جرة قلم: أحمد الفلاحي وسخاء الذاكرة
الثلاثاء / 8 / شوال / 1443 هـ - 15:07 - الثلاثاء 10 مايو 2022 15:07
تتميز كتابات الأديب العماني أحمد الفلاحي بسخاء غير منقطع للذاكرة، فهو حين يؤلف كتابًا في أي شأن فكأنه يفتح بابًا مشرعًا لذاكرة غزيرة تتسم بالتراكم. أتذكر حين زار نزار قباني مسقط، وهي ربما كانت زيارته الأولى، وقد تميزت بحضور جماهيري غير عادي، ما تسبب في زحمة في الشارع المؤدي إلى النادي الثقافي، تحدث عنها الشاعر نفسه (قارنها بزحمة مشابهة حدثت له حين زار السودان)، واعتبرها نموذجًا على حضور باهر كان يختمر شعرًا في ضمائر وقلوب الناس.
بعد تلك الأمسية ذهبنا مجموعة من الأصدقاء لزيارة الشاعر السوري في الفندق الذي أقام فيه وهو فندق هوليدي إن فرع الخوير، وكان يؤم فريق الزيارة أحمد الفلاحي وسيف الرحبي، وعبدالله بن ناصر الرحبي، أتذكر كان معنا كذلك الفنان التشكيلي المقيم حاليًا في الإمارات بدر النعماني، والكاتب والمترجم المقيم حاليًا في موسكو أحمد الرحبي.
فكانت جلسة عشاء في مطعم الفندق وكان صناجة عمان الأستاذ أحمد الفلاحي من تتدفق أوتاره بالأخبار والأشعار. وكان أكثر ما أثار اندهاش نزار الذاكرة السخية لأحمد الفلاحي، حين اكتشف نفسه أمام حافظة تستعرض عليه تفاصيل ودقائق أدبية مما نسيه الشاعر نفسه، وحفظه قارئه الفلاحي عن ظهر قلب، مثل المرثيات والغزليات، وسمعنا حينها قصيدة كاملة لنزار في رثاء الرئيس جمال عبدالناصر في غير موعدها، إلى جانب قصائده في رثاء زوجته بلقيس، ناهيك عن قصائد الغزل التي عرف بها قباني، واستعرضتها ذاكرة الفلاحي صافية كمن يقرأ من مجلد أو شاشة أمام عينيه مباشرة دون خطأ أو زلة أو تعثر. وما إن سافر نزار ووصل إلى مسكنه، إلا وكتب رسالة إلى سيف الرحبي، قرأناها معا ( وكان حينها العم سيف يسكن معنا في بيت والدي بالحيل الجنوبية)، وكان نصف الرسالة تقريبا عن اندهاش نزار من ذاكرة الفلاحي التي استحضرت في ذهنه الذاكرة الخرافية للرواة العرب القدامى كالأصمعي الذي كان يلقب بصناجة العرب، والصناجة هي آلة موسيقية كانت معروفة في زمنه، وفي ذلك دلالة شفاهية جميلة وطربية، على أن صوته لا يتوقف عن ذكر ملح الأخبار واستحضار الأشعار، كما هو الحال مع الآلة الطربية الجميلة، وهي الخاصية التي عليها الأستاذ الفلاحي، وقد أطلق لقب صناجة العرب على الأصمعي فقيه اللغة العظيم ابن جني صاحب كتاب (الخصائص).
أنا قرأت كل ما كتب الفلاحي، ولدي جميع كتبه، وربما تأخرت قليلًا فقط عن قراءة كتابه «بطين» (400 صفحة)، منتهزًا أي فرصة لإنهائه، وقد أتيحت لي فرصة حين كنت ذاهبًا إلى ولاية منح ومعي والدتي. بقينا ثلاثة أيام في بيت أختي هناك، كانت كافية لإنهاء الكتاب الذي كان عن أعلام قرية كاتبه الصغيرة «بطين»، وأغلبهم من عائلة الفلاحات، ولكن قسما مهما من الكتاب كان عن الماء، وخصوصًا النزاع بشأن الأنصبة من مياه الفلج الذي كان يروي قرية بطين، وتلك المعاناة التي يعانيها الأهالي ما إن ينضب معين هذا الفلج، الأمر الذي يدفع بعضهم إلى ترك قراهم، والذهاب إلى قرى أخرى يكون فيها ماء، وأفلاجها جارية، وبعضهم من أجل الماء يترك حتى البلاد قاصدًا القارة الإفريقية، وخاصة زنجبار التي كانت تشكل حينها فردوسًا موعودًا. الغريب أني قرأت في تلك الرحلة العائلية رواية الصديق زهران القاسمي التي تدور هي الأخرى حول الأفلاج والماء، حيث تسرد قصة الحياة القاسية لشاب « قافر» يمتلك حاسة حدسية وقدرة خرافية على اكتشاف الماء في أعماق الأرض.
ومن الغرائب أن هذا السخاء الفلاحي ( والفلاحي كذلك عرف بكرم الضيافة) ينطبق على جميع كتبه حتى على أصغرها، وأعني هنا الكتاب الذي هو عبارة عن محاضرة حملت عنوان «عمان في عيون زوارها»، جاء فقط في (52) صفحة. هذا الكتاب رغم صغر حجمه، إلا أنه احتوى على كم كبير ( أو كرم كبير) من المعلومات المهمة، وفي اعتقادي إنه كتاب يستحق أن يقرر على المناهج الدراسية؛ نظرًا لفرائده ولقيمته التوثيقية الكبيرة. وقد جاءت محتويات الكتاب نتيجة لمحاضرة ألقاها الفلاحي في القاهرة كما يقول في المقدمة:« قبل نحو عقدين من الزمن أو أكثر شرفني السيد عبدالله بن حمد البوسعيدي سفيرنا في القاهرة وقتها بدعوته إياي للمشاركة في ندوة ينظمها صالون الفراهيدي ضمن ندواته الثقافية المتنوعة، ليكون منبرًا للثقافة وصوتًا معبرًا عن عمان في ذلك القطر الشقيق»، وبتواضعه المعهود أشار الفلاحي في الكتاب إلى مجهود سابقيه في هذا المجال التجميعي، وخص بالذكر هلال الحجري الذي « أغنى هذا المجال ببحوثه ودراساته الأكاديمية وترجماته المنتقاة من اللغات الأخرى وفي المقدمة منها كتابه الشهير المسمى غواية المجهول».
يستحضر الكتاب مجموعة من الأعلام اللذين زاروا عمان وتركوا بصمتهم في ذاكرتهم، لذلك فإن القارئ في كل سطر سيكتشف معلومة جديدة تتعلق بمن زار عمان عبر خمسة قرون متراكمة ( بداية من القرن الخامس عشر الميلادي ووصولًا إلى القرن العشرين)، ليقف بالتالي أمام حشد كبير من الأسماء التي زارت عمان، وطبيعة وجودهم وما تركوه من آثار، يمكن أن نذكر منهم: بدرو دي كوفيلهام، لود فيكودي فارتيما، دورات باربوسا، أمانويل غودنهو، فيليب دور، الكسندر هاملتون، كريستين نايبور، الرسام الألماني غيورغ فيلهلم بورينفانيد، والطبيب كارل كريمر، والضابط ديفيد ستون، ومكنان، وسالدر، والدكتور هيلز وزوجته، وفي القرن العشرين سنجد جيمس مورس، وجيمس موير ديك، وبرترام توماس، ومبارك بن لندن، وإدوارد هندرسون، وويندل فيلبس، وعبدالمسيح الأنطاكي، ومحمد رشيد رضا.
بعد تلك الأمسية ذهبنا مجموعة من الأصدقاء لزيارة الشاعر السوري في الفندق الذي أقام فيه وهو فندق هوليدي إن فرع الخوير، وكان يؤم فريق الزيارة أحمد الفلاحي وسيف الرحبي، وعبدالله بن ناصر الرحبي، أتذكر كان معنا كذلك الفنان التشكيلي المقيم حاليًا في الإمارات بدر النعماني، والكاتب والمترجم المقيم حاليًا في موسكو أحمد الرحبي.
فكانت جلسة عشاء في مطعم الفندق وكان صناجة عمان الأستاذ أحمد الفلاحي من تتدفق أوتاره بالأخبار والأشعار. وكان أكثر ما أثار اندهاش نزار الذاكرة السخية لأحمد الفلاحي، حين اكتشف نفسه أمام حافظة تستعرض عليه تفاصيل ودقائق أدبية مما نسيه الشاعر نفسه، وحفظه قارئه الفلاحي عن ظهر قلب، مثل المرثيات والغزليات، وسمعنا حينها قصيدة كاملة لنزار في رثاء الرئيس جمال عبدالناصر في غير موعدها، إلى جانب قصائده في رثاء زوجته بلقيس، ناهيك عن قصائد الغزل التي عرف بها قباني، واستعرضتها ذاكرة الفلاحي صافية كمن يقرأ من مجلد أو شاشة أمام عينيه مباشرة دون خطأ أو زلة أو تعثر. وما إن سافر نزار ووصل إلى مسكنه، إلا وكتب رسالة إلى سيف الرحبي، قرأناها معا ( وكان حينها العم سيف يسكن معنا في بيت والدي بالحيل الجنوبية)، وكان نصف الرسالة تقريبا عن اندهاش نزار من ذاكرة الفلاحي التي استحضرت في ذهنه الذاكرة الخرافية للرواة العرب القدامى كالأصمعي الذي كان يلقب بصناجة العرب، والصناجة هي آلة موسيقية كانت معروفة في زمنه، وفي ذلك دلالة شفاهية جميلة وطربية، على أن صوته لا يتوقف عن ذكر ملح الأخبار واستحضار الأشعار، كما هو الحال مع الآلة الطربية الجميلة، وهي الخاصية التي عليها الأستاذ الفلاحي، وقد أطلق لقب صناجة العرب على الأصمعي فقيه اللغة العظيم ابن جني صاحب كتاب (الخصائص).
أنا قرأت كل ما كتب الفلاحي، ولدي جميع كتبه، وربما تأخرت قليلًا فقط عن قراءة كتابه «بطين» (400 صفحة)، منتهزًا أي فرصة لإنهائه، وقد أتيحت لي فرصة حين كنت ذاهبًا إلى ولاية منح ومعي والدتي. بقينا ثلاثة أيام في بيت أختي هناك، كانت كافية لإنهاء الكتاب الذي كان عن أعلام قرية كاتبه الصغيرة «بطين»، وأغلبهم من عائلة الفلاحات، ولكن قسما مهما من الكتاب كان عن الماء، وخصوصًا النزاع بشأن الأنصبة من مياه الفلج الذي كان يروي قرية بطين، وتلك المعاناة التي يعانيها الأهالي ما إن ينضب معين هذا الفلج، الأمر الذي يدفع بعضهم إلى ترك قراهم، والذهاب إلى قرى أخرى يكون فيها ماء، وأفلاجها جارية، وبعضهم من أجل الماء يترك حتى البلاد قاصدًا القارة الإفريقية، وخاصة زنجبار التي كانت تشكل حينها فردوسًا موعودًا. الغريب أني قرأت في تلك الرحلة العائلية رواية الصديق زهران القاسمي التي تدور هي الأخرى حول الأفلاج والماء، حيث تسرد قصة الحياة القاسية لشاب « قافر» يمتلك حاسة حدسية وقدرة خرافية على اكتشاف الماء في أعماق الأرض.
ومن الغرائب أن هذا السخاء الفلاحي ( والفلاحي كذلك عرف بكرم الضيافة) ينطبق على جميع كتبه حتى على أصغرها، وأعني هنا الكتاب الذي هو عبارة عن محاضرة حملت عنوان «عمان في عيون زوارها»، جاء فقط في (52) صفحة. هذا الكتاب رغم صغر حجمه، إلا أنه احتوى على كم كبير ( أو كرم كبير) من المعلومات المهمة، وفي اعتقادي إنه كتاب يستحق أن يقرر على المناهج الدراسية؛ نظرًا لفرائده ولقيمته التوثيقية الكبيرة. وقد جاءت محتويات الكتاب نتيجة لمحاضرة ألقاها الفلاحي في القاهرة كما يقول في المقدمة:« قبل نحو عقدين من الزمن أو أكثر شرفني السيد عبدالله بن حمد البوسعيدي سفيرنا في القاهرة وقتها بدعوته إياي للمشاركة في ندوة ينظمها صالون الفراهيدي ضمن ندواته الثقافية المتنوعة، ليكون منبرًا للثقافة وصوتًا معبرًا عن عمان في ذلك القطر الشقيق»، وبتواضعه المعهود أشار الفلاحي في الكتاب إلى مجهود سابقيه في هذا المجال التجميعي، وخص بالذكر هلال الحجري الذي « أغنى هذا المجال ببحوثه ودراساته الأكاديمية وترجماته المنتقاة من اللغات الأخرى وفي المقدمة منها كتابه الشهير المسمى غواية المجهول».
يستحضر الكتاب مجموعة من الأعلام اللذين زاروا عمان وتركوا بصمتهم في ذاكرتهم، لذلك فإن القارئ في كل سطر سيكتشف معلومة جديدة تتعلق بمن زار عمان عبر خمسة قرون متراكمة ( بداية من القرن الخامس عشر الميلادي ووصولًا إلى القرن العشرين)، ليقف بالتالي أمام حشد كبير من الأسماء التي زارت عمان، وطبيعة وجودهم وما تركوه من آثار، يمكن أن نذكر منهم: بدرو دي كوفيلهام، لود فيكودي فارتيما، دورات باربوسا، أمانويل غودنهو، فيليب دور، الكسندر هاملتون، كريستين نايبور، الرسام الألماني غيورغ فيلهلم بورينفانيد، والطبيب كارل كريمر، والضابط ديفيد ستون، ومكنان، وسالدر، والدكتور هيلز وزوجته، وفي القرن العشرين سنجد جيمس مورس، وجيمس موير ديك، وبرترام توماس، ومبارك بن لندن، وإدوارد هندرسون، وويندل فيلبس، وعبدالمسيح الأنطاكي، ومحمد رشيد رضا.