أفكار وآراء

قراءة حول دمج صناديق التقاعد الحكومية

دمج صناديق التقاعد الحكومية، يعد العنوان الأكبر في مسيرة إعادة الهيكلة للمنظومة الحكومية نحو التكامل وتحقيق المساواة بين موظفي الحكومة في القطاعين العام والخاص. وعلى وجه العموم فإن صناديق التقاعد تعتبر من المؤسسات التي ليس لها معايير ثابتة تطبق عليها، فهي ليست شركات استثمارية بصفة كاملة تطبق عليها معايير قواعد الشركات التجارية. في المقابل أيضا هي ليست مؤسسات حكومية عامة تطبق عليها القوانين والأنظمة العامة كسائر وحدات الجهاز الإداري للدولة، لأن لديها محافظ استثمارية في أصول متنوعة وعقارات وغيرها من الأدوات الاستثمارية على المستوى المحلي والخارجي. إذاً فإن صناديق التقاعد تأخذ بعدين أساسيين: البعد الاستثماري الذي يجب أن يسود جميع عملياتها التشغيلية حتى تستطيع الوفاء بالتزاماتها المالية المتكررة اتجاه أصحاب المنافع التقاعدية. والبعد الاجتماعي لأنها تحتضن عددا كبيرا (البعض منها وليس كلها) من المتقاعدين الذين ينتظرون معاشات وخدمات أمان اجتماعية بشكل مستمر ومنتظم، عليه فإن الدولة تنظر لها بمنظور مختلف من حيث أنها مؤسسات تحتاج لسيولة مالية مستمرة، لذا فكل عام هناك مخصصات مالية مساهمة من الدولة في تكاليف معاشات ومكافآت ما بعد الخدمة، تدرج ضمن الميزانية العامة للدولة.

من هنا تكمن أهمية التوجه نحو إعادة هيكلة صناديق التقاعد بدمجها من الوضع الحالي في وجود (11) صندوقا إلى صندوقين: أحدهما يعنى بالقطاع المدني والآخر بالقطاع العسكري والأمني، بهدف استدامتها المالية ورغبة من الدولة في تكوين صناديق ذات استثمارات وعوائد مالية كبيرة. وأيضا الهدف السامي من هذا الدمج، هو تطبيق مبادئ العدالة والمساواة بين موظفي الحكومة في المزايا التقاعدية، حيث إنه من غير الممكن أن يتقاعد موظفان يحملان المسمى الوظيفي والدرجة المالية نفسها، وربما خدما الدولة بنفس مدة الخدمة، ويتم التفرقة بينهما في المزايا التقاعدية بعد انتهاء الخدمة، عليه فإن هذا الدمج جاء ليؤسس تطبيق قاعدة المساواة التي هي إحدى مبادئ النظام الأساسي للدولة.

إلا أن ثمة رأيا مغايرا - وإن كان ضعيفا - يرى أن عملية دمج صناديق التقاعد ليست بالخطوة الاستثمارية الجيدة. ويكمن رأي تلك الفئة في أن عملية التنويع الاستثماري في إدارة الصناديق يؤدي في النهاية إلى التميز والتنافسية فيما بينها في طرق الاستثمار والإدارة وبالتالي في حال وجود صدمات مالية داخلية أو خارجية كضعف النمو الاقتصادي فإن تأثير ذلك يختلف حسب درجات المخاطرة في تنويع محافظ استثمارات الصناديق. وأيضا ما حدث إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008م، وتأثر أغلب استثمارات بعض دول المنطقة كونها ضخت استثمارات خارجية كبيرة، في المقابل فإن تأثير الأزمة المالية على استثمارات سلطنة عمان الخارجية لم يكن كبيرا بالدرجة نفسها حيث كان أغلبها في السوق المحلي، رأي يدعم تلك الفئة.

كما أن تعدد صناديق التقاعد، قد يشجع بعضها للعمل على تحسين المزايا والمنافع المالية للمتقاعدين، لأن التأثير المالي لهذا التحسين على حجم تدفق السيولة النقدية (Cash Flow) المطلوبة تكون أقل كلفة في حال كان عدد المشتركين بالصندوق ليس بالعدد الكثير على سبيل المثال، صندوق تقاعد موظفي البنك المركزي العماني، حيث تستطيع الإدارة العليا للصندوق تدبير تلك الزيادة من موارد الصندوق الذاتية. في المقابل فإن تحسين المزايا التقاعدية في حال كون عدد المشتركين بالصندوق كبيرا، على سبيل المثال عدد المشتركين يزيد على (200) ألف مشترك كحال الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، فإن عملية تحسين تلك المنافع قد تواجه تحديا ماليا لأنها تحتاج لسيولة مالية كبيرة. إلا أنه في كل الأحوال فإن اتخاذ قرار تعديل المنافع التقاعدية عادة يتم بعد إجراء دراسة مالية من قبل خبير إكتواري متخصص حيث يقوم بعمل تقديرات مالية مستقبلية لأعوام قادمة حول الوضع المالي للصندوق وما إذا كانت عملية تعديل المنافع التقاعدية من الممكن المضي فيها أم لا. مع هذا وذاك فإن ترجيح كفة عملية دمج صناديق التقاعد هي الأكثر نفعا وتعد خطوة تاريخية ولها فوائد على المستوى الاستثماري، وتقوية الأصول المالية الناتجة عن عملية الدمج كثيرة أعلى من بقائها في صناديق متفرقة وبأحجام صغيرة. كما أن عملية الدمج تتسق مع توجهات الدولة الشبيهة لهذا الدمج ومنها عمل حساب الخزينة المالية الموحد وعمل سجل الأصول المالية للدولة. أيضا فإن عملية الدمج تؤطر وتفعل مبادئ الحوكمة والإشراف والرقابة على استثمارات الصندوق ومجلس الإدارة. أما في حال تعدد الصناديق فإن عملية الإشراف والرقابة على الأعمال التشغيلية والمالية لتلك الصناديق تكون عملية معقدة ومكلفة من الناحية المالية ولا تنسجم مع التوجه العام للدولة الذي يدعو إلى تكامل الأنظمة والقوانين التي تخص أفراد المجتمع.

ولكي نوضح أهمية التدفق النقدي للصناديق وآثار زيادة أو انخفاض أعداد المشتركين أو المتقاعدين، نأخذ مثالا لذلك من صندوق تقاعد موظفي الخدمة المدنية، حيث انخفض عدد المشتركين من (171,470) ألفا في عام 2019م، إلى عدد (163,130) ألفا في عام 2020م، وبنسبة انخفاض بلغت تقريبا (5%)، وبالتالي هذا الانخفاض أدى إلى انخفاض الاشتراكات الشهرية سواء التي تستقطع من المنبع (قبل إرسال راتب الموظف لحسابه البنكي)، أو مساهمة الحكومة الشهرية عن كل موظف والتي تصل إلى نسبة (17%) من الراتب والبدلات التي تدخل في احتساب راتب التقاعد بعد انتهاء الخدمة. وفي المقابل فإنه وكنتيجة طبيعية زاد عدد المتقاعدين المسجلين بالصندوق بنسبة (16.5%) تقريبا في الفترة نفسها من (58,697) ألفا في عام 2019م إلى (68,403) آلاف في عام 2020م. عليه فالصندوق في كلتا الحالتين فقد سيولة مالية شهرية من الاشتراكات الشهرية ويحتاج إلى سيولة مالية لتغطية العدد الإضافي من المتقاعدين الذين انضموا إليه. مع العلم بأنه خلال هذه الفترة تبلغ المعاشات التي يدفعها هذا الصندوق بمفرده مبلغ (44) مليونا شهريا وفي كل سنة يحتاج إلى سيولة مالية تزيد على نصف مليار ريال أي مبلغ (528) مليون ريال لتغطية معاشات التقاعد حسب الأعداد السابقة في حال لم يطرأ عليها تغيير جذري. الأمر الذي يؤكد أن إدارة السيولة المالية للصندوق ليست سهلة وتحتاج استثمارات مالية كبيرة. لذا يلاحظ على المستوى الوطني وحتى الخليجي أن أغلب صناديق التقاعد قد تكون لديها عجوزات مالية تقدر بالمليارات من الدولارات، نظرا لعدم كفاية ما تحصل عليه من الموظف من اشتراك شهري ونظرا لقيام بعض الدول ومنها الخليجية بتأجيل دفع مساهماتها حيث تكون هناك أولويات وطنية أكثر إلحاحا، مع ضمان الدولة بتغذية الصناديق ماليا وقت الحاجة.

وكما هو معلوم فإن صناديق التقاعد الوطنية لديها استثمارات متنوعة في الأسهم والسندات والعقارات، حيث تم تحديد ذلك في بعض القوانين النافذة ويفترض -تطبيقا لمعايير الأداء المؤسسي والشفافية- سرد بعض من تلك الاستثمارات في التقارير السنوية التي تصدرها تلك الصناديق. على سبيل المثال قمت بعمل مقارنة سريعة للتقارير السنوية لصندوق تقاعد موظفي الخدمة المدنية بقراءة البيانات المفتوحة المصدر على موقعه الإلكتروني للفترة من 2015م، إلى 2021م، حيث توضح تلك التقارير بيانات سنوية عن أعداد المشتركين والمتقاعدين وفئاتهم وتوزيعهم الجغرافي بشيء من التفصيل، إلا أنه لوحظ عدم سرد البيانات المتعلقة بالأداء التشغيلي والأصول والاستثمارات التي يديرها الصندوق على المستوى المحلي أو الخارجي، الأمر الذي قد لا يتناسب مع القيم التي حددها الصندوق ومنها مبدأ الشفافية. في مقابل ذلك نجد بأن موقع الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، يعرض بيانات أكثر شمولا وتوضيحا عن مؤشرات الأداء التشغيلي والاستثماري داخل سلطنة عمان أو على المستويين الخليجي والاستثمارات الخارجية. وعلى سبيل المثال فإن التقرير السنوي للهيئة لم يكتف بعرض البيانات التفصيلية للمشتركين والمؤمن عليهم والذي بلغ عددهم حتى مارس 2022م، (239,550) ألفا وإنما عرض أرقاما عن الأداء الاستثماري للهيئة، حيث بلغ معدل العائد العام لاستثمارات الهيئة (5.7%) في عام 2020م. والشيء الذي ينفرد به موقع الهيئة ويتميز فيه هو حداثة التقارير الشهرية المرفوعة بالموقع حتى مارس 2022م. ومن البيانات المهمة بموقع الهيئة أيضا، هو أن هناك ما يقارب من (72,928) ألفا من المؤمن عليهم والذين يمثلون نسبة (30%) من إجمالي المؤمن عليهم، ومدة خدمتهم في حدود (5) سنوات، وهذا الرقم يعطي دلالة بأن هذا الفئة تم توظيفها خلال الفترة من (2018 إلى 2022). كما أن هناك عددا قليلا لا يتجاوز (1,219) من المؤمن عليهم تجاوزت مدة خدمتهم (30) سنة، وأن عدد (20,536) ألفا من المؤمن عليهم، مدة خدمتهم (من 20 إلى 30) سنة، هذه الفئة قد تستفيد من التعديل الأخير والذي يتيح للموظفين الذين استوفوا شروط التقاعد في أنظمتهم السارية وأكملوا (20) سنة اعتبارا من تاريخ صدور قانون الحماية الاجتماعية حيث يحق لهم التقاعد الاختياري، دون الالتزام بالخدمة المطلوبة وهي إكمال مدة (30) سنة. في الجانب الآخر فإن مشروع دمج صناديق التقاعد الحكومية سوف يعمل على أيجاد بيئة تنافسية على تشجيع واستقرار العمالة الوطنية في القطاع الخاص نظرا للتوجه نحو تقليل الفجوة في المزايا التقاعدية مع نظرائهم في الصناديق الأخرى وأيضا سوف يشجع رواد الأعمال والعمل الحر على الاستقرار في أعمالهم حيث إن مشروع قانون الحماية الاجتماعية سوف يعالج الخلل الحالي، بحيث تكون هناك مرونة كافية في عملية احتساب مدة الخدمة التي يقضيها أي موظف سواء كان يعمل في شركة أو مؤسسة عامة بشكل دائم أو العمل لبعض الوقت (Part time)، أو لحسابه الخاص.

* حميد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس