عمان الثقافي

«ليلة لشبونة» لإريش ماريا ريمارك تحت حماية رجل مُتوفى واسم مزور!

65465
 
65465
الرغبة بحدوث معجزة هو الشعور الذي يُلازم الذين يتعرضون للحرب والموت اليومي، ولكن يحصل «أن تموت ولا يشعر أحد بأعيرة النار التي أطلقت عليك!»، ولكن تصور أنّك في اللحظة التي تظن فيها أن كل شيء في الحياة شارف على الانطفاء، يسوق لك القدر رجلا مجهولا من الغيب، ليمنحك بصيصا من الأمل. تاركا لهذا الأمل شرطا لا يقل غرابة.. أن تُصغي إليه وحسب. رجل مجهول يُدخلك نسيج حياته ويطرح عليك أسئلة ذات بعد فلسفي عن الحياة بعد الموت، وعن السعادة والحب، ثمّ يطلب منك أن تقول رأيا في حياته!

تمرّ أوروبا الآن بظروف مُتشنجة، تُعيد لأذهاننا العنف الذي عبرها في بداية القرن الماضي، فثمّة العديد من الأعمال الروائية التي خلّدت مآسي الحروب وأوجاعها في مرآة الفرد والمجتمعات عموما. ومنها على سبيل المثال لا الحصر رواية الكاتب الألماني إريش ماريا ريمارك، والتي حملت عنوان «ليلة لشبونة»، ونشرت عام 1962، ويمكن لأجوائها البعيدة تلك أن تغدو ارتدادا لمجريات الأحداث الجديدة.

وبحسب ما قرأنا، فقد أعدمتْ السلطات الألمانية أخت ريمارك عقابا له على فراره إلى أمريكا، فأصبحت تلك القصّة المُعذبة سببا لأن نقرأ هذا العمل الذي بين يدينا الآن.

ليلة الإصغاء

إننا إزاء قصّة الهجرة غير الشرعية بأوراق مزورة، قصّة الخوف واللهاث من عدو مفترض، قصّة الشك بكل يقين.. لكن ثمّة ما يحدث لهذا المهاجر، فتصبح مهمة هروبه الطويلة أقلّ أهمية مما ينبغي!

تتناول الرواية فكرة أنّ أحدنا لا يُساوي شيئا في الحرب، خصوصا عندما تكون أذونات الدخول والخروج ممنوعة، ففي ظروف كتلك يصبح جواز السفر وحده القادر على منح الإنسان قيمة ما، بل قد يمنحه الخلاص، «ففي حالة الخطر أنت لا تبصر بعينيك فقط بل حتى بجلدك، يُصبح ضوء فانوس أشد خطورة من داء الكوليرا في القرون الوسطى»، وتتكثف فكرة هذا العمل الروائي في سؤال أساسي حول الأسباب غير العادلة التي تخلق منا ضحايا!

لكن هل تكفي ليلة واحدة ليقصّ أحدنا حياته على مسامع شخص غريب يلتقي به لأول مرّة، مُعولا على أنّ الحكي قد يمنحه شعورا بالراحة عقب ما عصفت به حياته من وجاع؟

«ليلة لشبونة» هي ليلة مكثفة، قصّة أعوام كثيرة من الخذلان والمأساوية التي عاشها «شفارتس» فترة صعود النازية زمن هتلر. وقتذاك اضطر كثير من الألمان للهرب من قبضة الفاشية.

بطل روايتنا «شفارتس»، هو هارب من ألمانيا باسم مستعار وجواز سفر مزيّف، لكن ثمّة ما أعاده مجددا إلى ألمانيا. وقد لا تبدو أسباب العودة واضحة تماما في البداية، ولكننا كلّما تمعنا أكثر في قصّته انكشف غموضها على مهل.

التناوب بين حكايتين

تبدأ الرواية بمقايضة، فمقابل أن يُصغي الرجل المجهول لـ «شفارتس» لمدّة ليلة كاملة، سيحصل بالمقابل على حريته، المتمثلة في امتلاك جواز سفر وتذاكر لأمريكا. بدا الأمر كتحقيق أعظم أمنية لإنسان بائس آنذاك.

وفي لحظة القراءة نتحول كلنا لنصبح الشخص الثاني الذي يُنصت لحكاية كاملة في ليلة واحدة، وكأننا نحن أيضا بصفتنا قرّاء ندخلُ في مقايضة غير معلنة في سبيل الحصول على متعتنا الشخصية. وبينما يمنحُ الليل البطلين السكينة وتمنحهم الحانات الصخب، تنمو حكاية «شفارتس» ببطء شديد لم يغفل فيها عن أدق التفاصيل.

علينا أن ندرك وجود حكايتين تسيران بتناوب درامي. قصّة الهاربين اللذين يلتقيان في ميناء لشبونة، والراغبين باقتناص فرصة الهروب لمكان أبعد من أوروبا المظلمة إلى أمريكا، في وقت كان يتعذر فيه الحصول على وثائق رسمية، كما يتعذر المال لشراء التذاكر. وقصّة «شفارتس» الذي يريد التخلص من عذابات ذكرياته. كان يائسا ومدمرا، فقام بمقايضة مذهلة، ترينا ماذا تصنع الحروب بالإنسان من هشاشة، وهنا تبدأ الحكاية الثانية بمزاحمة الحكاية الأولى، فهو يريد أن يتحدث عن حياته وعن قصّة حبه عن رحلة هروبه المؤلمة.

«صرعُ المهاجر»

يجعلنا إريش ماريا ريمارك، نشعرُ بكل ما قد يعتمل بداخل الفارين من مشاعر، تلك الهواجس المُدمرة من الانفعالات. الانتفاض أمام رجال الشرطة. الشخص العادي قد لا يعرف دوافع عبور الحدود بجواز مزور؟ ولكن عندما يتضاءل الأمل فهو يستمد القوة من جواز سفر مزور، رغم كل ما يخامره من تردد «أمام من قرار التراجع لحظة زحف الخوف!» تتحدث هذه الرواية عمّا يُطلق عليه البطل «صرعُ المهاجر»، واصفا تلك التشنجات في المعدة والبلعوم، فالمهاجرُ بأوراق مزورة -حيلة نجاته اليتيمة- يكون مرعوبا دوما مثل «ورقة وحيدة تهتز على غصن شجرة»، يصف لنا الكاتب توتراته العالية وهو يختم وثائقه من تنقل لآخر، ويبدو له العالم على أجمل وجه قبل دخول السجن تماما.

«عندما كنتُ أقف على أرض صلبة كنتُ أشكُ فيما يكتبه الروائيون بشأن الخوف. كيف يتوقف قلب الضحية عن الخفقان. كيف يتصبب جسمها عرقا»، ولكنه عندما اختبر ذلك واقعيا لم تعد الكلمات تكفي كلّ ما يعتمل روحه من آلالام، «عندما أرى أضواء أوروبا الممتعة أظن أنّ هنالك من غفل عن إغلاق مكابس الكهرباء، وأن هذا الضوء سيكون بلا شك سببا في غارة جوية»، هكذا تتعطل المشاعر وتتعقد، وكأنّ أسطورة بروميثيوس سارق النار في الأساطير والذي عوقب من قبل الآلهة تذكره بهيجان النفس البشرية وآلامها بصورة مستمرة.

هكذا يتركنا إريش ماريا ريمارك أمام نوعين من الخوف.. الخوف من المجهول الذي لا نعرفه، والخوف الآخر هو مما نعرف، «ففي سنوات الفرار عليك أن تُعود نفسك أن تكون قريبا من الباب.. فالإنسان الملاحق يُطور حواسه في تحسس الخطر».

بين القاتل وجامع اللوحات!

حصل «شفارتس» على جواز سفر حقيقي، ورثه من شخص مات. ورث اسمه وحياته واهتماماته. كان يقف في متحف اللوفر أمام اللوحات الزيتية الغارقة في ضوء الشمس، تلك التي تمنحه الأمل والسؤال حول ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يرسم بيد بينما يقتل باليد الأخرى.

تقترح الحرب هي الأخرى أضدادها، فبينما يُجند أحدهم ليُشعل العالم، فثمّة صورة مضادة لإنسان آخر أسمى ما يريده هو الاحتفاظ بالطوابع البريدية، وعند هذا المنعطف تعرّف بطلنا الألماني الهارب على النمساوي «شفارتس» الذي خبأ صورتين للرسام «أنجر» خلف صورة والديه، وقبل أن يموت سلّمه الطوابع والرسومات وجواز سفر ومنحه أملا بالحياة.

ومن ثمّ تمكن جراح الوثائق -كما يصف- أن ينجز المهمة على أكمل وجه. تمرّن بطلنا الألماني المُعادي لهتلر والفاشية على الاسم الجديد ولم يتوقع أن يألفه بسرعة ثم باع إحدى اللوحتين ليعيش. في البداية شكّل جواز السفر مصدر إزعاج وقلق ثمّ تحول إلى ضفة آمنة وهو يعبر به الحدود.

الحب والحذر

في الحرب نتغير كثيرا. لا نعود كما كنا، يقول بطلنا «عشتُ مع زوجتي زواجا ناجحا ولكن دون شغف»، ثمّ انتابه قلقٌ عارم وهو يتخيل زوجته في قاعات التعذيب تستغيث. فاكتشف أنّ الصحو في غرفة يائسة برفقة شريك ينبغي أن يُشعرنا بالامتنان، فوجود الشريك أفضل بكثير من غرف نصحو فيها لنجد أنفسنا وحيدين.

قرر «شفارتس» العودة مجددا إلى ألمانيا التي تركها منذ خمس سنوات. كان كالعين المتخفية التي تعود من فرنسا لترى وتنظر في وضع ألمانيا. تغير عنوان الساحة التي يقطن فيها بيته، أصبحت «ساحة هتلر». شعر بأنّه مهدد، ولكنه عاد ليعرف مشاعر زوجته تجاهه. مضى لتلك المغامرة المحفوفة بالخطر. زوجته «هيلين» ألمانية ولكنه لم يكن يعرف على وجه الدقة موقفها مما يدور في ألمانيا، خصوصا وأنّ عائلتها كانت متزمتة في موقفها، وتصفُ في صف هتلر، ورغم عدم تأكده من عيشها أو موتها وشكل حياتها إلا أنّه عاد لأجلها.

كانت هيلين تنتظر أن يقول شيئا ما. أن يقول بأنّه عاد من أجلها، لكنه لم يقل ذلك، فالشخص الذي عاد.. عاد مختلفا.

ولعلنا نتساءل: لكن هل يمكن لأحدنا أن يتغير لمجرد أن تتغير هويته. هل تطمس الهوية المزيفة الإنسان الحقيقي، وكأن الذاكرة هي الأخرى متآمرة، وتحاول تزوير الحقائق بقصد المحافظة على بقائنا أحياء! «شفارتس» الجديد أصبح يبادر لقول أشياء كان في السابق يخجل التعبير عنها، وكما يبدو فالتحولات لا تصيب الخارج وحسب بل وتنعكس على الداخل الإنساني أيضا.

صار يقول لزوجته كلاما عن الحب لم يكن ليقوله من قبل، فبعد الاعتقال الذي كابده في فرنسا تأتي رسالة من هيلين، وصفها قائلا: «هذه الرسالة كفتح نافذة في غرفة مليئة بالهواء الفاسد». كان «شفارتس» يُظهر وجها جديدا لهيلين، فوقع جملة يكتبها لها كوقع البرق، حيث يمكنه أن يهدم وجودا كاملا أو يُقيمه.

وبينما الزوجان بين عناق وكره، بين ألفة تظهر وتختفي، كان الحديث بينهما عن الحذر هو أكثر ما يسيطر على حياتهما الجديدة، «فالحذر سيجعل بقاءنا معا يطول».

تحيا بمأمنٍ كذكرى فيك

تتجلى أكثر لحظات الرواية عمقا وتأثيرا، عندما يصبح الزوجان معا، الزوج بجواز رجل ميت والزوجة أعلن عن موتها في أحد المشافي لتنجو من قبضة عائلتها، فخرجا معا وسكنا في بيت أشباح كما يليق بهما، لبسا ثيابا ليست لهما، ثيابا ملونة ومزركشة، وبينما كانا ينظران لثيابهما الأصلية والمبللة، كانا يشعران وكأن هنالك من ينصب لهما مقصلة. «لكن المقصلة ليست للأموات»، وهما الآن في عداد الموتى.

الوقت قصر بين الحبيبين بسرعة، صار الوقت شفافا كالزجاج، لا يُخفي شيئا، وهنالك حيوان منتفخ يعيش بداخل هيلين اسمه المرض، ولكن دم «شفارتس» المُعافى لا ينقذ دم الحبيبة المريض.

وضع «شفارتس» الأمل بلوحة «انجر» التي يمكن أن تُباع لتؤمن ثمن التذاكر لأمريكا، ولكن هيلين لم تمهله الوقت الكافي. تساءل «شفارتس»: ماذا كُنا سنصبح لولا رحلة العذاب هذه؟ وهنا تجلت السعادة في مرآة تعكس وجه حبيبته.

الموت الذي يأكل «هيلين» من الداخل جعله يرفض فكرة الهروب لأمريكا بمفرده. لقد كسرت مرآة ومزقت الثوب وذهبت دون كلمة وداع، ودون أن تكتب له رسالة أخيرة، وكان الأمر يؤلمه. أمّا الرجل الذي كان يُصغي لهذه الحكاية طوال الليل فقد تحدث قائلا: «لقد قالت لك بعدم كتابتها لك أكثر مما لو أنّها كتبت لك. لقد تحملتْ أوجاعها وعندما شعرت أنك نجوت فارقت الحياة، ولذا يجب ألا تموت هذه الحبيبة يجب أن تحيا بمأمنٍ كذكرى فيك».

ما يصنعه الميت للحي!

لقد اعتقل «شفارتس» في أماكن شتى، بسبب إيمانه الكامل «بالجمال وتشجيع أحلام خادعة عن الحب والتفاهم والنسيان»، وكانت لديه وجهة نظر صارمة تجاه أولئك الذين يبيعون مبادئهم، «الراشون لم يتحولوا إلى قديسين بفعل ضوء القمر».

ويتساءل شفارتس عن شفقة العالم.. لماذا تتضاءل على هذا النحو: «بدا وكأن شفقة العالم نفدت أو تضاءلت، لم يعد هنالك من يرفع صوته من أجلنا». ويقول في موضع آخر: «يتعين على المرء اختيار شريط الفيلم الذي يريد رؤيته، لكن في النهاية تبقى الشاشة الخاوية، القلب الجائع والسلطة الحمقاء التي تتصرف وكأنها خالدة، خاصة وأنّ الاعتقال لم يكن ليحدث لسبب أكبر من الجاسوسيّة».

يتحدث عن سيناريو متكرر يجمع دوما بين ثلاثة.. السلطة والعبد والمتفرج. المتفرج الذي لا يرفع يده احتجاجا ولا يندفع للدفاع عن الضحية، لا يقوم بمحاولة تحريرها لأنّه يخاف على سلامته ولهذا السبب تبقى سلامته مُهددة دائما.

يهددهم بجواز سفره النمساوي، بعد أن صارت النمسا جزءا من ألمانيا، هكذا أنقذه جواز السفر أكثر من مرّة، حيث كان يُعادل هوية الجستابو الألمان، لكن أليس عجيبا ما يحققه جواز شخص متوفى لإنسان حي!!

يصرخ بهستيريا: «ماذا صنعتم بألمانيا أيّها اللصوص والمجرمون يا عبيد لذة التعذيب». وعندما يصل إلى سويسرا يقول: «ها نحن خرجنا من بلدكم الذي أحلتموه إلى ثكنة عسكرية وإلى معتقل تعذيب، نحن الآن في سويسرا البلد الحر الذي يرفض أن تلقوا أوامركم على أرضه. إننا الآن نستطيع أن نتفوه بلا خوف من أن تكسر أحذيتكم أسناننا».

الذكريات.. حيوان يلتهمنا ليعيش

ولكن كيف لحكاية رومانسية وأسئلة ذات بعد فلسفي عن الوجود والفن والمرض والحب والسعادة والذكريات أن تنمو في ظل النازية التي تنسف الأحاسيس من جذورها. فكما يبدو «يقاوم الإنسان الجدران ويقاوم التعذيب والتهجير والإقصاء، ولكنه مهما حاول فلن يستطيع الهروب من ذكرياته التي تحاصره بكل ماضيه وما فيه من ألم، فيعيش بها مجبرا غير مخير».

الذكريات ليست تحفة عاجية معروضة في متحف محكم ضد الغبار بل هي حيوان يعيش ويلتهم ويهضم، إنها كالتنانين في الأساطير. تلتهم نفسها لأنها طريقتها الوحيدة للاستمرار.

الرحلة العصيبة تخلق من «شفارتس» شخصا مولعا بالتأمل والأسئلة: «الصيف قصير والحياة قصيرة. فهل تعرف الطيور والعصافير هذه الحقيقية. إنّها بلا شك تظن نفسها خالدة. فلم يُخبرها أحد بالحقيقة. لكن لماذا أبلغنا نحن الحقيقة!». هكذا يحيا في أفق الحياة البشرية، ونجده في مواقف أخرى يُعزي نفسه: «الأبدية كانت ستكون مملة. ولأن التعاسة أكثر من السعادة فعدم أبدية الحياة رحمة كبيرة بنا».

الإنسان يسعى دوما في ظل الأمل، لكن البشرية تستطيع قهر الأمل بينما تفشل في قهر الموت، «كل لحظة من الحياة قطعة هي من الزمن والزوال».

وفي ظل كل هذه الفوضى المُركبة التي تحدثها الحرب، فإن الطبيعة هي الوحيدة التي لا ترفضنا ولا تطلب منا جوازات سفر ووثائق اثبات جنسنا الآري، ولذا كان سفارتش يلوذ إليها في أوقاته العصيبة.

الفن والحكي.. مُنقذان

هنالك من يُبرر الرتم البطيء الذي عبرته تلك الليلة الخرافية، وكأنّما هو انعكاس لبطء اللحظات التي يقضيها الهارب بأوراق غير شرعية. البطء الذي يجعل كل الشكوك والهواجس متحفزة وثائرة.

يُعول أنّ إريش ماريا ريمارك على الحكي والفن كشكل من أشكال نجاة الإنسان، فقد سرد شفارتس قصّة حياته كاملة لشخص غريب وانتظر منه رأيا يُشفي آلامه: «ماذا كانت حياتي. عديمة الفائدة أم تجدها قصّة مُحب.. أم قصّة قاتل؟». بينما الرجل الذي أصغى للحكاية طوال الليل، لم يكن يفكر بأكثر من السفينة الراسية والمتجهة إلى أمريكا، كان يفكر بخلاصه الفردي في البداية، ثمّ ما لبث أن تغير موقفه وشعر بشيء من التعاطف مع مصير شفارتس.. فقد كان يمكن أن يكون مصيره أيضا.

الهرب الكبير الذي أخذنا لأماكن شتى من أوروبا، كان يُخبئ هروبا أعمق إلى الذات لإعادة اكتشافها واختبارها وفهمها من جديد. حيث «يرى المرء في حالة اضطرابه ما لا يراه في حالته العادية».

لكن الأكثر غرابة أن كل شخص صار جواز السفر المزور بحوزته، وجد نفسه مهتما باللوحات كما كان شفارتس الأصلي، فقد قال مزور الجواز الجديد: «الغريب أني بدأتُ أهتم بفن الرسم الذي لم انتبه له في السابق. إرث شفارتس الأول البعيد والميت»، فملأ بيته بلوحات ديغاس، وانتهى الأمر بأن أهدى جواز سفره المزيف لمهاجر روسي عندما بدأت موجة هجرة جديدة.. وكأنّ هذا الجواز في رحلة غير نهائية.

ولا تبدو رمزية الفن اعتباطية، فمثله مثل الحكي، تلوح دلالاته كبذرة للتغيير والحماية الحقيقية للإنسان من براثن الحروب المسعورة.

هدى حمد صحفية وروائية عمانية