أفكار وآراء

ما الجمال؟

مفهوم الجمال بطبيعته مفهوم إشكالي؛ لأنه بالغ التجريد والاتساع؛ ولذلك فإنه يثير تساؤلات عديدة متضاربة ومتداخلة: ما الجمال أصلًا؟ هل يمكن أن نتفق جميعًا حول معنى الجمال؟ وما الجمال الذي نتحدث عنه: هل نتحدث عن الجمال في الطبيعة وفي الكون بوجه عام؛ أو نتحدث عن الجمال في السلوك الإنساني الذي كان يسميه قدماء اليونان «الخُلُق الجميل» Kalon؛ أو نتحدث عن الجمال في الفنون التي هي موطن التعبير عن الجمال في الإبداع الإنساني (وهو موضوع علم الجمال التقليدي)؛ أو نتحدث عن الجمال الإلهي الذي يخوض المتصوفة في وصفه؟! وما قيمة وأهمية الجمال في حياتنا الإنسانية: هل قيمة الجمال لها أهميتها بالقياس إلى قيمة العلم وقيمة الأخلاق مثلًا؟ وهل لها أهميتها لدى الشخص الذي يعاني شظف العيش وقسوة الحياة، والذي سوف ينظر إليك باستهتار عندما تطرح عليه مثل هذه التساؤلات، وربما لا يفهم معنى سؤالك أصلًا؟ وبطبيعة الحال لا يمكننا في هذه العجالة الإجابة عن هذه التساؤلات، وحسبنا هنا إلقاء الضوء على أهمية مفهوم الجمال في حد ذاته، والتنويه إلى أشكال تجلياته في الواقع وفي المعرفة.

أول ما يرد على ذهن الإنسان العادي من مفهوم الجمال هو الجمال البشري، خاصةً جمال النساء كما يتبدى في أعين الرجال. وإن زاد على ذلك قليلًا، فسوف يحدثك عن الجمال في الطبيعة؛ ولذلك يتم دائمًا اختزال مفهوم الجمال في ذهن العوام من خلال تلك العبارة الشائعة الساذجة التي تتردد على الألسن: «الماء والخُضرَة والوجه الحَسَن»! وحتى مشاهد الجمال في الطبيعة يتم اختزالها في جمال الأنهار والأشجار والأزهار، ومثل ذلك مما نجده في الطبيعة. وبذلك فإن جمال الطبيعة الذي يتجلى في الكون نفسه لا يطرأ على الأذهان، كما أن الجمال في البيئات المُشيَّدة لا يكون واردًا في الحسبان. غير أن الإنسان العادي الذي ينظر إلى الجمال في حدود هذا الإطار، تظل قيمة الجمال بالنسبة إليه قيمة ذاتية تتعلق بمُتَع الحياة؛ وحتى جمال النساء- في نظره- يظل مرتبطًا بالمتعة أو الرغبة، من دون أن يعرف أن الإحساس بالجمال يكون دائمًا متحررًا من الرغبة؛ لأن الرغبة توقظها أشياء أخرى غير الجمال، فالجميل ليس موضوعًا نرغب فيه ونريد امتلاكه، بل هو موضوع للمتعة الخالصة. إضافة إلى ذلك، فإن الإنسان العادي بذلك النحو يختزل مفهوم الجمال في تصور تعميمي لا يميز بين مجالات الجمال المتنوعة التي تتناولها علوم مخصوصة، وإن كانت متداخلة معًا.

وربما يكون هذا الفهم العامي هو السبب في النظر إلى قيمة الجمال باعتبارها تظل من الناحية الموضوعية قيمة ثانوية بالقياس إلى ما يتعلق بضرورات الحياة والسلوك الإنساني. ولقد انعكست تلك النظرة حتى في فهمنا لمراتب البحث الفلسفي من خلال ذلك التقسيم الساذج للفلسفة الذي عفا عنه الزمن، والذي ينظر إلى الفلسفة باعتبارها البحث في قيم الحق والخير والجمال، على هذا النحو من التراتب. ولذلك يأتي علم الجمال في الدراسات الأكاديمية العربية على هامش الدراسات الفلسفية أو في مؤخرتها: فالأولوية لقيم الحق، ومنها تأتي أهمية العلم أو المعرفة التي تتعلق بالحقيقة الموضوعية؛ ويلي ذلك في الرتبة القيم الأخلاقية باعتبارها القيم التي تتعلق بسلوك الناس وبالقيم الدينية التي يدينون بها؛ أما القيم الجمالية فإنها تظل ترفًا في هذه المنظومة الساذجة. وهي منظومة ساذجة لأنها تلجأ إلى التقسيم الذي تنفر منه الآن العلوم الإنسانية باعتبارها علومًا تقوم على التداخل المعرفي في موضوعات بحثها؛ بل إننا نلاحظ أن القضايا الجمالية قد أصبحت تتصدر الآن البحث الفلسفي المعاصر، باعتبارها مجالًا خصبًا من البحث يتقاطع مع علوم إنسانية عديدة: كعلوم الفن والطبيعة والبيئة واللسانيات، ومع بعض علوم الهندسة والجغرافيا المعاصرة التي تعنى بالبيئة والعُمران؛ بل تتقاطع مع لغة الخطاب الفلسفي ذاته الذي أصبح- مع الفلاسفة الوجوديين من أمثال سارتر وميرلوبونتي، ومع فلاسفة الوجود الكبار من أمثال هيدجر- يميل إلى لغة التصوير الجمالي الأدبي؛ ولهذا قال دريدا في عبارة مقتضبة بليغة: «إن الفلسفة لا مَهرَب لها من الجمالي». وبذلك يمكن القول إن البحث الجمالي قد استرد مكانته الجديرة بالاعتبار في منظومة المعرفة الفلسفية في عصرنا الراهن.

ومن المهم التأكيد على أن الجمال له تجلياته المتباينة في الفن والطبيعة والبيئة، وهي مجالات للبحث في علوم عديدة، وإن كانت تتداخل معًا وتستفيد بعضها من بعض. والأهم من ذلك أن نلاحظ هنا أن الإحساس أو الوعي بقيمة الجمال ومواطنه هو أمر مرهون بالتحضر؛ ولذلك فإن قيمة الجمال تصبح قيمة عليا في الحضارات حينما تبلغ ذروة تألقها. وهذا هو موضوع المقال التالي.