاب طبعاً، لأنه بحسب التعبير الدارج لا يشتري «سمك في ميَّه» ، ولا يمكن أن يشتري كتاباً لا يثق في مترجمه. يقول: «أنا بالطبع أتعاطف مع من يفعل أي شيء تحت ضغط الحاجة، ما دام الشيء مشروعاً طبعاً. لكنني أعتقد أن بعض المترجمين الذين يقبلون هذه السياسة يقبلونها لأن أعينهم مكسورة، لأنهم عراة أمام محرري هذه الدور الذين يصححون أخطاءهم المخجلة في الفهم وفي الصياغة، ويقوّمون اعوجاج ترجماتهم، ويشاركونهم في التستر على جرائمهم. لكن المترجم المسؤول منفرداً عن ترجمته لا يجب أن يقبل بهذا».
ويختم حديثه: «مشاكل الترجمة هي مشاكل العرب عموماً في هذه اللحظة. تقريباً ليس لدينا أي شيء من طراز رفيع، إلا فلتات. الجودة لدينا شذوذ، وطفرة، لأننا بوضوح في عصر انحطاط. طبيعي أن تجد أغلب ناشرينا جهلة وتجاراً، وأغلب مترجمينا مرتزقة وغير مؤهلين، وأغلب قرائنا مدعون لا يميزون الجيد من الخبيث. وحينما نخرج من عصر الظلام هذا، سنخرج وقد صار كل شيء أفضل».