مستقبل الحضارة الغربية «1-1» ملاحظات أوليَّة
الثلاثاء / 15 / شوال / 1443 هـ - 22:04 - الثلاثاء 17 مايو 2022 22:04
السؤال الذي قد يطرأ على ذهن القارئ حينما يطالع عنوان هذه السلسلة من المقالات تحت عنوانها الرئيس هو: لماذا الحضارة الغربية تحديدًا؟ وهل الحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة في عالمنا؟ وهنا أود التأكيد ابتداءً على أنني أتناول الحضارة الغربية، لا باعتبارها الحضارة الوحيدة، وإنما باعتبارها الحضارة التي لا تزال مهيمنة. ولكني أود التأكيد في الوقت ذاته على أن هذه الهيمنة لا تبرر اختزال أو إسقاط الحضارات الأخرى من المشهد الراهن: فالحضارات (التي يكون لكل منها ملامح خاصة بها) تتعاقب عبر التاريخ، وتتجاور أحيانًا، ولكن إحداها تكون في مرحلة تألق وهيمنة، بينما تكون حضارات أخرى في حالة تدهور أو نشوء أو سكون مؤقت. والواقع أن المشهد الراهن يشي بتحولات حضارية يجري فيها إزاحة الحضارة الغربية وصحوة حضارات أخرى.
وعلى الرغم من أن الحضارة الغربية لا تزال في حالة هيمنة، فقد رأى من قبل بعض المفكرين الغربيين العظام- من أمثال: اشبنجلر وتوينبي- أن هذه الحضارة التي بلغت أوج تطورها قد دخلت مرحلة التدهور أو الأفول بفعل عوامل داخلية تهدد وجودها واستمرارها! فلقد رأى اشبنجلر أن ديمقراطية الغرب الليبرالية قد استحالت إلى الأقلية البورجوازية الحاكمة التي تسيطر على جموع الشعب، وتوظف التقدم الصناعي والتكنولوجي في الرغبة في التوسع العسكري والهيمنة على العالم، وهو ما سيؤدي إلى اشتباك القارات كلها في الحروب التي ستدخلها الهند والصين وجنوب أفريقيا وروسيا والبلاد الإسلامية وجميع الشعوب (وهكذا كان اشبنجلر يتنبأ بالحروب التي ستنشب في العالم حتى قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى). وفضلًا عن ذلك، فقد رأى أن تلاشي الشعور الديني يؤثر بالضرورة على القوة الروحية المحفزة للثقافة الإبداعية، كما أن اضمحلال تلك الحضارة مرتبط بهيمنة لغة المال وسلطان النقود التي أصبحت أصلًا لتقدير قيمة الأشياء التي كانت لها قيمة حقيقية في ذاتها، كالأرض والمنازل والماشية: فالنقود في آخر الأمر أصبحت مرغوبة أكثر من الرغبة في تلك الأشياء التي وُجِدت النقود أصلًا لتقدير قيمتها!
لعلنا نجد أن نبوءة اشبنجلر تتحقق في عالمنا الراهن: هذا فيلسوف يقرأ التاريخ الإنساني، وقد دعم توينبي من بعده كثيرًا من تنبؤاته في دراسته لتاريخ الحضارات التي استغرقت أربعين سنة. لقد لاحظ الفيلسوف اشبنجلر Oswald Spengler هذه الحقائق بوضوح، وأفاض القول فيها؛ فلقد فسر الحضارة تفسيرًا بيولوجيًّا، بمعنى أنها كائن حي ينشأ ويفنى ويموت. وهو يموت لأنه قد بلغ نهايته، أي بلغ تلك المرحلة التي لا يملك فيها سوى الحنين إلى الماضي الذي لم يعد موجودًا. ومن هنا، فإن نظرية التقدم، التي تتصور حركة التاريخ على أنها حركة تقدم باستمرار، هي نظرية خاطئة، تسيء فهم تاريخ الحضارات. ولكن الغرب قد وجد في هذه النظرية تبريرًا لغروره الذي يعتبر الحضارة الغربية مركز الحضارات، وغاية ما بلغته من تطور، وهذا الغرور هو ما جعله يضغط تاريخًا كتاريخ مصر الذي دام آلاف السنين في بضع صفحات، بينما انتفخ تاريخ نابليون الذي يتجاوز قليلًا عشر سنوات، ليشمل مجلدات. بل إن الغرب يقسم التاريخ الإنساني إلى قديم ووسيط وحديث ومعاصر، من منظور الحضارة الغربية، بينما هذه الحضارة تسبقها حضارات عديدة هي: الحضارة المصرية (2400-205 ق.م) والهندية (1500-1100 ق.م) والصينية (1300-200 ق.م) والكلاسيكية (اليونانية والرومانية 600 ق.م-400 م) والإسلامية (700-1200م). ولذلك، فإنه يرى أن الحضارة الغربية التي نشأت إرهاصاتها الأولى حوالي سنة 900 سوف تموت كغيرها من الحضارات التي سبقتها، وهو في كتابه «انحلال الغرب»- الذي صدر بعد الحرب العالمية الأولى- يتنبأ بموتها حوالي سنة 2400.
وبصرف النظر عن أن التواريخ التي يذكرها اشبنجلر هي تواريخ تقريبية بحسب المعلومات المتاحة في عصره (فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الحضارة المصرية القديمة ترجع إلى عهد أبعد كثيرًا مما يذكره)- فإننا حينما نتأمل موقفه في مجمله، سنجد أن العلل الأخلاقية والروحية (بمعنى اعتلال الأخلاق والروح) هي التي تكمن وراء اعتقاده في أن الحضارة الغربية في مرحلة أفولها: لأن هذه الحضارة يسودها الآن منطق الآلية والقوة المادية؛ إذ يُقاس كل شيء بقوة الأحصنة وبقيمته النقدية، لا بقوته الروحية، وتسود الاتجاهات اللادينية، ويغيب عنها الإبداع الفني والفلسفي، وتحرك القوى الاقتصادية والمادية شؤون السياسة... مثل هذه الحضارة لا بد أن تكون قد فقدت طاقتها الروحية وقدرتها الإبداعية.
ولكننا نجد في مواجهة ذلك رؤى أخرى معاصرة، قد انشغلت بالدفاع عن هيمنة الحضارة الغربية الراهنة، ومحاولة تبرير وجودها واستمراره، ولعل أهم تلك الرؤى تتمثل في نظريتي فوكوياما وهنتنجتون المثيرتين لكثير من الشك والجدل. ولا شك في أن الأمر يزداد تعقيدًا، حينما لا نكتفي بالوقوف عند تأمل مصير أو مستقبل الحضارة الغربية المهيمنة، وإنما نناقش أيضًا علاقة هذه الحضارة بحضارات الشعوب الأخرى التي تخضع بعضها لهذه الهيمنة، في حين تحاول شعوب أخرى أن تُبقِي على خصوصيتها. تلك مسائل شائكة تمس صميم حياتنا ووجودنا، ونحن كموجودات بشرية لا نملك شيئًا حيال طغيانها، ولكننا نملك على الأقل فهمها، وهذا الفهم يمكن أن يحررنا على الأقل من الوقوع في فتنتها؛ وهذا هو ما يمكن أن يكفل لنا في النهاية الوعي بأهمية هذا التحرر باعتباره وعيًا بالخصوصية والهوية التي ينبغي الحفاظ عليها في مواجهة عالم مجنون يتجه نحو الهاوية.
سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»
وعلى الرغم من أن الحضارة الغربية لا تزال في حالة هيمنة، فقد رأى من قبل بعض المفكرين الغربيين العظام- من أمثال: اشبنجلر وتوينبي- أن هذه الحضارة التي بلغت أوج تطورها قد دخلت مرحلة التدهور أو الأفول بفعل عوامل داخلية تهدد وجودها واستمرارها! فلقد رأى اشبنجلر أن ديمقراطية الغرب الليبرالية قد استحالت إلى الأقلية البورجوازية الحاكمة التي تسيطر على جموع الشعب، وتوظف التقدم الصناعي والتكنولوجي في الرغبة في التوسع العسكري والهيمنة على العالم، وهو ما سيؤدي إلى اشتباك القارات كلها في الحروب التي ستدخلها الهند والصين وجنوب أفريقيا وروسيا والبلاد الإسلامية وجميع الشعوب (وهكذا كان اشبنجلر يتنبأ بالحروب التي ستنشب في العالم حتى قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى). وفضلًا عن ذلك، فقد رأى أن تلاشي الشعور الديني يؤثر بالضرورة على القوة الروحية المحفزة للثقافة الإبداعية، كما أن اضمحلال تلك الحضارة مرتبط بهيمنة لغة المال وسلطان النقود التي أصبحت أصلًا لتقدير قيمة الأشياء التي كانت لها قيمة حقيقية في ذاتها، كالأرض والمنازل والماشية: فالنقود في آخر الأمر أصبحت مرغوبة أكثر من الرغبة في تلك الأشياء التي وُجِدت النقود أصلًا لتقدير قيمتها!
لعلنا نجد أن نبوءة اشبنجلر تتحقق في عالمنا الراهن: هذا فيلسوف يقرأ التاريخ الإنساني، وقد دعم توينبي من بعده كثيرًا من تنبؤاته في دراسته لتاريخ الحضارات التي استغرقت أربعين سنة. لقد لاحظ الفيلسوف اشبنجلر Oswald Spengler هذه الحقائق بوضوح، وأفاض القول فيها؛ فلقد فسر الحضارة تفسيرًا بيولوجيًّا، بمعنى أنها كائن حي ينشأ ويفنى ويموت. وهو يموت لأنه قد بلغ نهايته، أي بلغ تلك المرحلة التي لا يملك فيها سوى الحنين إلى الماضي الذي لم يعد موجودًا. ومن هنا، فإن نظرية التقدم، التي تتصور حركة التاريخ على أنها حركة تقدم باستمرار، هي نظرية خاطئة، تسيء فهم تاريخ الحضارات. ولكن الغرب قد وجد في هذه النظرية تبريرًا لغروره الذي يعتبر الحضارة الغربية مركز الحضارات، وغاية ما بلغته من تطور، وهذا الغرور هو ما جعله يضغط تاريخًا كتاريخ مصر الذي دام آلاف السنين في بضع صفحات، بينما انتفخ تاريخ نابليون الذي يتجاوز قليلًا عشر سنوات، ليشمل مجلدات. بل إن الغرب يقسم التاريخ الإنساني إلى قديم ووسيط وحديث ومعاصر، من منظور الحضارة الغربية، بينما هذه الحضارة تسبقها حضارات عديدة هي: الحضارة المصرية (2400-205 ق.م) والهندية (1500-1100 ق.م) والصينية (1300-200 ق.م) والكلاسيكية (اليونانية والرومانية 600 ق.م-400 م) والإسلامية (700-1200م). ولذلك، فإنه يرى أن الحضارة الغربية التي نشأت إرهاصاتها الأولى حوالي سنة 900 سوف تموت كغيرها من الحضارات التي سبقتها، وهو في كتابه «انحلال الغرب»- الذي صدر بعد الحرب العالمية الأولى- يتنبأ بموتها حوالي سنة 2400.
وبصرف النظر عن أن التواريخ التي يذكرها اشبنجلر هي تواريخ تقريبية بحسب المعلومات المتاحة في عصره (فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الحضارة المصرية القديمة ترجع إلى عهد أبعد كثيرًا مما يذكره)- فإننا حينما نتأمل موقفه في مجمله، سنجد أن العلل الأخلاقية والروحية (بمعنى اعتلال الأخلاق والروح) هي التي تكمن وراء اعتقاده في أن الحضارة الغربية في مرحلة أفولها: لأن هذه الحضارة يسودها الآن منطق الآلية والقوة المادية؛ إذ يُقاس كل شيء بقوة الأحصنة وبقيمته النقدية، لا بقوته الروحية، وتسود الاتجاهات اللادينية، ويغيب عنها الإبداع الفني والفلسفي، وتحرك القوى الاقتصادية والمادية شؤون السياسة... مثل هذه الحضارة لا بد أن تكون قد فقدت طاقتها الروحية وقدرتها الإبداعية.
ولكننا نجد في مواجهة ذلك رؤى أخرى معاصرة، قد انشغلت بالدفاع عن هيمنة الحضارة الغربية الراهنة، ومحاولة تبرير وجودها واستمراره، ولعل أهم تلك الرؤى تتمثل في نظريتي فوكوياما وهنتنجتون المثيرتين لكثير من الشك والجدل. ولا شك في أن الأمر يزداد تعقيدًا، حينما لا نكتفي بالوقوف عند تأمل مصير أو مستقبل الحضارة الغربية المهيمنة، وإنما نناقش أيضًا علاقة هذه الحضارة بحضارات الشعوب الأخرى التي تخضع بعضها لهذه الهيمنة، في حين تحاول شعوب أخرى أن تُبقِي على خصوصيتها. تلك مسائل شائكة تمس صميم حياتنا ووجودنا، ونحن كموجودات بشرية لا نملك شيئًا حيال طغيانها، ولكننا نملك على الأقل فهمها، وهذا الفهم يمكن أن يحررنا على الأقل من الوقوع في فتنتها؛ وهذا هو ما يمكن أن يكفل لنا في النهاية الوعي بأهمية هذا التحرر باعتباره وعيًا بالخصوصية والهوية التي ينبغي الحفاظ عليها في مواجهة عالم مجنون يتجه نحو الهاوية.
سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»