أفكار وآراء

لماذا انتشر الغلو والتطرف بين بعض الشباب؟

يعتبر التطرف والغلو الديني من الآثار السلبية التي ظهرت في العديد من المجتمعات العربية، بصورة متزايدة، على شكل تنظيمات وتيارات سياسية ودينية، وفي موجات متتالية، وقد كُتبت الكثير من التحليلات والتوصيفات لظاهرة الغلو والتطرف من العديد من الباحثين والمهتمين بهذه الظواهر العنيفة، ولا شك أن لكل ظاهرة سياسية، أو دينية، أو اقتصادية،أسبابا دافعة للعنف والتطرف، ومن هذه الأسباب، ما تختزله النفس الإنسانية من ردة فعل فكرية تجاه قضية من القضايا تبرز أو تواجه أفرادا أو جماعات، ويتم تطويعها إلى أفعال قد تكون أقوى من السبب نفسه على شكل فعل آخر مقابل أفعال أخرى، ويكون سببا للغلو والتطرف ونتيجة له، وهذا العنف يقابل لمواجهة الأفكار التي يتم اعتناقها، واعترف به الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه (خريف الغضب)، حيث تحدث فيه عن الأحكام القاسية ـ وكان يقوم بها حمزة البسيوني وسعد زغلول ورياض إبراهيم وصفوت الروبي وغيرهم ـ ويقول الأستاذ هيكل عندما: «وصلت أفكار «أبو الأعلى المودودي» وكتاباته إلى مصر في ظروف ضغط شديد كانت تتعرض له بقايا جماعة الإخوان المسلمين، وكان كثيرون منهم في السجون في ذلك الوقت يقاسون ظروفا صعبة». ولا شك أن أفكار العلامة أبو الأعلى المودودي، أخذت في غير سياقها وظروفها، في قضية «الحاكمية الإلهية»، أو الجاهلية، والتي كانت تتحدث عن الهند الموحدة، وظروف حكم الأغلبية الهندوسية والأقلية المسلمة، ولذلك عندما تحدث الشيخ المودودي عن الديمقراطية في ظل هذه الأغلبية الهندوكية، رأى أنها ستأتي بنظام علماني، يقصي حاكمية الشريعة التي يدين بها المسلمون في الهند، وتحكم وفق هذه الأغلبية، وفي ظل سيطرة الاستعمار البريطاني، وهي أيضا علمانية بشرية دهرية.

ويرى د.محمد عمارة في كتابه (الغلو الديني واللّا ديني)، أن المودودي ُظلم في تحريف فكره في قضية الحاكمية، دون النظر لتوقيت ما كتبه وظروف كتابتها، والجاهلية التي اتخذها بعض الشباب طرحت وكأنها تقع في ظل دول مسلمة، وهذا تخريج خاطئ في فهم ما قاله الشيخ المودودي، فظروف ما كتبه عن الجاهلية لها سياقاتها الوقتية والفكرية في ظل الهند الموحدة فيقول د.عمارة: «المودودي قد صاغ فكره عن الحاكمية في مؤلفاته الرئيسية التي كتبها بين عامي (1936 ـ 1941)، قبل تقسيم شبه القارة الهندية، وظهور باكستان مستقلة سنة 1947.. ويومها في الهند الواحدة ـ كان المسلمون أقلية عددية، لا تتعدى نسبتهم 25% من السكان.. ان الحاكمية البشرية، التي تثمرها الديمقراطية والانتخابات النيابية، هي على الإسلام والمسلمين، ولذلك حرم الانتخابات، ورأى الديمقراطية نقيضا للإسلام». وهو اعتبرها ديمقراطية علمانية بحاكمية،بأغلبية ستقصي الهوية الإسلامية وشرائعها، وهذا يراه خطيرا على المسلمين، لكن المودودي ـ كما يقول د.عمارة، اختلف رأيه بعد ذلك، فعند تقسيم الهند: «انتقل المودودي إلى باكستان، ذات الأغلبية المسلمة، رشح نفسه للانتخابات وفق قواعد الأغلبية والنظام النيابي،لأن الحاكمية البشرية هنا ستكون إسلامية محكومة بحدود الشريعة الإسلامية وثوابتها ومقاصدها.. وتحّدث الرجل عن الديمقراطية الإسلامية، بل «ديمقراطيتنا الإسلامية العريقة» وعن أنه «ليس هناك عاقل يعارض هذه الديمقراطية».

بل إن أبا الأعلى المودودي قال في كتابه المعروف (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة): «كان الصحابة أكثر الناس حبا للديمقراطية وأشدهم تمسكا بالحرية الفكرية. ولم يكن الخلفاء يكتفون باحتمال نتائج الحرية الفكرية من قبل الناس، بل كانوا يستثيرون همهم. ولم يدع أحد من الصحابة أنه لم يخطئ.. وأبو بكر هو القائل: «هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني واستغفر الله» وعمر هو القائل: «لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة». وهذا يؤكد أن الشيخ المودودي، ليس ضد الديمقراطية، بالرغم من أنه وسيلة أتت من الغرب، وتتقارب مع الشورى في الاختيار فيمن يمثل الأمة، وكذلك مقولة الحاكمية، جاءت في ظروف سابقة لاستقلال باكستان من الهند الموحدة، ولذلك الأخذ والتأويل لما قاله الشيخ المودودي، كان فهما خطأ لفكره ورؤيته في قضية تحكيم الشريعة،وعندما انتشر التكفير، ظهور الحاكمية، بين بعض السجناء، ولا شك أن قضية انتشار التكفير المصرية، برزت مع التعذيب والإعدامات التي تمت في عام 1965، ومنها إعدام سيد قطب، ولا شك أنها كانت مغالاة في التعذيب، وأدت في هذا المناخ إلى تأويل كتابات المودودي، بأن النظام كافر أو مرتد، وعندما أصبح التكفير منتشرا بين الشباب، أصدر مرشد الإخوان المسلمين كتابه الشهير: (دعاة لا قضاة)، رد فيها بالتفصيل على مقولات هؤلاء الشباب بتكفير النظام، وحتى المجتمع الذي هادن هذا النظام، ومما قاله مرشد الإخوان في السجن، في رده على موضوع التكفير، من خلال هذا الكتاب: «لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض».. مضيفا في فقرة أخرى من هذا الكتاب: «الشخص يعتبر مسلما في ذات اللحظة التي ينطق فيها بالشهادتين ويلزم أن نعتبره مسلما وأن نعصم دمه وماله وعرضه، ثم تأتي بعد ذلك التكاليف الشرعية.أما المنطق الذي يكفر به المسلم وهو أن علبة الملح لا تصبح سكرا بظاهر ما يكتب عليها فهذا قد يكون عند أرسطو (جدلا وإن كان عند المناطقة لا بقولون ذلك)، أما عند الله ورسوله فالأصل أن يحكم بهذا الظاهر حتى يثبت العكس».

وهذه الردود كان لابد منها، لتوضيح حقائق الدين الصحيحة، بعيدا عن التأويل والتحريف، حتى وإن اختلف البعض مع النظام السياسي، ففتنة التكفير خطيرة جدا، وقد بقي بعضها حتى مع خروج بعض هؤلاء من الشباب من السجون، وهذا سيكون له حديث آخر. ويرى الكاتب الأستاذ فهمي هويدي في كتابه (التدين المنقوص) أن «الفكر المتطرف ليس نبتا شيطانيا ظهر في حياتنا بغير مبرر، وبلا مناسبة، لكنه ابن شرعي لما هو قائم، وحصاد لما زرع من غرس، وحاصل جمع أسباب مرصودة تحت الأعين. ومن الخطأ البين أن يفصل ذلك الفكر عن مجمل الظروف التي أفرزته، أو أن يكون مدخلنا للتعامل معه هو الاتهام والمحاكمة».

وقد لمس فهمي هويدي نفسه معاناة السجن والتعذيب لمدة عامين، بين عامي (1954ـ 1956)، ولعب الأستاذ هيكل دورا في الإفراج عنه، وتم تعيينه كاتبا بعد أنهى دراسته في كلية الحقوق وعمل في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، وكان سبب السجن ـ كما يقول هويدي ـ أن والده كان من قيادات الإخوان! وقد سردت قصته مع السجن في كتابنا (أكاديميون ومفكرون عرفتهم)، ويضيف هويدي في مناقشة التطرف والغلو في كتابه المشار إليه: « من المنطق والتقييم العادل التفريق من أفعال بعض المتطرفين والدين،لأن الأمر يحتاج إلى هذا الفرز الواضح والبين، الذي يفرق بين غالبية الأمة التي تتمسك بالدين الصحيح التي لا تقبل هذا التطرف والإرهاب والغلو، وبين أفعال بعض الجماعات المتطرفة، حتى ولو ادعت أنها تمثل الإسلام والدفاع عن حدوده وتطبيقه». ولا شك أن الغلو والتطرف الفكري، لا يأتي هكذا دون أن يكون أسباب دافعة لهذا التوجه، وفي غياب المعالجة الفكرية، واستبدال ذلك بمعالجات أمنية قاسية، لا تنهي الفكر، وإن اختفى لفترة محدودة، لكنه سرعان ما يعاد مرة أخرى، بعكس الحوار والتوجيه الهادئ للفكر المتطرف، ويقول د. محمد عابد الجابري، في مناقضته لظاهرة التطرف، الأسباب والعلاج، أن هذه الظاهرة تحتاج إلى تقييم وتحليل لأسبابه الكامنة لظهوره فـ: «التطرف هو دائما عبارة عن رد فعل إما على وضعية اجتماعية اقتصادية سياسية تضيق الخناق على الفرد أو الجماعة، وإما على موقف فكري حاد يصدم هدوء الفرد أو الجماعة ويحلّ بالتوازن على مستوى المعتقد والمخيال والرمز. إنه رد فعل لا عقلاني، وذلك بمعنيين: فهو من جهة لا يتجه إلى الأسباب الحقيقية التي أنتجت الوضعية التي تستثيره وتمارس عليه نوعا من العدوان، وهو من جهة أخرى يلجأ إلى «الرأس مال الرمزي» الجماعي ينتقي منه سلاحه». فكيف سار التكفير بعد ذلك، وطرحت معه فكرة الجهاد.. وللحديث بقية: