الرحمة المُحتكرة
الاثنين / 14 / شوال / 1443 هـ - 19:30 - الاثنين 16 مايو 2022 19:30
تظهر في خضم الأحداث كتابات وتعليقات شخصية لأناس أدمنوا إطلاق الكلام على عوانه بلا هدى ولا نص مبين، فيمنحون أنفسهم حق إصدار الأحكام، ومصادرة حقوق الآخرين في إبداء الرأي، والتعبير عما فاضت به العقول والقلوب، وكأنهم حراس للحواس أو وكلاء للخالق على الخلائق. وقد ظهر ذلك جليًا بعد استشهاد الإعلامية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة، التي ترحم عليها الملايين من نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي، وقُوبل الترحم باستهجان من البعض بذريعة أنه لا تجوز الرحمة لغير المسلم، مطلقين أحكامًا على امرأة عربية فلسطينية قُتلت وهي تقاوم بالحبر والخبر والصوت والصورة الاحتلال الصهيوني لبلدها فلسطين، فمن هو الشهيد إن لم يكن المدافع عن أرضه وعرضه، المرابط على خطوط النار ضد العدو المغتصب، وهو حال الإنسان الفلسطيني المقاوم مهما كانت ديانته أو مرجعيته الأيديولوجية.
إن إثارة النقاش حول الترحم على غير المسلم ليست وليدة اللحظة، فقد سبقت هذه الجريمة حالات أخرى منها ترحم الشيخ يوسف القرضاوي على بابا الروم الكاثوليك يوحنا بولص الثاني حين وفاته سنة 2005 بقوله: «ندعو الله تعالى أن يرحمه ويثيبه بقدر ما قدّم من خير للإنسانية، وما خلف من عمل صالح أو أثر طيب»( معتز الخطيب، موقع الجزيرة نت)، وهو ما أثار الكثير من الاستهجان وردود الأقوال على القرضاوي، مما يعني أن الترحم لغير المسلم مرفوض من قبل البعض، مهما كان قائله سواء رجل من الدهماء أو من الفقهاء.
إن الباحث عن منزلة الرحمة في الوجود سيجدها صفة من صفات الخالق عز وجل فهو الرحمن الرحيم الواسعة رحمته لكل شيء بشرًا وحجرًا، ناهيك عن أن لفظة الرحمة قد ورد ذكرها في القرآن الكريم (268) مرة، ففي سورة المائدة الآية (82) يقول الله تعالى: « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون». وتأتي الرحمة بعدة معاني منها المودة والعطف والجنة والنبوة، وتأتي بمعنى القرآن الكريم فهو رحمة للناس، والرحمة تعني المطر والرزق والنعمة، بمعنى العفو والمغفرة.
تتجلى عظمة الرحمة في أنها مفتاح الدخول إلى الجنة، فالناس لا يدخلون الجنة بأفعالهم، وإنما برحمة رب العالمين، وهنا نُذكر بحديث الرسول «صل الله عليه وسلم» (في كل كبد رطبة أجر) في ختام حديثه عن الرجل الذي سقى الكلب فغفر الله وشكره، وأيضًا وقوف النبي صل الله عليه وسلم لجنازة اليهودي احترامًا لآدميته وإنسانيته.
إن من يصدر أحكامًا تُحرم الترحم على البشر، يظهر جهله بفهم النصوص، فيظهر الكراهية وينشر البغضاء بين الناس، فقصوره المعرفي يمنعه من التعمق في المعاني الإنسانية للدين الإسلامي، وينحو به إلى حدود التعصب وعمي البصر والبصيرة ونكران الواقع.
لقد تعايشت الطوائف والإثنيات في المنطقة العربية جنبًا إلى جنب تحت ظل دول وإمارات إسلامية، حافظت خلالها المكونات العرقية والإثنية على العهود وروابط الجوار والتفاهم، وقد قاوم العرب المسلمون منهم والنصارى التدخلات في المنطقة من التتريك إلى الاستعمار الأوروبي، وخليفته الكيان الصهيوني، ولذلك نطرح تساؤلات من قبيل هل يجوز لنا الترحم على فارس الخوري والحكيم جورج حبش، والمناضل وديع حداد، وتريزا هلسه، وآلاف الشهداء المسيحيين الذين استشهدوا دفاعًا عن الأمة العربية، أو غيرهم من الشخصيات التي أبدعت وأجادت في العديد من المجالات الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها. لذلك فإن محاولات إفراغ المنطقة العربية من مكوناتها العرقية والإثنية لا تخدم إلا الكيان الصهيوني، ليجد شرعية وتبرير في الاحتفاظ بفلسطين وطنا لليهود، تحت ذريعة وجوده في محيط طائفي.
أخيرًا نقول لمن لا يجد في ذاته رحمة لغير طائفته بأن الرحمة تُطلب من الله الرحمن الرحيم، فرحمته قد وسعت كل شيء.
* محمد الشحري كاتب وروائي عماني
إن إثارة النقاش حول الترحم على غير المسلم ليست وليدة اللحظة، فقد سبقت هذه الجريمة حالات أخرى منها ترحم الشيخ يوسف القرضاوي على بابا الروم الكاثوليك يوحنا بولص الثاني حين وفاته سنة 2005 بقوله: «ندعو الله تعالى أن يرحمه ويثيبه بقدر ما قدّم من خير للإنسانية، وما خلف من عمل صالح أو أثر طيب»( معتز الخطيب، موقع الجزيرة نت)، وهو ما أثار الكثير من الاستهجان وردود الأقوال على القرضاوي، مما يعني أن الترحم لغير المسلم مرفوض من قبل البعض، مهما كان قائله سواء رجل من الدهماء أو من الفقهاء.
إن الباحث عن منزلة الرحمة في الوجود سيجدها صفة من صفات الخالق عز وجل فهو الرحمن الرحيم الواسعة رحمته لكل شيء بشرًا وحجرًا، ناهيك عن أن لفظة الرحمة قد ورد ذكرها في القرآن الكريم (268) مرة، ففي سورة المائدة الآية (82) يقول الله تعالى: « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون». وتأتي الرحمة بعدة معاني منها المودة والعطف والجنة والنبوة، وتأتي بمعنى القرآن الكريم فهو رحمة للناس، والرحمة تعني المطر والرزق والنعمة، بمعنى العفو والمغفرة.
تتجلى عظمة الرحمة في أنها مفتاح الدخول إلى الجنة، فالناس لا يدخلون الجنة بأفعالهم، وإنما برحمة رب العالمين، وهنا نُذكر بحديث الرسول «صل الله عليه وسلم» (في كل كبد رطبة أجر) في ختام حديثه عن الرجل الذي سقى الكلب فغفر الله وشكره، وأيضًا وقوف النبي صل الله عليه وسلم لجنازة اليهودي احترامًا لآدميته وإنسانيته.
إن من يصدر أحكامًا تُحرم الترحم على البشر، يظهر جهله بفهم النصوص، فيظهر الكراهية وينشر البغضاء بين الناس، فقصوره المعرفي يمنعه من التعمق في المعاني الإنسانية للدين الإسلامي، وينحو به إلى حدود التعصب وعمي البصر والبصيرة ونكران الواقع.
لقد تعايشت الطوائف والإثنيات في المنطقة العربية جنبًا إلى جنب تحت ظل دول وإمارات إسلامية، حافظت خلالها المكونات العرقية والإثنية على العهود وروابط الجوار والتفاهم، وقد قاوم العرب المسلمون منهم والنصارى التدخلات في المنطقة من التتريك إلى الاستعمار الأوروبي، وخليفته الكيان الصهيوني، ولذلك نطرح تساؤلات من قبيل هل يجوز لنا الترحم على فارس الخوري والحكيم جورج حبش، والمناضل وديع حداد، وتريزا هلسه، وآلاف الشهداء المسيحيين الذين استشهدوا دفاعًا عن الأمة العربية، أو غيرهم من الشخصيات التي أبدعت وأجادت في العديد من المجالات الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها. لذلك فإن محاولات إفراغ المنطقة العربية من مكوناتها العرقية والإثنية لا تخدم إلا الكيان الصهيوني، ليجد شرعية وتبرير في الاحتفاظ بفلسطين وطنا لليهود، تحت ذريعة وجوده في محيط طائفي.
أخيرًا نقول لمن لا يجد في ذاته رحمة لغير طائفته بأن الرحمة تُطلب من الله الرحمن الرحيم، فرحمته قد وسعت كل شيء.
* محمد الشحري كاتب وروائي عماني