نقد نظرية هنتنجتون في صدام الحضارات
مستقبل الحضارة الغربية (1-3)
الثلاثاء / 29 / شوال / 1443 هـ - 15:32 - الثلاثاء 31 مايو 2022 15:32
تنتمي أيضًا نظرية 'صمويل هنتنجتون' Samuel Huntington إلى النظريات التي تحاول تبرير الوضع القائم للحضارة الغربية الراهنة، وعلاقتها بسائر الأطراف والمراكز الحضارية الأخرى. غير أن نظريته - التي ضمنها كتابه 'صدام الحضارات وإعادة تشكيل العالم'The Clash of Civilization and the Remaking of the World الصادر سنة 1996 – هي النظرية التبريرية الأكثر انتشارًا؛ لأنها تتناول الأحداث العالمية المعاصرة، وترسم سيناريوهات تنتمي إلى ما يُسمى 'بعلم المستقبليات'. وفحوى تلك النظرية يمكن تبسيطه في السطور التالية:
إن التاريخ العالمي منذ نشأته وحتى الآن هو تاريخ للصراع البشري، ولقد تمثل هذا الصراع قديمًا بين الأباطرة والملوك وفقًا لأهوائهم الشخصية، ثم تمثل بين الدول والقوميات في دفاعها عن مصالحها الاقتصادية، ثم أصبح صراعًا بين أيديولوجيات، وخاصة بين الأيديولوجيا الرأسمالية الغربية والأيديولوجيا الشيوعية في الاتحاد السوفييتي سابقًا.
أما الآن فإن الصراع يعد صراعَ حضارات، أي صراعًا ثقافيًّا؛ لأن ما يهم الناس، ليس هو الأيديولوجيا أو المصالح الاقتصادية، بل الإيمان، والأسرة، والدم، والعقيدة، فذلك هو يجمع الناس، وما يحاربون من أجله، ويموتون في سبيله! فالحضارات الإنسانية هي القبائل الإنسانية الكبرى، وصدام الحضارات هو أشبه بصراع قبائلي يجري على نطاق عالمي، أي أنه صراع بين الكيانات الثقافية التي تتمثل في العرق والدين واللغة والتاريخ والتراث والعادات والأخلاق والقيم عمومًا.
وعلى هذا، فإن هنتنجتون يتصور الصراع المعاصر بين الغرب والعالم الإسلامي على أنه صراع بين الأصولية الغربية والأصولية الإسلامية: والخلاف بينهما يكمن في أن الأصولية الغربية تنطلق من ثقافتها وإنجازاتها الراهنة التي تمثل عصرها الذهبي، وتحاول أن تبحث عن جذور لهذا في الماضي السابق على نشأة الحضارة الغربية الحديثة، وخاصة في الحضارة الكلاسيكية (اليونانية والرومانية).
أما الأصولية الإسلامية، فترى أن العصر الراهن هو امتداد لعصور التدهور والانحطاط التي تلت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
والواقع أن هنتنجتون لا يكتفي بوضع تصور لتفسير الصراع العالمي بين الحضارات، بل إنه في الجزء الأخير من كتابه، بعنوان «مستقبل الحضارات»، يناقش مفهوم «عالمية الحضارة الغربية» الذي يمثل اعتقادا سائدا في الغرب، ويرى فيه اعتقادًا زائفًا ولا أخلاقيًا وخطرًا، وهي الفكرة الأساسية في كتابه كما يؤكد على ذلك: فهو اعتقاد زائف؛ لأنه يقوم على افتراض خاطئ أن التنوع الثقافي لا بد أن يذوب في الثقافة الغربية التي أصبحت تشكل قيم البشر الأساسية. وهو اعتقاد لا أخلاقي؛ لأنه يفترض أن مجال الثقافة والقيم في نهاية الأمر يخضع لمنطق القوة التي يمكن أن تفرض ثقافتها المهيمنة بأساليب غير مشروعة أخلاقيًا، بما في ذلك الاستعمار. وهو اعتقاد خطر؛ لأنه قد يؤدي إلى حروب بين الغرب ودول المركز في حضارات مختلفة: كالحضارتين الآسيوية والإسلامية.
وعلى الرغم من أن نظرية هنتنجتون ترفض فكرة الحضارة العالمية الواحدة، وتقر بوجود حضارات أخرى كالحضارة الإسلامية وحضارات جنوب شرق آسيا، إلا أنها لا تخلو من نظرة استعلائية حينما تنظر للحضارة الغربية باعتبارها حضارة متميزة على غيرها؛ ولذلك يصنف حضارات العالم إلى: 'الغرب في مقابل الباقي'، إذ يصور لنا مفهومه الخاص في 'صراع الحضارات' على أنه صراع بين الغرب (وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها مركز ثقل هذه الحضارة وقوتها) وسائر الحضارات الأخرى: كالحضارة الإسلامية وحضارة جنوب شرق آسيا (وخاصة الصين)، وهو في الفصل الأخير من كتابه يقدم لنا سيناريو محتملًا لنشوب حروب عديدة تجسد هذا الصراع، ويقدم لنا-فضلًا عن ذلك- اقتراحًا لتجنب مثل هذه الحروب المحتملة في الحقبة القادمة، وهو: ضرورة تجنب دول المركز التدخل في الصراعات الداخلية التي تنشأ داخل الحضارات الأخرى.
ولهذا كله، نرى أن نظرية هنتنجتون هي مجرد خطة لتبرير سياسات الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، إزاء حضارات الشعوب الأخرى. ومن هنا أيضًا فقد رأى د. صلاح قنصوه، في مقدمته للترجمة العربية لكتاب هنتنجتون، أن نظريته أشبه 'بخريطة' جديدة لإدارة الأزمات التي تنتج عن عوامل الصراع الحقيقية؛ فالكتاب كله تأكيد على التشبث بالخصومة بين البشر، فنظريته لا تسعى للسلام، بقدر ما تبحث عن مشروعية للعدوان من خلال خلق عدو باستمرار: فسقوط الاتحاد السوفييتي لم يؤد إلى إنهاء الصراع والاستمتاع بالسلام، بل كان يعني البحث عن عدو جديد، وهذا هو مغزى عبارة جورباتشوف البليغة في خطابه للغرب عند إعلانه سقوط الإمبراطورية السوفيتية: 'نحن نقوم بأمر مروع لكم، فنحن نحرمكم من عدو'!
وربما يكون السؤال الأساسي الذي يمكن طرحه في مواجهة نظرية هنتنجتون في 'صدام الحضارات' هو: هل الحضارات تتصادم حقًا؟! وهذا سؤال بسيط، ولكنه سؤال أساسي يضع علامة استفهام كبيرة على نظرية هنتنجتون منذ البداية، وإن كان عادةً ما يغيب عن ذهن القارئ الذي يكون مأخوذًا بحشد التفاصيل المليئة بالأحداث والوقائع التاريخية المشوقة في الكتاب. فمن الواضح أن الحضارات عبر التاريخ لم تتصادم أبدًا، فالصدام كان دومًا وليد نزعات غير حضارية، إمبريالية أو استعمارية، وهي نزعات لا تنشأ إلا عندما تكون الحضارة في مرحلة أفولها كما لاحظ توينبي من قبل.
فالثقافة هي بنية الحضارة الأساسية ممثلةً في طابعها الروحي، والثقافات لا تتصارع، وإنما تتحاور؛ لأن الثقافة تقوم على حب المعرفة والرغبة في الفهم، وهذا يقتضي دائمًا الانفتاح على ثقافة الآخر. ولهذا يمكن القول باختصار: إن الصراع يكون نذيرًا بانهيار الحضارة.
إن التاريخ العالمي منذ نشأته وحتى الآن هو تاريخ للصراع البشري، ولقد تمثل هذا الصراع قديمًا بين الأباطرة والملوك وفقًا لأهوائهم الشخصية، ثم تمثل بين الدول والقوميات في دفاعها عن مصالحها الاقتصادية، ثم أصبح صراعًا بين أيديولوجيات، وخاصة بين الأيديولوجيا الرأسمالية الغربية والأيديولوجيا الشيوعية في الاتحاد السوفييتي سابقًا.
أما الآن فإن الصراع يعد صراعَ حضارات، أي صراعًا ثقافيًّا؛ لأن ما يهم الناس، ليس هو الأيديولوجيا أو المصالح الاقتصادية، بل الإيمان، والأسرة، والدم، والعقيدة، فذلك هو يجمع الناس، وما يحاربون من أجله، ويموتون في سبيله! فالحضارات الإنسانية هي القبائل الإنسانية الكبرى، وصدام الحضارات هو أشبه بصراع قبائلي يجري على نطاق عالمي، أي أنه صراع بين الكيانات الثقافية التي تتمثل في العرق والدين واللغة والتاريخ والتراث والعادات والأخلاق والقيم عمومًا.
وعلى هذا، فإن هنتنجتون يتصور الصراع المعاصر بين الغرب والعالم الإسلامي على أنه صراع بين الأصولية الغربية والأصولية الإسلامية: والخلاف بينهما يكمن في أن الأصولية الغربية تنطلق من ثقافتها وإنجازاتها الراهنة التي تمثل عصرها الذهبي، وتحاول أن تبحث عن جذور لهذا في الماضي السابق على نشأة الحضارة الغربية الحديثة، وخاصة في الحضارة الكلاسيكية (اليونانية والرومانية).
أما الأصولية الإسلامية، فترى أن العصر الراهن هو امتداد لعصور التدهور والانحطاط التي تلت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
والواقع أن هنتنجتون لا يكتفي بوضع تصور لتفسير الصراع العالمي بين الحضارات، بل إنه في الجزء الأخير من كتابه، بعنوان «مستقبل الحضارات»، يناقش مفهوم «عالمية الحضارة الغربية» الذي يمثل اعتقادا سائدا في الغرب، ويرى فيه اعتقادًا زائفًا ولا أخلاقيًا وخطرًا، وهي الفكرة الأساسية في كتابه كما يؤكد على ذلك: فهو اعتقاد زائف؛ لأنه يقوم على افتراض خاطئ أن التنوع الثقافي لا بد أن يذوب في الثقافة الغربية التي أصبحت تشكل قيم البشر الأساسية. وهو اعتقاد لا أخلاقي؛ لأنه يفترض أن مجال الثقافة والقيم في نهاية الأمر يخضع لمنطق القوة التي يمكن أن تفرض ثقافتها المهيمنة بأساليب غير مشروعة أخلاقيًا، بما في ذلك الاستعمار. وهو اعتقاد خطر؛ لأنه قد يؤدي إلى حروب بين الغرب ودول المركز في حضارات مختلفة: كالحضارتين الآسيوية والإسلامية.
وعلى الرغم من أن نظرية هنتنجتون ترفض فكرة الحضارة العالمية الواحدة، وتقر بوجود حضارات أخرى كالحضارة الإسلامية وحضارات جنوب شرق آسيا، إلا أنها لا تخلو من نظرة استعلائية حينما تنظر للحضارة الغربية باعتبارها حضارة متميزة على غيرها؛ ولذلك يصنف حضارات العالم إلى: 'الغرب في مقابل الباقي'، إذ يصور لنا مفهومه الخاص في 'صراع الحضارات' على أنه صراع بين الغرب (وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها مركز ثقل هذه الحضارة وقوتها) وسائر الحضارات الأخرى: كالحضارة الإسلامية وحضارة جنوب شرق آسيا (وخاصة الصين)، وهو في الفصل الأخير من كتابه يقدم لنا سيناريو محتملًا لنشوب حروب عديدة تجسد هذا الصراع، ويقدم لنا-فضلًا عن ذلك- اقتراحًا لتجنب مثل هذه الحروب المحتملة في الحقبة القادمة، وهو: ضرورة تجنب دول المركز التدخل في الصراعات الداخلية التي تنشأ داخل الحضارات الأخرى.
ولهذا كله، نرى أن نظرية هنتنجتون هي مجرد خطة لتبرير سياسات الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، إزاء حضارات الشعوب الأخرى. ومن هنا أيضًا فقد رأى د. صلاح قنصوه، في مقدمته للترجمة العربية لكتاب هنتنجتون، أن نظريته أشبه 'بخريطة' جديدة لإدارة الأزمات التي تنتج عن عوامل الصراع الحقيقية؛ فالكتاب كله تأكيد على التشبث بالخصومة بين البشر، فنظريته لا تسعى للسلام، بقدر ما تبحث عن مشروعية للعدوان من خلال خلق عدو باستمرار: فسقوط الاتحاد السوفييتي لم يؤد إلى إنهاء الصراع والاستمتاع بالسلام، بل كان يعني البحث عن عدو جديد، وهذا هو مغزى عبارة جورباتشوف البليغة في خطابه للغرب عند إعلانه سقوط الإمبراطورية السوفيتية: 'نحن نقوم بأمر مروع لكم، فنحن نحرمكم من عدو'!
وربما يكون السؤال الأساسي الذي يمكن طرحه في مواجهة نظرية هنتنجتون في 'صدام الحضارات' هو: هل الحضارات تتصادم حقًا؟! وهذا سؤال بسيط، ولكنه سؤال أساسي يضع علامة استفهام كبيرة على نظرية هنتنجتون منذ البداية، وإن كان عادةً ما يغيب عن ذهن القارئ الذي يكون مأخوذًا بحشد التفاصيل المليئة بالأحداث والوقائع التاريخية المشوقة في الكتاب. فمن الواضح أن الحضارات عبر التاريخ لم تتصادم أبدًا، فالصدام كان دومًا وليد نزعات غير حضارية، إمبريالية أو استعمارية، وهي نزعات لا تنشأ إلا عندما تكون الحضارة في مرحلة أفولها كما لاحظ توينبي من قبل.
فالثقافة هي بنية الحضارة الأساسية ممثلةً في طابعها الروحي، والثقافات لا تتصارع، وإنما تتحاور؛ لأن الثقافة تقوم على حب المعرفة والرغبة في الفهم، وهذا يقتضي دائمًا الانفتاح على ثقافة الآخر. ولهذا يمكن القول باختصار: إن الصراع يكون نذيرًا بانهيار الحضارة.