أعمدة

هل ستنتهي الصحافة؟

 
من غير المفاجئ على الإطلاق أن يُعد أي عمل صحفي يعتمد على الصحافة المتأنية مهما بدرجة كبيرة ومؤثرا على سياسات الدول ومواقفها، وفي الحقيقة يمكن اعتبار هذا الاهتمام دليلا واضحا على أن الاستهلاك وإن استشرى في كل مجالات الحياة وعصبها فإنه ما زال ضعيفا وواهنا أمام القيمة الحقيقية للأشياء. إن المقال الذي نشرته الغارديان عن مجزرة 'قرابين التضامن' لـ أور أوميت أونغر وأنصار شحود والذي استغرق سنوات في التحقيق والتنقيب عن تفاصيل الجريمة ومنفذيها، يعد نموذجا مثاليا لتحقيق طموح الصحفي في عمل جاد ومؤثر، كما يحقق طموح الناس في الكشف عن الحقائق وما يقف وراءها وتحليلها وتقديمها للقراء بتروٍ كمسؤولية أنيطت بالصحافة منذ بداياتها قبل أن تتلاشى مع دوامة الخبر اليومي والمثير.

على صعيد آخر هنالك نموذج عربي جدير بالاهتمام أيضا، وهو من إنتاج شركة ثمانية السعودية، بودكاست احتيال، والذي يتابع فيه مازن العتيبي ومشاري الحمود خلال عام كامل إعلانات الاحتيال التي نراها في كل مكان عبر الإنترنت، والتي تدعو لتداول الأموال والاستثمار وأنت في مكانك، ليأخذنا هذا العمل في رحلة تمتد في أربع حلقات لمقابلة هؤلاء الذين أنشأوا منصات الاحتيال هذه ونتعرف عليهم عن قرب، كما نتعرف على أولئك الذين تعرضوا لعمليات الاحتيال. هذا النوع من الأعمال الصحفية يتطلب إيمانا كبيرا من المؤسسات الصحفية، يقتضي توفير الموارد اللازمة، والثقة بالعاملين على هذه الأعمال في عملية اكتشاف طويلة قد لا تفضي إلى شيء بالضرورة، فكثيرا ما ظن كتّاب مقالة الجارديان 'قرابين التضامن' أنهم وصلوا لطريق مسدود ولن يتمكنوا من مواصلة البحث والوصول لنتائج مهمة، وهذا محتمل في كثير من التحقيقات التي تحمل هذا الطابع.

اشتركتُ قبل عام في مجلة Delayed Gratification، التي تقدم نفسها كصحافة متأنية مستقلة، تعتمد في تمويلها على اشتراكات القراء فحسب وتصدر بشكل فصلي كل أربعة أشهر، كنتُ أنتظر معالجتهم للأحداث التي تصبح الشاغل الأساسي للصحف اليومية والأسبوعية، حتى أن الفضول أعادني لقراءة الكثير من المواد الصحفية الموجودة في الأرشيف، لأقرأ المنهج الذي يعتمدونه في تناول ما سبق وأن تم تناوله باستفاضة في بعض الأحيان مثل حادثة انفجار بيروت. إن شعارهم هو 'مثل الحركات المتأنية مثل الطعام البطيء والسفر البطيء نحن نأخذ وقتا للقيام بالأشياء بشكل صحيح. بدلاً من المحاولات اليائسة في التغلب على وسائل التواصل الاجتماعي وقصص الأخبار العاجلة فيها فأننا نركز على القيم التي نتوقعها جميعا من الصحافة عالية الجودة، الدقة والعمق والسياق والتحليل وآراء الخبراء'.

بلا شك أن هنالك أسئلة كثيرة عن مستقبل هذه الصحافة في ظل المتغيرات الحالية، فالواشنطن بوست مملوكة لجيف بيزوس مالك شركة أمازون وواحد من أثرى رجال العالم، والفيس بوك وانستجرام وواتس اب يملكها مارك زوكربيرغ، وتويتر الذي اشتراه مؤخرا إيلون ماسك صاحب شركة تسلا للسيارات الكهربائية، في حالة أصبحت حديث الجميع لأسابيع مما قد يدعو البعض للتفكير في مستقبل العمل الصحفي الجاد، أمام الرغبة في الربح السريع، حتى في ظل دعوات ماسك مثلا في زيادة مساحات التعبير وحرية الرأي رغما عن كل الحكومات التي تحول دون ذلك. إلا أنه ينبغي بطبيعة الحال أن تبدأ الحكومات هي الأخرى في تقنين استخدام هذه المنصات لأخبار المؤسسات الصحفية الوطنية، مثلما حدث في أستراليا قبل عام، عندما بدأ التفاوض بين الحكومة هناك والفيس بوك حول حصة المؤسسات الصحفية التي يقتبس ويؤخذ منها على المنصة، حتى تستطيع هذه المؤسسات الاستمرار في التشغيل.

شخصيا أفضّل التفكير في الأمر بالعودة لجذور بدايات الصحافة، وهي حاجة الإنسان الأساسية لمعرفة الأخبار، خصوصا إذا كانت هذه الأخبار تؤثر على نوع الغداء الذي سيتناوله اليوم مع عائلته، إن هذه الحاجة باقية بلا شك، وهي ملحة أكثر من أي وقت سابق، أشاهد والدي طيلة إجازة العيد وهو يقلب بين المحطات لمشاهدة آخر أخبار الحرب الأوكرانية الروسية، ويتأفف عند كل توقف، فهو لا يثق أبدا بالأخبار المبثوثة على هذه المحطات، ويكادُ يحفظ عن ظهر قلب أجندات هذه المؤسسات وما الذي تريد قوله وفي صف من هي، ومع ذلك هو لا يكف عن المحاولة والاستماع حتى لمن لا يتفق معهم، هنالك توق كبير لمعرفة المزيد عما يحدث. بودكاست احتيال احتل لفترة طويلة المراتب الأولى في منصات البودكاست في العالم العربي من ناحية الانتشار والاستماع. هنالك دعوات في ظل تفشي البدانة وأمراض السمنة المختلفة للطعام المتوازن والمطبوخ جيدا وغير السريع الذي يطبخ في دقائق، بالتأكيد سندفع أكثر في مطعم يطبخ لنا وجبة كما نريد منذ البداية بدجاج طازج بدلا من ذلك المجمد، لكننا مع الوقت صرنا نعرف أن هذا أنسب لنا ولصحتنا.

حتى منصة تيك توك، خذ من وقتك ساعة كل يوم لاكتشاف هذه المنصة، ليفاجئك ما سترى أن كثيرا من الحسابات المليونية تعتمد طريقة المقاطع المجزئة لقصص طويلة، فالمنصة التي تشعرك بأنها معدة للاستهلاك اللحظي باتت اليوم تقدم حسابات للأخبار، حسابات مخصصة لترجمة ما يحدث في محاكمة جوني ديب وآمبر هيرد، أخرى مخصصة لقص الحكايات الغرائبية من العالم، أو لقص حكايات شخصية تعلق المشاهدين للاستمرار في طلب الأجزاء التالية، إنه بلا شك ليس عصرا للسرعة، بل عصر القصة بامتياز.