أعمدة

العيد فرحة

 
اجتماعيا، لا شك أن للعيد بهجته وفعالياته كما له شعائره وطقوسه. وللعيد هذه المرة طعم مناسب تلخصه فكرة عودة التّجمع مع العائلة والفرح بالاستماع إليهم وتبادل 'الأخبار والعلوم' معهم، ولعلّ فرّحة الأطفال بالعيدية وامتلاء جيوبهم بالفئات النقدية المختلفة لأكبر تأثير يمكن أن يلحظ في العيد.

قبل جائحة كوفيد 19 التي أصابت الحياة قبل عامين بالشلل والخوف والوجع والتراجع من طرف، وجشع الإمبريالية والاستحواذ على صناعة الدواء وتوزيعه، كان بعض الناس يعتقدون أن فرحة العيد تتمثل في وجوه الصغار وثيابهم الملونة، وألعابهم وحلوياتهم ومحصول العيدية الذي يحصلون عليه بعد زيارة أهاليهم وذويهم وجيرانهم. وإذا تذكرنا قبل عامين كيف واصلنا صيام رمضان واحتفلنا بعيد الفطر ونحن سجناء في بيوتنا منعزلين عن العلاقات والزيارات الاجتماعية، لهالنا بعض الفزع من عدم اكتمال دورة الحياة من جديد. فكان بعضهم يتمنى أن تعود بهجة العيد المتجسّدة في الصغار فحسب؛ لأنّ الكبار حساباتهم مع العيد مختلفة، فالعيد كبهجة بات غير حقيقي لدى بعض الآراء، أو لنقل لم يعد الإحساس ببهجة العيد كما كان الحال عليه في السنوات الماضية!

وعند محاولة قيامنا بتقدير حسبة سريعة لتذكر مقدار تلك السنوات الماضية التي فقدنا معها بهجة الشعور بالعيد فلن نصل إلى رقم محدد. لأنّ لكلّ منّا لحظاته الخاصّة مع العيد؛ كلحظات عندما تلقينا فيها أول عيدية، أو هدية رمزية، مميزة أو غير مميزة لكنها تركت أثرها العميق في داخلنا، أو يرتبط الفرح بلحظات العيد لدى غيرنا بتهنئة على ترقية أو بداية المشوار الوظيفي، أو الزواج، أو الإنجاب أو الطلاق...إلخ، وكلها لحظات ثمينة أو مؤثرة، كلحظات الفراق الصعبة التي يُسببها الموت. فكم عزيز فقدناه وإذ يأتي العيد نشتاق إليه ونتأسى بفقداننا لصوته وضحكته وغضبه فنصّبر أنفسنا بالصبر الجميل!

على هامش عيد الفطر وفي حديث عائلي خاصّ أخذنا نتناقش عن العيد وأحواله فطرحتُ سؤالي على العائلة: كيف تشعرون بالعيد هذه المرة؟ جاءت الإجابات متباينة أغلبها رأت أن العيد لم يَعد له فرحة مثل السابق، وحتى الأطفال ما عادوا يفرحون، وزيارات الأقارب ما عادت مبهجة، -ولكننا كما قالوا- نحاول قدر الإمكان إظهار الفرحة باقتناء ملابس جديدة وحلويات، ومع ذلك- كما أجمعوا- هناك شيء مفقود؛ غياب السلام الداخلي! وعندما انتقل الحديث إلى كبار السّن، فكان لهم وجهة نظر أخرى؛ إذ تحمّدت النساء بعودة العيد واللقاء والتواصل وتبادل التحايا والزيارات والصلاة في المساجد. كان رأي النسوة الجميلات 'الأمهات والجدات' أن مشاهدتهن لذويهن وأحبائهن وأحفادهن، أو لمن حولهن ينعم بالخير في صحة وعافية هي أكبر نعمة يُمكن أن تحصل معهن في كلِّ عيد، أما الميتون الذين فقدناهم من الشباب وبقينَا نحن العجائز الأمهات والجدات على قيد الحياة، فإنّ في ذلك حكمة لا يعرفها إلا الله، فلكِّل أجل كتاب، وهذا أمرُ الله عز وجل.

ألا يتجسّد لدى هؤلاء النسوة في منطق التسليم بقضاء الله وقدره معنى السلام الداخلي؟ يدور معنى السلام الداخلي في موقع جوجل حول عدة معاني: 'التنعّم براحة في البال، وتحقق التوازن الصحي، والشعور بالنعيم والسعادة والرضا. كما يشير المعنى إلى درجة وصول العقل البشري إلى الوعي أو التنوير، وتقترح بعض الثقافات، أن الوصول إلى ذلك يمكن حدوثه بواسطة طرق متعددة: كالصلاة والتأمل واليوغا'، ويمكن إضافة اتّباع المرء لنظام عملي في حياته يوازن فيه احتياجاته الأساسية من الطعام والشراب وإشباع الهوايات واحتياجات الجسد والرياضة والمشي.

وفي تقديري أن مفهوم السلام الداخلي الذي ينشده الفرد، إنما يتوقف على فهم عميق للذات البشرية، وسبر أغوارها، ومواجهتها مع نفسها بالنقد الذاتي وإجاباتها عن الأشياء التي تؤمن بها وتعتقدها أو الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها واعترافها بقدراتها ومقدرتها الشخصية على التصالح مع نفسها، ثم مع المحيط الاجتماعي الذي تعيش داخله وتتدبر فهم نفسها من خلاله.

كان المتابع لوسائط التواصل الافتراضي في عُمان (فيسبوك وتويتر وانستجرام وماسنجر) سيجدها قد اكتظت برسائل التهاني والمباركة بقدوم عيد الفطر، الذي يتنزّل فيه معنى ودَاع شهر رمضان الفضيل، واستقبال سنن عيد الفطر: كالصلاة والدعاء وتبادل زيارات الأهل. بالإضافة إلى ذلك كانت هناك هبطات العيد الخاصة لبيع المواشي وازدحام الشوارع، ومحلات البيع العامة، وفي المولات والأسواق الشعبية التاريخية المعروفة، وجرى عبر هذه الوسائط نشر العديد من الصور المعبّرة عن الاحتفال بفرحة العيد، كانت بعض المناظر في الصور كأنها تنبض بغناء الأهازيج الشعبية في بعض الولايات، وبعضها يستعرض المنازلة بالسيوف.

سياسيا، ثمة معنى سياسيٌّ للعيد. يرتبط هذا المعنى بالشاعر (المتنبي 915م-965م) عندما ساءت علاقته مع كافور الإخشيدي حاكم مصر، فلم يَفِ هذا الأخير بالوعود التي قطعها على نفسه مع المتنبي بأن يجعله واليًا، فكان إبّان الاحتفال بعيد الأضحى أن عزَم المتنبي على الهروب والسفر والاختباء، ثم كتب هذه القصيدة الخالدة التي مطلعها:

عيدٌ بأيّةِ- حالٍ عُدتَ يا عيدُ

بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تَجْديدُ

أمّا الأحبَّةُ- فالبَيْداءُ دونَهُمُ

فَلَيَتَ دونَكَ بيدًا دونَهَا بِيدُ

لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا

وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ

يحلو الاستشهاد بهذه الأبيات الشعرية للمتنبي في مناسبة قدوم الاحتفال بالعيدين الفطر والأضحى. وبالرغم ممَا يعنيه هذان العيدان في ثقافتنا الإسلامية، إلاَّ أن التمثيل به يعود إلى حال العالم العربي والإسلامي السياسي. وسؤال الحال هو: كيف يقدر العالم العربي والإسلامي الاحتفال بالعيد ولهم أهل في فلسطين ما زالوا منذ عام 1967م وإلى اليوم يعانون من مرارة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم أعتى أنواع العذاب والتهجير والخذلان؟ وتتصاعد الأسئلة الموجعة بلا توقف أمام ما تراه الأعين عبر شاشات القنوات الفضائية ومن خلال وسائط التواصل الافتراضي من هجوم وتعنت وعناد وتهاون وتطبيع والأهل هناك في فلسطين محاصرون -برا وبحرا وجوا- فلا حياة كريمة لهم؟

وإذا كان الأمر ينطلق من معنى أن 'المسلم للمسلم كالبُنيان'، فإن الاستشهاد بهذا المقطع الشعري، بعد إفراغه من أسبابه ودوافعه الخاصّة بالمتنبي، ليس له قيمة أو معنى يُستند إليه أو يُعوّل عليه. وإن جاء على خلفية الأوضاع السياسية العربية والإسلامية المختلة اختلالا عميقًا، فإن توظيفه لدى بعض الرومانتيكيين إنّما يؤدي إلى تعطيل الحياة نفسها، وما الحياة في أحد أجزائها غير هؤلاء البشر وهذه المجتمعات في كلّ مكان بما لديهم من معتقدات وعادات وتقاليد وأعراف وثقافات وانكسارات وانتصارات وخذلان ودروس! فكم من الشعوب في ظل الحروب والمواجهات العسكرية كانت تعاني، بينما ظلّت بعض الشعوب تحتفل بمناسباتها الخاصة وتقيم ما تستطيع إقامته، ليس تنكرًا، أو خذلانا، أو شماتة، بل تأكيدا على قوة الحياة واستمراريتها رغم الموت والحصار.