أفكار وآراء

الضامن الاجتماعي.. صمام الأمان

يُقَيَّمُ استقرار الإنسان الفرد في محيطه الاجتماعي الخاص أو العام، ليس على أنه حقق كل معززات الأمن التي تحميه، ولكن على أساس أن هناك قناعة بأنه يعيش وسط مجتمع به مساحة متسعة لكل أفراده في حالة أن أحد الأفراد قد يتعرض لسوء ما، وهذه المؤازرة المحسوسة، قبل أن توظف مادتها، هو ما يذهب إليه معنى «الضامن الاجتماعي»

يأتي مفهوم الضامن الاجتماعي عبر مجموعة من السلوكيات والمفاهيم المرتبطة بماهية الحقيقة الاجتماعية، ولا يغادر المفهوم هذه الصورة، المتأصلة منذ أن يعي الإنسان أنه فرد يعيش بين مجموعة من الأفراد يتقاسم معهم حلو الحياة ومرها، ويلازمه الشعور بأنه بين مجتمع، وأنه جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، وأنه بقدر ما يحتاج من مؤازرة المجتمع له، عليه في المقابل أن يبذل جهودًا ذاتية نابعة من مسؤوليته الخاصة تجاه المجتمع، مهما كان دوره وحالته وموقعه، فالمسألة فرض عين، وليست اختيارًا شخصيًا محضًا، متى أراد كان، ومتى لم يرد تنصل، والمسألة كذلك، وإن خالجتها النفعية في بعض صورها إلا أن النفعية تظل حالة طارئة، ويبقى الشعور الفطري بأهمية هذه «الاجتماعية» ملازمًا لا يمكن التخلص منه، وملزمًا لا يمكن التنصل من مجموعة الالتزامات المتعلقة به تجاه المجتمع، ولذلك يعد (الضامن الاجتماعي) أحد أهم روافد النظرية الاجتماعية، ولعله أهمها، وهو يمثل الجانب المعنوي أكثر منه الجانب المادي، فالمآزرة التي تجتمع لدى مجموعة من الناس في وسط اجتماعي معين، لحدث ما، أو للشعور بالمسؤولية تجاه أمر ما هي حالة معنوية، وليست حسية، ولذلك فعندما نقطع مسافة مئات من الكيلو مترات لمواساة أخ عزيز أو ذوي قربى هي من صميم هذا الضامن، وفعلنا هذا نابع من شعورنا بأهمية أن نكون بجانب هذا الإنسان في محنته، وهو شعور معنوي بالضرورة، وإن ساعدته بعض المعززات المادية للوصول إلى تحقيق الهدف، من خلال استخدام وسيلة النقل المناسبة، أو شراء ما نعتقد أنه سوف يخفف عليه عبء المسؤولية في هذا الظرف الطارئ في حياته دون أن يحسب له حساب الحدوث، وكم عايشنا من الأحداث على مستوى العالم، وكم رأينا كيف آزر العالم بعضه بعضا، ولو كانت هذه المؤازرة عن بعد، ولعل أقربها مثال ذلك ما حدث في الشقيقة المملكة المغربية عندما سقط ذلك الطفل الصغير في بئر مهجور، وكم غالبنا شعور المؤازرة، ويقينًا كم تمنينا أن نكون هناك، وأن نكون لنا يد المساعدة بأي شيء يمكن أن ينقذ هذه الأسرة المكلومة في ابنها في تلك اللحظات العصيبة من حياتها، وهو شعور عايشه العالم كله، بلا استثناء، فما الذي حفز كل هذا العالم لأن يقف هذه الوقفة المؤازرة مع هذه الأسرة في تلك اللحظات سوى هذا الشعور الخفي المتمثل في الضامن الاجتماعي، ومن هنا تشكل الأحداث اليومية التي تمر على البشر، مفتعلة أو مصادفة، المغذي الأساسي لهذا الضامن، ذلك لأن هناك تكاتفًا وتآلفًا ينتصر للمجموع الاجتماعي، كما هو ينتصر للفرد في بعض الأحيان، وفي كل أحواله لن يخرج عن سياقه الاجتماعي الصرف، وهذا الأمر لا يقتصر حدوثه أو ممارسته على شعوب دون أخرى، أو تفعله هويات منتصرة لذاتها دون أخرى، بل بالعكس تسقط هنا الهوِيَّاتُ ولا تُرى، وينتصر المجموع تحت عنوانه الكبير الهوية الإنسانية.

يعتمد الضامن الاجتماعي كثيرا على المعايير الأخلاقية السامية، ليس فقط ليبرر بقاءه على أنه حامي الحمى، ولكن ليؤكد على أن المجتمع لا يمكن أن يرتهن بقاءه ونصاعته، وتأصيله على مجموعة من القيم النفعية الآنية، فالضامن الاجتماعي يمكن أن يشار إليه على أنه صمام أمن المجتمع، في جميع ظروفه، وفي جميع حالاته سواء الفقر أو الغنى، التقدم أو التأخر ولذلك ففعل الضامن الاجتماعي هو قائم في حالتي الفقر والغنى على حد سواء، لأنه الحامي، والحافظ لأمن المجتمع في جميع حالاته ومآلاته المختلفة، حيث تتحرر النفوس من كل التجاذبات المادية الذاهبة إلى الانحسار عن المشاركة العامة.

يُقَيَّمُ استقرار الإنسان الفرد في محيطه الاجتماعي الخاص أو العام، ليس على أنه حقق كل معززات الأمن التي تحميه دون شائبة، ولكن على أساس أن هناك قناعة بأنه يعيش وسط مجتمع به مساحة متسعة لكل أفراده في حالة أن أحد الأفراد قد يتعرض لسوء ما، وهذه المؤازرة المحسوسة قبل أن توظف مادتها، هو ما يذهب إليه معنى «الضامن الاجتماعي» وبالتالي فكل معززات الحياة الاجتماعية تنتمي إلى هذا الضامن، ارتفع مستوى هذا الضامن في الأداء، أو خفت لظرف ما، لكنه سيبقى من يهب النفوس هاجس الاطمئنان، من هنا يطرح الضامن الاجتماعي نفسه كأهم مخلص للكثير من الآلام النفسية، والمادية على حد سواء، ولذلك فالانزواء تحت لوائه يبقى انزواء محضا دون تمثيل، أو مبالغة في اعتناقه، فهو إلى الفطرة أقرب منه إلى الفعل الميكاني المقصود، صحيح أنه يتحقق عبر وسائل مادية ومعنوية، ولكن هذه المادية تأتي في سياقها الطبيعي دون تكلف، فمؤازرة الفرد لأسرته، لا يحتاج منه إلى تقديم قرابين مادية ومعنوية لتأكد ذلك فقط، فهو بحكم التنشئة والانتماء هو جزء من هذه الأسرة، وما ينطبق على الأسرة ينطبق على المجتمع ككل، ولا يوجد في العرف الإنساني أن المجتمعات بمفهومها الإنساني يمكن أن تمارس حالات الطرد لأبنائها لتقصيرهم في هذا التضامن، إلا في حالة أن هؤلاء الأبناء طردوا أنفسهم في محيطهم الاجتماعي الخاص، وفضلوا محيطا جوهريا آخر، ينفرد بصفات مميزة عن المجتمع الأول «الأصل» وإن حدث ذلك، تظل الذاكرة تحتفظ بالكثير من مواقف الدعم للمجتمع الأول، ولذلك يبقى خيارا مختزنا في حالة الرغبة في العودة إليه لأي سبب كان، وإن حدث ذلك لن يمارس طرد ابنه الذي مارس عقوقا ما عليه في فترة ضعف غير مقدرة العواقب.

ينظر إلى الكينونة الاجتماعية الخاصة بالبشر دون سواهم من المخلوقات على أنها الحاضنة الكبرى للمجموعات البشرية، هي التي تعوضهم الكثير من الخسارات التي يتعرضون لها طوال حياتهم اليومية، منذ بدء النشأة الأولى، وحتى مغادرة هذه الحياة، ولذلك تفرض الاجتماعية أخلاقا خاصة بها، ومن خلالها تنجز مهمتها الإنسانية لتحقيق هذا الضامن، ويأتي ذلك بصورة سلسلة دون تعقيد، لأن الجميع يحتاجون لهذا الضامن، وذلك يمارس بعفوية، وبفطرة طبيعية دون تكلف، وفي المقابل تأتي هباته ونتائجه كذلك دون تكلف، ولذلك تعكس مجموعة الممارسات اليومية في حياتنا الكثير من ما يسمى بالحياة الاجتماعية دون سواها، والإنسان مهما ابتدع من وسائل ومواد معبرة عن حالتها الآنية، إلا أنها تظل مرتبطة بهذه الثيمة «الاجتماعية» ولا يمكن أن تكون هناك حالة انفصال مطلقة عنها، فنحن نعيش في «مجتمع» ونحن «اجتماعيون» بالفطرة، وكل المجموعات الإنسانية مرتهنة بهذه الاجتماعية، ولا يمكن أن تبتدع اسما آخر يعتقها من هذه الاجتماعية المتأصلة، مهما بلغت المجتمعات الإنسانية درجة كبيرة من التطور المادي الصرف، تبقى الاجتماعية هي الوعاء الحاوي لكل تفاعلاتها الإنسانية اليومية، وتبقى هي الضامن الذي يوجه، ويضيف، ويحذف، ويراكم، كل ذلك لتبقى الحالة الإنسانية تحت ثيمتها الأصل، دون أن تفقدها هويتها الإنسانية، وإن بدت بعض السلوكيات شاذة، وقاسية من قبل بعض الأفراد، إلا أن ذلك لا يخرجهم من حالتهم الاجتماعية، وسيظل الضامن الاجتماعي هو الحاوي لمثل هذه الحالات الشاردة عن القطيع، والمستوعب تصرفاتها غير العقلانية، وبالتالي إعادتها إلى حظيرتها الإنسانية، سواء عبر القانون، أو عبر التوفيق والمصالحة.

ينجز الإنسان مجموعة الالتزامات التي يقوم بها في يومه من خلال عاملين مهمين، الأول: العامل المادي الصرف، والثاني: العامل المعنوي الصرف، وكلا العاملين يعملان إما في خطين متوازيين معا، أو في خطين متوافقين معا، أو في مساندة بعضهما للبعض الآخر، ولا يمكن الفصل بينهما في كل هذه الحالات الثلاث، لأن الهدف واحد وهو معاضدة هذه اللحمة الاجتماعية غير الممنهجة في صورة عددية تراكمية تبدأ من الرقم (1) وتتسلسل إلى ما لا نهاية من الأرقام، وإنما يأتي توظيفها هكذا شعورا فطريا ملزما، يتوغل هذا الإلزام في النفوس دون تمثيل، ودون تكلف، ودون استجلاب هذه المشاعر المتآزرة مع بعضها البعض من طرف ثالث، أو بيئة ثالثة، يتراكم فيها الضامن الاجتماعي أكثر من غيرها.