إسرائيل دولةٌ بلا هوية
الاحد / 20 / شوال / 1443 هـ - 20:22 - الاحد 22 مايو 2022 20:22
لا يمكن أن نتجاهل بعض الدراسات العربية التي تتناول الكيان الصهيوني من الداخل، إلا أنها تبقى قليلة مقارنة بالدراسات الإسرائيلية عن الوطن العربي. ومن هنا يمكن أن أشير إلى أنّ كتاب 'إسرائيل دولة بلا هوية' الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في يونيو من العام الماضي، للباحثين عقل صلاح وكميل أبو حنيش، من الكتب المهمة التي تناولت هذا الجانب. ويقول الناشر عن الكتاب: 'دأبت دولة «إسرائيل» منذ تأسيسها، على ترويج مجموعة أكاذيب وسرديات مزيّفة لتلميع صورتها وتبرير شرعيتها كدولة؛ فعلى مدى أكثر من سبعين عامًا تُقدّم «إسرائيل» نفسها بوصفها دولة ديمقراطية، قامت على «أرض بلا شعب.. لشعب بلا أرض»، لكن سياساتها الاقتلاعية - الاستيطانية العنصرية على مدى السنين السبعين الماضية، وعملها الدؤوب على تهويد كيانها أرضًا ومجتمعًا ودولة، وضعت صورة هذه الدولة أمام مأزق تاريخي؛ فهل تسعى دولة إسرائيل فعلًا لتكون دولة ديمقراطية، وهذا أمرٌ يتنافى مع المشروع الصهيوني ومع سياسات التهويد التي تمارسها إسرائيل كلّ يوم، وهل هي فعلًا «أرض بلا شعب.. لشعب بلا أرض»، وهذا أمرٌ آخر تنفيه الحقائق التاريخية التي لم تستطع دولة «إسرائيل» محوها، كما تنفيه ممارساتها العدوانية اليومية في مواجهة أبناء البلد الأصليين في كامل الأراضي الفلسطينية'.
يتكون الكتاب من خمسة فصول فضلا عن المقدمة والخاتمة والمراجع وهو في 240 صفحة، ويصف الأسير أحمد سعدات، أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تقديمه للكتاب بأنه محاولة جادة لسبر غور المجتمع الصهيوني الذي أقيم على أنقاض الشعب الفلسطيني، وقراءة تناقضاته الملموسة، من دون الاكتفاء بإسقاط الخصائص المشتركة للتجمعات اليهودية، ومعاينة الفرضيات التي طرحتها الحركة الصهيونية بدءًا في اعتبار اليهود شعبًا وأمة بالمعنى السياسي، يراودهم الأمل والحلم بالعودة إلى أرض الميعاد وإحياء تراثها القومي، مرورًا بأنّ هذه الدولة ستُشكّل مصدر إلهام للعودة إلى الحضارة الأوروبية التي انطلقت من رحم اليهودية في مواجهة حضارة الشرق البربرية، وصولًا إلى توقعات ثيودور هرتزل القائد المؤسس للحركة الصهيونية، 'بأنّ الدولة ستُشكّل آلة جبارة لصهر يهود الشتات في أمة عصرية تحيي تراثها القديم وتغنيه في دولة ديمقراطية وعلمانية بامتياز لها هوية'. والكتاب - حسب رأي سعدات - وضع علامة استفهام على هوية الدولة وكلّ الفرضيات التي تحدّث عنها هرتزل، إلا فرضية واحدة، وهي الدور الوظيفي الإمبريالي الذي لعبته إسرائيل على مدار وجودها ولا تزال تؤديه بامتياز، والذي يُشكّل المصدر الوحيد لقوتها واستمرارها.
ميزةُ كتاب 'إسرائيل دولة بلا هوية' أنه يستند إلى معلومات ومصادر اتسمت بالنزاهة وبالاستناد إلى منهج علمي رصين، أغلبها لباحثين ومؤرخين إسرائيليين، بعضهم مناهضون للصهيونية وآخرون مَن اعتَبروا بأنّ الصهيونية استنفدت أغراضها بإقامة الدولة، والذين يُصنّفون بأكاديميي مرحلة ما بعد الصهيونية، فضلًا عن النقاشات الدائرة داخل الدولة ومؤسساتها، وبين الأقطاب المتناقضة في محاور التناقضات التي يختزنها المجتمع الصهيوني، الأمرُ الذي يُكسب الكتاب طابعه الموضوعي، بعيدًا عن تذويب الحقائق. والخلاصةُ التي وصل إليها الباحثان هي أنّ العامل الموحد للمجتمع الصهيوني بات الإحساس المشترك بالخطر الذي يجري تضخيمه من خلال مؤسسات الدولة؛ هذا العامل الذي جعل مؤسسة الجيش والأمن بشكل عام مصدر إجماع من كلّ السكان المستوطنين اليهود.
إنّ النقطة الأساسية في الكتاب هي هوية دولة 'إسرائيل'؛ فهويةُ الدولة تُعتبر الدعامة الأساسية الأولى لشرعيتها، و'إسرائيل' - كما يقول الباحثان - لا تملك هوية واضحة ومحددة؛ فهل هويتها يهودية أم ديمقراطية أم قومية أم غير ذلك؟ فالإشكاليةُ الرئيسية للكتاب تتمحور حول محاولة 'إسرائيل' سنّ القوانين التي تهدف إلى تحديد الهوية الإسرائيلية بالهوية اليهودية - أي يهودية الدولة - ومطالبة الفلسطينيين والعالم الاعتراف بيهوديتها؛ وقد تجلّى ذلك في سنّ قانون القومية من قبل الكنيست الإسرائيلي. وهنا يبرز السؤال الجوهري كما تساءل المؤلفان: هل صبغ الدولة بالهوية اليهودية يحسم ويحلّ أزمة هوية الدولة الإسرائيلية؟
يصل الكتاب إلى حقيقة أنّ 'إسرائيل' دولة بلا هوية، من خلال الاعتماد على التاريخ الفلسطيني بشكل عام، والتاريخ الحديث لنشأة الحركة الصهيونية ومن بعدها 'دولة إسرائيل' بشكل خاص؛ فمكوناتُ الدولة وما تنطوي عليه من تناقضات وتشوّهات قادت وستقود إلى مزيد من التصدعات والصراعات بين مركّبات المجتمع الصهيوني، لقد بذل قادة الحركة الصهيونية محاولات تاريخية لخلق واختراع 'الشعب اليهودي' وهويته القومية؛ 'ومثّل ظهور الصهيونية حدثًا مهمًا في تاريخ اليهودية، وإلى حدّ بعيد انقلابًا على أهم المعتقدات الدينية والتراث اليهودي، حيث تلخّصت وظيفتُها التاريخية في مهمتين؛ الأولى محاولة اختراع قومية يهودية، والثانية تمثلت بإقامة دولة يهودية، وقد نجحت في المهمة الثانية بينما أخفقت في المهمة الأولى، الأمرُ الذي ترك علامة استفهام كبيرة على مستقبل هذه الدولة التي فشلت في إذابة الجماعات اليهودية المهاجرة من أكثر من 70 بلدًا في بوتقة واحدة، وبالتالي فإنّ هذا الإخفاق ألقى وسيُلقي بظلاله الثقيلة على هوية الدولة في السنوات المقبلة'. ويرى الباحثان عقل صلاح وكميل أبو حنيش أنه في ضوء هذا الخلل الواضح الذي يعتري التعريف، وفي ظلّ احتدام التناقضات بين مكوّنات الدولة المتباينة، فإنّ إمكان تفسخ إسرائيل من الداخل على أساس هويّاتي أمرٌ وارد، غير أنه لا يكفي القول إنّ بقاءها أو عدم بقائها مرهون بهذا العامل، وإنما مرهونٌ ومحكومٌ بجملة من العوامل الداخلية والخارجية، وقد تكون مسألة الهوية أحد هذه العوامل التي من شأنها أن تمثّل أحد العوائق أمام تطور الدولة، ويبقى المستقبل مفتوحًا على الاحتمالات كافة.
إنّ كتاب 'إسرائيل دولة بلا هوية' كتابٌ مهم يشجّع للتوسع في هذا النوع من الإنتاج الفكري المواكب للتغيرات التي تحدث في الجهة الأخرى من جبهة الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والانعتاق والعيش بكرامة، أسوةً بالشعوب والأمم الأخرى، لذا لا ينبغي الركون إلى أوهام السلام الزائف وترك الاهتمام بمعرفة العدو، ولا ينبغي أن ننشغل بكثرة التصريحات الإسرائيلية حول قرب زوال الكيان الصهيوني، في وقت أصبح الكيان يسرح فيه ويمرح في الأوطان العربية، بل أرى أنّ الوقت ملح أكثر من أيّ وقت مضى لمعرفة ماذا يفكر العدو؟ وأذكر أني قرأتُ مقالًا للدكتورة بثينة شعبان المستشارة السياسية والإعلامية في الرئاسة السورية، ذكرَت فيه أنها سألت يومًا السياسي اللبناني الراحل ميشيل إدة، وهو متخصصٌ في الصراع العربي الإسرائيلي والحركة الصهيونية: ما هي جريدتك المفضّلة؟ فأجابها فورًا 'هآرتس'، وقال إنه يبدأ يومه بقراءتها، لأنّ قراءة العدو - حسب رأيه - أساسيةٌ في فهم ماذا يخطط لنا وبالتالي في رسم خطواتنا لمواجهته، لذا فإنه يمتلك مكتبة مهمة من الدراسات والكتب والاستراتيجيات التي يضعها الكيان الصهيوني حول العالم العربي. وتقول بثينة شعبان إنها منذ ذلك التاريخ، الذي يعود إلى أكثر من عشرين عامًا، وهي تتابع قدر المستطاع ما يصدر عن بلداننا من قِبلِ الكيان الصهيوني، 'علمًا أنّ ما يصدر كثير ولا يمكن لشخص بمفرده أن يشكّل إحاطة كاملة به، ولكنّ الوعي بأهمية الاطلاع على خطط أعدائنا ودراساتهم وتحليلاتهم للأحداث في بلداننا أصبح جزءًا لا يتجزأ من الوعي بالحدث ومعالجته'.
كان ميشيل إدة محقًا فيما قال، وما قالته بثينة شعبان أيضًا لا يخلو من أهمية، فما يصدر عن بلداننا العربية من قبل الكيان الصهيوني كثير ولا ينبغي أن تكون المتابعة فردية، بل يجب أن تكون مؤسسية تحقيقًا لمقولة 'اعرف عدوك'. وأنا أتناول هذه النقطة أستذكر ما كتبتُه في مقدمة كتابي 'الطريق إلى القدس' الصادر عام 2015 عن 'الجمعية العمانية للكتاب والأدباء': 'أنه لا غنى أبدًا لكلّ مهتم بالشأن العربي والفلسطيني عن توجهات الصحافة الإسرائيلية، لأنها توجهات تظهر الاهتمام الرسمي في إسرائيل تجاه الأمة العربية، وكذلك الدراسات المستقبلية تجاه الوطن العربي'. والآن بعد أن ركنَت الأمة العربية إلى خديعة اسمها السلام، وتسابقت الأقطار العربية إلى التطبيع مع المغتصِب، ما زال الإسرائيليون يتابعون كلّ صغيرة وكبيرة في الوطن العربي، سواء عبر القراءة المباشرة، أو التحليل لكلّ ما يُنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن فتحت بعض القنوات الفضائية العربية لهم الباب مشرعًا لمخاطبة العرب مباشرة دون واسطة، بخلاف المواقع الصهيونية باللغة العربية التي كثرت مؤخرًا مع موجة التطبيع، مثل 'إسرائيل بالعربية' و'إسرائيل في الخليج' وغيرها من الصفحات الرسمية وغير الرسمية التي تخاطب المواطن العربي عبر 'تويتر' و'فيسبوك'. والمحزنُ في الأمر أنّ إسرائيل تسيطر على الإعلام الرسمي، وتستغل مواقع التواصل الاجتماعي، فيما العرب يسجلون غيابًا حقيقيًا في هذا الجانب - مثل الجوانب الأخرى -.
يتكون الكتاب من خمسة فصول فضلا عن المقدمة والخاتمة والمراجع وهو في 240 صفحة، ويصف الأسير أحمد سعدات، أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تقديمه للكتاب بأنه محاولة جادة لسبر غور المجتمع الصهيوني الذي أقيم على أنقاض الشعب الفلسطيني، وقراءة تناقضاته الملموسة، من دون الاكتفاء بإسقاط الخصائص المشتركة للتجمعات اليهودية، ومعاينة الفرضيات التي طرحتها الحركة الصهيونية بدءًا في اعتبار اليهود شعبًا وأمة بالمعنى السياسي، يراودهم الأمل والحلم بالعودة إلى أرض الميعاد وإحياء تراثها القومي، مرورًا بأنّ هذه الدولة ستُشكّل مصدر إلهام للعودة إلى الحضارة الأوروبية التي انطلقت من رحم اليهودية في مواجهة حضارة الشرق البربرية، وصولًا إلى توقعات ثيودور هرتزل القائد المؤسس للحركة الصهيونية، 'بأنّ الدولة ستُشكّل آلة جبارة لصهر يهود الشتات في أمة عصرية تحيي تراثها القديم وتغنيه في دولة ديمقراطية وعلمانية بامتياز لها هوية'. والكتاب - حسب رأي سعدات - وضع علامة استفهام على هوية الدولة وكلّ الفرضيات التي تحدّث عنها هرتزل، إلا فرضية واحدة، وهي الدور الوظيفي الإمبريالي الذي لعبته إسرائيل على مدار وجودها ولا تزال تؤديه بامتياز، والذي يُشكّل المصدر الوحيد لقوتها واستمرارها.
ميزةُ كتاب 'إسرائيل دولة بلا هوية' أنه يستند إلى معلومات ومصادر اتسمت بالنزاهة وبالاستناد إلى منهج علمي رصين، أغلبها لباحثين ومؤرخين إسرائيليين، بعضهم مناهضون للصهيونية وآخرون مَن اعتَبروا بأنّ الصهيونية استنفدت أغراضها بإقامة الدولة، والذين يُصنّفون بأكاديميي مرحلة ما بعد الصهيونية، فضلًا عن النقاشات الدائرة داخل الدولة ومؤسساتها، وبين الأقطاب المتناقضة في محاور التناقضات التي يختزنها المجتمع الصهيوني، الأمرُ الذي يُكسب الكتاب طابعه الموضوعي، بعيدًا عن تذويب الحقائق. والخلاصةُ التي وصل إليها الباحثان هي أنّ العامل الموحد للمجتمع الصهيوني بات الإحساس المشترك بالخطر الذي يجري تضخيمه من خلال مؤسسات الدولة؛ هذا العامل الذي جعل مؤسسة الجيش والأمن بشكل عام مصدر إجماع من كلّ السكان المستوطنين اليهود.
إنّ النقطة الأساسية في الكتاب هي هوية دولة 'إسرائيل'؛ فهويةُ الدولة تُعتبر الدعامة الأساسية الأولى لشرعيتها، و'إسرائيل' - كما يقول الباحثان - لا تملك هوية واضحة ومحددة؛ فهل هويتها يهودية أم ديمقراطية أم قومية أم غير ذلك؟ فالإشكاليةُ الرئيسية للكتاب تتمحور حول محاولة 'إسرائيل' سنّ القوانين التي تهدف إلى تحديد الهوية الإسرائيلية بالهوية اليهودية - أي يهودية الدولة - ومطالبة الفلسطينيين والعالم الاعتراف بيهوديتها؛ وقد تجلّى ذلك في سنّ قانون القومية من قبل الكنيست الإسرائيلي. وهنا يبرز السؤال الجوهري كما تساءل المؤلفان: هل صبغ الدولة بالهوية اليهودية يحسم ويحلّ أزمة هوية الدولة الإسرائيلية؟
يصل الكتاب إلى حقيقة أنّ 'إسرائيل' دولة بلا هوية، من خلال الاعتماد على التاريخ الفلسطيني بشكل عام، والتاريخ الحديث لنشأة الحركة الصهيونية ومن بعدها 'دولة إسرائيل' بشكل خاص؛ فمكوناتُ الدولة وما تنطوي عليه من تناقضات وتشوّهات قادت وستقود إلى مزيد من التصدعات والصراعات بين مركّبات المجتمع الصهيوني، لقد بذل قادة الحركة الصهيونية محاولات تاريخية لخلق واختراع 'الشعب اليهودي' وهويته القومية؛ 'ومثّل ظهور الصهيونية حدثًا مهمًا في تاريخ اليهودية، وإلى حدّ بعيد انقلابًا على أهم المعتقدات الدينية والتراث اليهودي، حيث تلخّصت وظيفتُها التاريخية في مهمتين؛ الأولى محاولة اختراع قومية يهودية، والثانية تمثلت بإقامة دولة يهودية، وقد نجحت في المهمة الثانية بينما أخفقت في المهمة الأولى، الأمرُ الذي ترك علامة استفهام كبيرة على مستقبل هذه الدولة التي فشلت في إذابة الجماعات اليهودية المهاجرة من أكثر من 70 بلدًا في بوتقة واحدة، وبالتالي فإنّ هذا الإخفاق ألقى وسيُلقي بظلاله الثقيلة على هوية الدولة في السنوات المقبلة'. ويرى الباحثان عقل صلاح وكميل أبو حنيش أنه في ضوء هذا الخلل الواضح الذي يعتري التعريف، وفي ظلّ احتدام التناقضات بين مكوّنات الدولة المتباينة، فإنّ إمكان تفسخ إسرائيل من الداخل على أساس هويّاتي أمرٌ وارد، غير أنه لا يكفي القول إنّ بقاءها أو عدم بقائها مرهون بهذا العامل، وإنما مرهونٌ ومحكومٌ بجملة من العوامل الداخلية والخارجية، وقد تكون مسألة الهوية أحد هذه العوامل التي من شأنها أن تمثّل أحد العوائق أمام تطور الدولة، ويبقى المستقبل مفتوحًا على الاحتمالات كافة.
إنّ كتاب 'إسرائيل دولة بلا هوية' كتابٌ مهم يشجّع للتوسع في هذا النوع من الإنتاج الفكري المواكب للتغيرات التي تحدث في الجهة الأخرى من جبهة الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والانعتاق والعيش بكرامة، أسوةً بالشعوب والأمم الأخرى، لذا لا ينبغي الركون إلى أوهام السلام الزائف وترك الاهتمام بمعرفة العدو، ولا ينبغي أن ننشغل بكثرة التصريحات الإسرائيلية حول قرب زوال الكيان الصهيوني، في وقت أصبح الكيان يسرح فيه ويمرح في الأوطان العربية، بل أرى أنّ الوقت ملح أكثر من أيّ وقت مضى لمعرفة ماذا يفكر العدو؟ وأذكر أني قرأتُ مقالًا للدكتورة بثينة شعبان المستشارة السياسية والإعلامية في الرئاسة السورية، ذكرَت فيه أنها سألت يومًا السياسي اللبناني الراحل ميشيل إدة، وهو متخصصٌ في الصراع العربي الإسرائيلي والحركة الصهيونية: ما هي جريدتك المفضّلة؟ فأجابها فورًا 'هآرتس'، وقال إنه يبدأ يومه بقراءتها، لأنّ قراءة العدو - حسب رأيه - أساسيةٌ في فهم ماذا يخطط لنا وبالتالي في رسم خطواتنا لمواجهته، لذا فإنه يمتلك مكتبة مهمة من الدراسات والكتب والاستراتيجيات التي يضعها الكيان الصهيوني حول العالم العربي. وتقول بثينة شعبان إنها منذ ذلك التاريخ، الذي يعود إلى أكثر من عشرين عامًا، وهي تتابع قدر المستطاع ما يصدر عن بلداننا من قِبلِ الكيان الصهيوني، 'علمًا أنّ ما يصدر كثير ولا يمكن لشخص بمفرده أن يشكّل إحاطة كاملة به، ولكنّ الوعي بأهمية الاطلاع على خطط أعدائنا ودراساتهم وتحليلاتهم للأحداث في بلداننا أصبح جزءًا لا يتجزأ من الوعي بالحدث ومعالجته'.
كان ميشيل إدة محقًا فيما قال، وما قالته بثينة شعبان أيضًا لا يخلو من أهمية، فما يصدر عن بلداننا العربية من قبل الكيان الصهيوني كثير ولا ينبغي أن تكون المتابعة فردية، بل يجب أن تكون مؤسسية تحقيقًا لمقولة 'اعرف عدوك'. وأنا أتناول هذه النقطة أستذكر ما كتبتُه في مقدمة كتابي 'الطريق إلى القدس' الصادر عام 2015 عن 'الجمعية العمانية للكتاب والأدباء': 'أنه لا غنى أبدًا لكلّ مهتم بالشأن العربي والفلسطيني عن توجهات الصحافة الإسرائيلية، لأنها توجهات تظهر الاهتمام الرسمي في إسرائيل تجاه الأمة العربية، وكذلك الدراسات المستقبلية تجاه الوطن العربي'. والآن بعد أن ركنَت الأمة العربية إلى خديعة اسمها السلام، وتسابقت الأقطار العربية إلى التطبيع مع المغتصِب، ما زال الإسرائيليون يتابعون كلّ صغيرة وكبيرة في الوطن العربي، سواء عبر القراءة المباشرة، أو التحليل لكلّ ما يُنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن فتحت بعض القنوات الفضائية العربية لهم الباب مشرعًا لمخاطبة العرب مباشرة دون واسطة، بخلاف المواقع الصهيونية باللغة العربية التي كثرت مؤخرًا مع موجة التطبيع، مثل 'إسرائيل بالعربية' و'إسرائيل في الخليج' وغيرها من الصفحات الرسمية وغير الرسمية التي تخاطب المواطن العربي عبر 'تويتر' و'فيسبوك'. والمحزنُ في الأمر أنّ إسرائيل تسيطر على الإعلام الرسمي، وتستغل مواقع التواصل الاجتماعي، فيما العرب يسجلون غيابًا حقيقيًا في هذا الجانب - مثل الجوانب الأخرى -.