أعمدة

هوامش ومتون : عارف حمزة... عطب في ثريّا المحبة

كلّما أفقد أحد المحبّين أشعر بحدوث نقص في حسابي برصيد المحبة، التي هي «نار تحرق كلّ دنس» كما قيل، في عالم مليء بالكراهيّات، فرحيل إنسان محبّ أشبه ما يكون بعطب مصباح في ثريّا المحبّة، وترك مساحة مظلمة، ويوما بعد آخر يتناقص هذا الرصيد، حتّى بتّ أخشى أن أصل إلى يوم أعلن به إفلاسي، عندما أتفقّد المحبّين، فلا أرى إلّا أماكن فارغة!

مردّدا قول عمرو بن معد يكرب:

ذهب الذين أحبّهم

وبقيت مثل السيف فردا

دارت برأسي هذه الأفكار عندما بلغني، وكنت ببغداد، خبر وفاة الباحث والفنان السوري عارف حمزة، فتعذّر عليّ المشاركة في تشييعه ودفنه في (العامرات) «وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت»، وكان آخر تواصل لي معه حين علمت بتدهور صحّته، فاستفسرت منه، فأكّد لي أنه يعاني من بعض المشاكل الصحيّة وينتظر أن يتحسّن ليحصل على الموافقات الصحية التي تسمح له بالسفر جوّا، ليتلقى العلاج في مشافي دمشق، ولكنّ الموت كان أسرع، فأطفأ ابتسامته التي لم تكن تفارق شفتيه، واختطفه وسط ذهول محبّيه الذين اعتادوا حضوره ومشاركاته في الفعاليات الثقافية، وكثيرا ما كان يتحدّث عن حبّه لعمان، التي أقام بها أكثر من 10 سنوات، حتى أنّه وضع كتابا حمل عنوان (عُمان بعيون سوريّة)، جمع به شهادات، ومقالات عن عُمان، ووضع كتابا آخر عن المسرح العماني، وله كتب مخطوطة أخرى لا أعرف مصيرها، وفي كلّ ذلك كان يبذل جهدا في الحصول على المعلومات التي يحتاج إليها في كتبه، ويدعمها بصور فوتوغرافية، وكان يحرص على توثيق اللقاءات الثقافية، وسرعان ما ينشرها بصفحته في «الفيسبوك»، فكانت سجلّا للكثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية التي تقام في السلطنة، ويحرص على حضورها، حتى لو أقيمت خارج مسقط، ويأتي إلى المكان الذي تقام به الفعاليّة، بكامل أناقته، متسلّحا بوثّابة روح شابّة، رغم أنه تجاوز الثمانين من العمر، ولم يكن يخفي ذلك، ويتحرّج منه، بل كان يتباهى بكبر سنّه، مع احتفاظه بحيويته، وروح الشباب، والمرح، ويحثّ من يقابله، على الإقبال على الحياة، ويخطّط لمشاريع بحثيّة بعيدة الأمد، وكثيرا ما كان يتّصل بي في أوقات مختلفة مستفسرا عن تاريخ حدث ثقافي، أو اسم شخص شارك بفعالية فاته حضورها، أو أنه يبحث عن صورة، وفي كل ذلك، كان يعمل بشغف، وجدّ، وصبر نحلة، وهو المهتم بالنحل، والمناحل، حتى أنه ألقى محاضرات في تربية النحل، وفوائد العسل، وله كتب في ذلك، وكثيرا ما كنت أستغرب جمعه كلّ تلك الهوايات، والاهتمامات التي يبدي لها حماسا متساويا.

ولم يكن يتحدّث عن نفسه، إلّا في حالات خاصة، حين يسأله شخص عن ذلك، ولذا لم يعرف الكثيرون أنه صاحب تاريخ مسرحي بدأ في الستينات بدمشق، كاتبا وممثلا في الكثير من المسرحيات، منذ انضمامه إلى فرقة (زهير الشوا) في بدايات وقوفه على الخشبة، بل وشارك في عروض مسرحية غنائية مع شكيب غنّام والمطربة دلال الشمالي، التي ظلّ تواصله معها مستمرّا، مثلما كان يفعل مع فنانين سوريين عمل معهم، وكثيرا ما حدّثني عنهم بحبّ، مثلما يعتزّ بكونه من مؤسسي مسرح (اتحاد العمال) في سوريا حيث قدّم عدة مسرحيات، والمسرح الشبيبي المركزي، وكان آخر ظهور له في مشهد قصير بالمسلسل العماني (اسمع وشوف) الذي عرض خلال شهر رمضان.

والأهمّ من كلّ ما ذكرت أنّه كان إنسانا دافئا، وكريما، وكثيرا ما كان يغمرنا بمحبّته التي تفيض من قلبه، وتطفو على وجهه، ذلك الوجه الذي لا أستطيع تخيّله دون أن يكون مبتسما، ويقينا أنه حافظ على ابتسامته حتى انطفاء النفس الأخير في صدره الذي هو حديقة محبّة.