أعمدة

هوامش ومتون: قصصٌ رياضيّة على المسرح

 
مع تطور التقنيات، وانفتاح الفنون على بعضها البعض، صار من الممكن أن نرى مشهدًا سينمائيًا داخل عرض مسرحي، أو مقطع فيديو في معرض تشكيلي، وما إلى ذلك من أعمال تركيبية، كمعطيات رئيسية في فنون الوسائط الجديدة، التي أصبحت سمة في الفن المعاصر، هذه المعطيات تفتح باب البحث عن مناطق مشتركة بين سائر الفنون، وفي ذلك يقول الدكتور حاتم الصكر: إن اقتراب الفنون من بعضها أزال الحدود الفاصلة بينها، وأكّد إمكان الاقتراض، والأخذ بما يعزّز بنية كلّ فن، فجرت استعارة الوسائل التصويرية بتعزيزها بما يقوي وجودها في النوع الآخر، ويقبله جسدها لا بكونه شيئًا غريبًا يرفضه، بل يطوعه لخدمة خطاب النص، وهذا الانصهار والتمازج والتواشج أصبح ظاهرة مقبولة في الفنون، لكن أن نرى استعراضًا رياضيًا على مسرح، فهذا أمر غريب علينا، فقد اعتدنا نرى الاستعراضات الرياضية في الملاعب، باستثناء ما نراه في حفلات افتتاح دورات الألعاب الأولمبية من عروض رياضية فيها من خفة الأجساد، والرشاقة، والإبهار السمعي البصري ما يفوق الخيال، لكن نرى هذا على المسرح، فهو أمر جديد على ذائقتنا التقليديّة التي اعتادت أن ترى الألعاب الرياضية خارج المسرح، فكيف يمكن دمج العنصرين المختلفين في مكان واحد؟

هذا السؤال هو الذي حفّزني لمشاهدة عرض (بلاي) الذي قدّمته دار الأوبرا السلطانية مسقط، على مسرحها، مختتمة به موسمها الفني الحالي، وكان من أداء مسرح كاتاكلو للاستعراض الرياضي، وجاء على هيئة قصص رياضيّة، ومشاهد عالية الأداء، فرسمت الأجساد تكوينات بصرية زادتها الإضاءة والموسيقى إبهارًا بما أضفت عليه من جماليات بصريّة وسمعيّة ومتعة، سرعان ما تفاعل معها الجمهور الذي قد تبدو عروض (البلاي) غريبة عليه، لكنّها عروض معروفة عالميًا.

والبلاي، كما جاء في دليل العرض «عمل يتحوّل فيه السباق إلى إيقاع خالص، فتأخذك الدرّاجة إلى الماضي، وتدبُّ الحياة في حلبة الملاكمة عبر مزيج كيميائي مثير بين الطاقة الحيويّة للحركة الرياضية، وقوّة التناغم في الأداء».

وهناك عامل تقنيّ مهمّ، هو الإضاءة التي لعبتْ دورًا كبيرًا في صنع مشهدية بصرية آسرة، بحيث لو قدّم على مسرح آخر غير مسرح دار الأوبرا السلطانية مسقط المجهّز بأحدث التقنيات، لما ظهر بالشكل الذي رأينا به عرض المخرجة جوليا ستاتشيولي التي لم تتعلّم الإخراج في معاهد المسرح، بل في الملاعب، فهي بطلة الجمباز الإيقاعي في دورة الألعاب الأولمبية في لوس انجلوس لعام ١٩٨٤ وسول عام ١٩٨٨، وصمّمت افتتاح دورة الألعاب الأولمبيّة الشتويّة في تورينو لعام ٢٠٠٦، ونالت جوائز وهي اليوم أستاذة في فن الرقص الحديث في جامعة ميلان في ميلانو.

ولكن هل يمكن تصنيف هذا الفن رقصًا، خاصّة أنه يختلف عن الرقص المعروف، والتسمية الأنسب (رقص رياضي)، فالمشاهد التي تضمّنها العرض، تمارين رياضية لا تحتاج راقصًا تقليديًا، بل لياقة بدنية عالية، هذه التمارين تصحبها الموسيقى، وقد تكون الإضاءة العامل الرئيس، كما رأينا في المشهد الذي لم يظهر به سوى خيط من الضوء يرسم في الظلمة مربعات، ودوائر، وأشكالا هندسية مختلفة، وتكوينات بصريّة مذهلة، أو في مشهد (الموجة المثاليّة) الذي سرد لنا حكاية مركب شراعي يخوض عباب البحر، ولم يستخدم سوى عصا، وقطعة قماش، وصوت مياه هائجة، وعتمة تتخلّلها مساحاتٌ ضوئيّة، لكنه قدّم مشهدًا مبهرًا، وينطبق الكلام على بقية المشاهد الثمانية عشر، وهي مشاهد تضافرت فيها تلك العناصر، فجاءت على شكل مشاهد درامية بأداء يعتمد على خفّة الحركة ورشاقتها، استقت مضامينها من ثقافات شعوب العالم، فهي رياضة قفزت إلى المسرح، وقد تمّ اعتمادها كرياضة أولمبية كما علمت، وستكون ضمن دورة الألعاب الأولمبية التي ستقام في باريس 2024 م، وحتى عناوين البرنامج حملت الكثير من الأوصاف الشاعرية: عندما طار البلشون، التحدي، التزامن، المحرك الداخلي، إيقاع الشغف، البطاقة البريدية، تلك العناوين قدّمت مفاتيح لقصص رياضية جسّدها رياضيون، لا ممثلون، على خشبة المسرح في عرض سيظلّ طويلًا في الذاكرة.