أفكار وآراء

مستقبل الحضارة الغربية «1-2» نقد نظرية فوكوياما

لقد طرح فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama (وهو مفكّر أمريكي من أصل ياباني) نظريته الشهيرة المثيرة للجدل في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» The End of History and the Last Man. وهذا الكتاب في الأصل -كما يُقِرّ مؤلِّفه- كان بمثابة محاضرة دُعي إلى إلقائها في أحد المراكز البحثية بجامعة شيكاجو في العام الجامعي 1988-1989. ولقد لاقت هذه المحاضرة رواجًا واستحسانًا؛ لأنها في المقام الأول تخدم التوجهات السياسية في الغرب الأمريكي وتبررها؛ ولذلك سرعان ما تحوّلت المحاضرة إلى مقال شهير، ثم تحوّل المقال إلى كتاب سنة 1992. وفي هذا الكتاب يشير فوكوياما نفسه إلى الفكرة الأساسية في المقال الذي أخذ عنه الكتاب، وهي الإجماع على شرعية الديمقراطية الليبرالية كنظام للحكم، بعد أن لحقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة مثل المَلكية الوراثية، والفاشية، والشيوعية في الفترة الأخيرة. وهو يضيف إلى ذلك القول بأن الديمقراطية الليبرالية قد تشكّل نقطة النهاية في التطوّر الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري الذي يخلو من التناقضات الأساسية الداخلية.

ومن الواضح أن فوكوياما يدافع عن الديمقراطية كمثل أعلى ينبغي أن تحتذيه سائر النظم وأشكال الحكم القائمة؛ فهو -بطبيعة الحال- لا يعني «بنهاية التاريخ» نهاية العالم وتوقف الأحداث التاريخية، وإنما يعني أن التاريخ قد وصل إلى غايته التي تتمثل في إشباع الاحتياجات الأساسية للمجتمع: فالتاريخ -كما لاحظ كل من هيجل وماركس- لا يتطوّر إلى ما لا نهاية، وإنما يتطوّر ليبلغ غاية معيّنة. وهكذا افترض كل منهما أن «للتاريخ نهاية»، وهي عند هيجل الدولة الليبرالية، وهي عند ماركس المجتمع الشيوعي، أما عند فوكوياما فهي الدولة الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية التي تتجسّد في المجتمع الغربي، خاصة في المجتمع الأمريكي! وعلى هذا، فإذا كان التاريخ قد بدأ بالمجتمع العبودي الذي تطوّر إلى المجتمع الزراعي الإقطاعي الأرستقراطي، فإنه قد بلغ في النهاية الديمقراطية الليبرالية الحديثة، والرأسمالية القائمة على التكنولوجيا، وهي النظام القادر على حل سائر المشكلات البشرية الكبرى. وتلك هي النهاية التي ينبغي أن تسعى إليها سائر المجتمعات والشطر الأعظم من البشرية؛ لأنها يجب أن تدرك أنه ليس هناك مجال للتقدُّم أبعد من ذلك فيما يتعلّق بتطوّر المبادئ والأنظمة السياسية، أما الدول التي لا تفهم ذلك، فإنها تحيا خارج التاريخ (وهذا يشمل -بطبيعة الحال- دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية).

ويرى فوكوياما أن الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي، تقتضي بناءً جديدًا للدولة التي تريد أن تلحق بركب قطار التاريخ، لعل أهم ملامحه: التخلي عن الأشكال التقليدية للتنظيم الاجتماعي (كالقبيلة، الطائفة والعائلة)، وإقرار حق التعليم الأساسي لكل فرد، والتمييز بين الناس على أساس من الكفاءة في مجال العمل وأهمية الدور الاجتماعي الذي يضطلع به الفرد، وتبنّي آليات الاقتصاد الحر الذي لا بد أن يخلق سمات مشتركة ومتجانسة بين الدول التي تتبنّى هذه الآليات، وبين شعوبها التي سوف تسودها ثقافة استهلاكية واحدة.

ومن الواضح أن فوكوياما يدافع هنا -على المستوى السياسي- عن نظام الديمقراطية الليبرالية، باعتباره الغاية التي يتّجه إليها التاريخ، ولكنه في الوقت ذاته يدافع أيضًا -على المستوى الاقتصادي- عن الاقتصاد الحر المرتبط بتلك الديمقراطية ارتباطًا وثيقًا. ولذلك فإنه يرى أن المبادئ الليبرالية في الاقتصاد -أي السوق الحرة- قد انتشرت ونجحت في خلق مستويات من الرخاء المادي لم نعهدها من قبل، سواء في الدول الصناعية المتقدمة أو في دول كانت وقت انتهاء الحرب العالمية الثانية جزءًا من العالم الثالث الفقير. فالثورة الليبرالية في الفكر الاقتصادي كانت أحيانًا تسبق، وأحيانًا تتلو، الاتجاه صوب الحرية السياسية في مختلف بقاع الأرض.

وليس هناك جديد في سائر ما يقوله فوكوياما بعد ذلك، سوى محاولة تدعيم هذه الرؤية بالشواهد والأمثلة والحجج. غير أن كثيرًا من هذه الشواهد والأمثلة تبدو تعسفية؛ إذ إننا نستطيع أن نسوق في مقابلها العديد من الأمثلة والشواهد المغايرة التي لا تخدم تلك النظرية، ومن ذلك على سبيل المثال: أن بعضًا من الدول المتقدمة اقتصاديًّا في عصرنا هذا -كالصين واليابان وروسيا- لا تتبنّى النظام السياسي نفسه، وما يقترن به من أشكال التنظيم الاجتماعي. كما أن النظرية في مجملها ليست بجديدة في جوهرها، وإنما تعيد -بلغة عصرية- ترديد مقولة سابقة في نظريات أكثر شمولًا وعمقًا، كنظريات هيجل وماركس، وهي المقولة التي تدّعي أن التاريخ يصل إلى غايته عندما يبلغ نقطة معيّنة. وبطبيعة الحال، فإن هذه النقطة قد اختلفت من نظرية لأخرى بحسب تصوّر الفيلسوف أو المفكّر، وبحسب الغاية التي يسعى إليها ويحاول تبريرها. وليس هذا هو ما ينبغي أن تكون عليه الرؤية الفلسفية التي تتوخى الحقيقة؛ إذ ينبغي ألا تتخذ موقفًا تبريريًّا لوضع قائم في لحظة تاريخية معيّنة، وإنما ينبغي أن تحاول فهم هذا الوضع التاريخي، ووصفه، وتفسيره، باعتباره جزءًا في سياق متصل لا يتوقف إلا بفناء البشرية ذاتها. وليس أدلّ على فساد تلك المقولة من أن التاريخ تجاوز مزاعمها في النظريات السابقة: فالتاريخ الإنساني لم يتوقف عند نموذج الدولة البروسية المسيحية التي دافع عنها هيجل إلى حد التأليه، بل إن التاريخ لم يلتفت حتى لمفهوم الدولة الذي حلم به ماركس، والذي تسيطر فيه الطبقة العاملة وتفرض سائر قيمها، وحتى إن قُدّر لهذا المفهوم أن يتحقق، لكان التاريخ قد تجاوزه حتمًا.

سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»