أعمدة

العيد الذي تخلى عنا

 
أتخيل أن العيد الذي رافقنا في طفولتنا وكان جزءا لا يتجزأ من ذكرياتنا، تخلى عنا على رصيف الطفولة، وتركنا نعبر الدروب وحدنا. العيد الذي كنا نتجهز له منذ منتصف شهر رمضان، إذ نشتري الدشداشة والكمة أو المصر وأيضا الحذاء، في العادة نشتري الملابس جاهزة، فليس لدينا الوقت للتفصيل وخياطة ملابس حسب الذوق والمقاس، فنحن نسكن في الجبل، ولم يكن الذهاب إلى المدن متاحا في كل الأوقات. إذا كان الطريق الترابي من مرباط إلى حدبين شاقا على المركبات، في الصغر نذهب مع أهلينا إلى مدن مرباط أو سدح القريبة منا لشراء ملابس العيد.

لما كبرنا صرنا نذهب وحدنا إلى صلالة، غالبا نكون ثلاثة أو أربعة من زملاء الدراسة، نسأل عمن سيذهب إلى صلالة من الأهالي والجيران، وحين تتوفر المواصلات، نتجهز ونذهب في الصباح الباكر فنصل إلى سوق الحافة قبل أن تفتح المحلات أبوابها. لم يكن سوق الحافة سوى مجمع تجاري مفتوح، أسواق متعددة، قريبة من بعضها، سوق الماشية بجانب سوق السلاح، وفي الشرق تقع محلات بيع الحلوى، وفي الجنوب تقع أسواق الملابس الجاهزة والخياطين، ومحلات الكميم وحتى استديوهات الأغاني، نادرا ما كنا نخرج بلا شريط (كاسيت)، بل يتعمد بعض المطربين إنزال أشرطتهم الغنائية إلى الأسواق قبل أيام الأعياد، في الحافة وحدها تتواجد ثلاثة إلى أربعة محلات بيع الأشرطة الغنائية، وكذلك توجد مكتبة، أظن اسمها مكتبة الكنوز -إن لم تخني الذاكرة- قبل هدم سوق الحصن الواقع في حي الحافة، اختفت محلات بيع الأشرطة، بعد أن أغلقت المكتبة أبوابها وحل محلها دكان لبيع المصنوعات الصينية.

حين تفتح أبواب المحلات نبدأ في مساومة الباعة، نقول لهم 'صبح .. صبح'، فهناك عدد كثير من الباعة الآسيويين يتطيرون بعدم البيع لأول زبون، لذلك كنا نغتنم فرصة أوائل الزبائن، نفعل ذلك في محلات تفصيل الدشاديش، أما في محل الأحذية، فكنا نبتكر طريقة معينة لتخفيض الأسعار، فكنا نساوم على فردتي الحذاء التي لا نرغب بشرائها، وإذا وصلنا إلى اللحظة الأخيرة من فشل الصفقة نهم بالخروج، ونلتفت إلى الحذاء الذي فضلناه ونسأل عن قيمته بلا مبالاة، عندها يعطينا إياه البائع بثمن معقول يتناسب مع ميزانيتنا المتواضعة، بعد ذلك بسنوات حدثني الأكاديمي التونسي عبدالحميد الهلالي، أستاذ مادة علم النفس التربوي في كلية التربية بصلالة (1999- 2004)، عن هذه الطريقة من زاوية علم النفس، إذ قال لي إذا دخلت محل لبيع الأحذية، ينظر البائع إلى أحذيتك، فمن خلالها يقيس مدى حاجتك للحذاء، لهذا من الأفضل حين تفكر في شراء الحذاء، أن تدخل المحل بأحذية جديدة، وكذلك حين تود شراء أي شيء لا تسأل مباشرة عن القطعة التي تودها، شتت البائع ثم في اللحظة الأخيرة ساومه على قطعتك المفضلة.

عادة لا نتأخر كثيرا في السوق، فقبل انتصاف النهار تكون الكيسة السوداء قد احتوت على دشداشة وكمة أو مصر وإزار وحذاء، بقيمة تتراوح بين عشرة ريالات إلى خمسة عشر ريالا. فنذهب إلى أقرب مسجد إذا توفرت فيه أجهزة تكييف، ونضطجع إلى حلول صلاتي الظهر والعصر، طبعا هذا إذا كنا في شهر رمضان، أما قبل عيد الأضحى فكنا نتجول في أسواق الماشية والسلاح، ونبحث عن المطاعم التي تجهز وجبة غداء لا يتجاوز السعر فيها ريالا واحدا. بعد العصر نرجع إلى السوق ونبحث عن وسيلة نقل متوجهة إلى الشرق، وفي العادة نعثر على أحد المعارف، ويكون قد تخلص من بيع الماشية. في بعض المرات نتأخر، ويكون الإفطار إما في بعض مساجد الدهاريز أو في مسجد جنوف، قبل أن يتم تحويل الطريق الرئيس بين مرباط وصلالة، ويكون المسجد حاليا ضمن امتداد منطقة المنتجعات السياحية.

صبيحة يوم العيد، كنا ننتظر من يعاود مبكرا فنذهب معه وننتقل من سيارة إلى أخرى في زيارة الجيران، القاطنون في الشعاب البعيدة، تعد البيوت مائدة مكونة من رز أبيض بالسمن، وبعض صحون الأناناس والخوخ، والعصائر والبسكويت، وبعض الأهالي يذبحون غنمة ويعدون وجبة المضبي، ويجتمع أهالي المنطقة لدى من يعد المضبي، لحظتها نرى الفرحة في وجوه الجميع كبارا وصغارا، مرددين 'نعاود عليكم دهرا، وأنتم أصحاء معافون في المال والبدن'. يتزاور الأهالي ويبتهجون للقاءات السارة.

منذ بداية الألفية فتر حماسي لهذه المناسبة ولا أدري ما السبب، ربما تغير العيد أو نحن من تغير، أو أننا كبرنا وبقي العيد لدى منهم أقل انشغالا بمنغصات الحياة، أو لا ندري ما الذي حدث.

* محمد الشحري كاتب وروائي عماني