أفكار وآراء

تشكلات الشعبوية عربيا

مع تعدد مفاهيم مصطلح الشعبوية إلا أنها جميعا تدعي وصلا بالشعب وتمثيله اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وعبر قنواتٍ شتى لتسويق العولمة وتشكلاتها الكثيرة كان لا بد لهذه الظاهرة أو المصطلح من تمظهرات عربية ما كانت لتخفى، خصوصا مع الفترات التي صادفت تحولات سياسية كبرى وحاجة ماسة لشخصيات قيادية بكاريزما اجتماعية خاصة قادرة على مخاطبة الجماهير العربية واستيعاب تحدياتها التاريخية واحتياجاتها المرحلية.

فما كان إلا أن ظهرت حركاتٌ فكريةٌ بارزةٌ مجاراةً لتياراتٍ سياسيةٍ واستقراءٍ لحالةٍ عربيةٍ عامة مثل حركةِ القوميةِ العربيةِ التي تزَّعمها جمال عبدالناصر بمصر بامتيازٍ جمع بين كاريزما الحضورِ المنبري من جهة، واستقراءِ رغبةِ الشارع العربي في وحدةٍ عربيةٍ شاملٍة تشعره بالأمانِ بعد مجابهته خطري التقسيم و العدوان الخارجي معا من جهة أخرى.

وكما ذكرنا في المقالة السابقة؛ فكلُّ هذا التمهيد أكدَّ جاهزية المسرح العام في المشهدِ العربي لاستقبالِ حركةٍ قوميةٍ فكانت القوميةُ الناصريةُ منفذا رائعا أوحدا لشعبويةٍ عربية تغذّت جذورُها من تحدياتِ الوضع السياسي والاجتماعي الذي يعانيه الوطن العربي عموما، مع استشعار تحوله لمسرح صراعاتٍ لقوى ما بعد الحربِ العالميّة الثانية.

ومن القومية الناصرية رافدا لشعبويةٍ عربيةٍ ما زال لها مؤيدوها حتى اليوم إلى الحركاتِ الإسلاميةِ التي لم يكن تركيزُها على قوميّة إسلامية عامٍة - يمكنها تعزيز علاقات الوطن العربي بدول إسلامية قريبة أو بعيدة- بقدر عنايتها بالتنظير لحزب سياسي اجتماعي يمكنه المشاركة سياسيا إن لم يكن ساعيا للفوز بالحكم في البلدان التي احتضنتها حينما كانت بحاجة لتشتيت الحركة القومية العربية، سواء كان ذلك بمحرك محلي داخلي أو محركات خارجية أرادت لهذه الحركات أن تكبر مغلوطة لتشكيك الشعوب العربية المستنزفة اقتصاديا و اجتماعيا في آخر معاقلها الآمنة؛ الدين.

ولم يكن أسهل من تحدي التيارين الشعبويين السابقين بتيارات مناقضة تدعو للتعددية وعدم التمييز أو تدعيها( غالبا) سعيا لوصول سياسي مرتقب، أو تعطيلا لآخر مستهدف، خصوصا في موقع جغرافي تميز تاريخيا بالتنوع العرقي والديني مع مشتركاته الكثيرة غير المفعّلة كالموقع واللغة والتاريخ.

وكان لزاما لكل هذه التيارات العربية العربية أو حتى العربية الإسلامية في مرحلة لاحقة أن تصل لمسرح الشعب وإثارته مع ما تملك من توظيف إعلامي متنوع الوسائل، مختلف التشكلات، لا سيما مؤخرا مع انفتاحٍ معلوماتيٍ غير مسبوق مما أفسح المجال لأثر مضاعف مع التأثيرات الخارجية الموجهة أو غير الموجهة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

ومع كل تداعيات الشعبوية عالميا وعربيا يمكننا القول أن الشعبوية تنشط مع الأزمات الكبرى مجتمعيا وتجد لها متنفسا تفاعليا هائلا، خصوصا مع غياب قنوات حوار دائمة بين المؤسسات الحكومية وممثلي الشعب القادرين على ملامسة حاجاته الحقيقية الواقعية وتحدياته المرحلية.

ولا بأس في أي شعبوية إن كانت سعيا لديمقراطيةٍ واعيةٍ قائمةٍ على تكامليةٍ عادلةٍ ممثلةٍ لكل فئات الشعب مقترحةً حلولا واقعية لمشكلاتِ الشعب الاقتصادية والاجتماعية، غيرَ متسلطةٍ ولا متفردةٍ بأحاديةِ الرأي.

لكن ذلك لن يتحقق لا إقليميا، ولا حتى عالميا إن كانت الشعبوية تبدأ بانفعال ثائر وتنتهي بتكريس دكتاتورية جديدة متلبسةً صوتَ الشعب، دون أي إشارة واضحة إلى: من هو الشعب؟ وأي الفئات تمثل؟ ولماذا عجزت عن احتواء تعددية الشعب لتشمل حتى مخالفيها من النخب أو الأحزاب المجتمعية الأخرى التي تمثل بعض فئات الشعب شاءت أم أبت؟

بل إن أسوأ ما يمكن أن تجره الشعبوية بدوغماتية فجّة الصعودُ بشخصيةٍ استغلاليةٍ ومنحها النفوذ والسلطة للوصول لمصالحها أو تصفية منافسيها دون أي اعتبارات أخلاقية أو مبادئ قيمية، وفي ذلك أمثلة عالمية لتجّار متنفذين أو متهربين من ضرائب أو أحكام قضائية وجدوا في الشعبوية خلاصهم ومصالحهم في تعبئة الجماهير ضد المؤسسات بعمومها، والنيل من مؤسساتها السيادية على وجه الخصوص كما حدث في بريطانيا مع الخطاب الشعبوي لضرورة الخروج من الاتحاد الأوروبي وتناول الجهات القضائية وممثليها بالثلب والانتقاص والسخرية للمرة الأولى؛ مما يعكس خطورة تأجيج الخطاب الشعبوي دون وعي بنتائجه.

لا يمكن كذلك إغفال المساحة الفكرية التحاورية الشاغرة عربيا التي ينبغي تمثيلها عبر ناطق رسمي يتسم بالذكاء الاجتماعي والثقافي بحيث يمكنه إقناع الجماعات الشعبية متنوعة المشارب مختلفة الرؤى بأهمية آرائها، واحترام اختلافها ومراعاتها وإشراكها في اتخاذ القرارات المصيرية التي تصدر عن الشعب وتمثله، وتحاول بكل السبل استقراء حاجاته المرحلية وترتيبها وفقا لأهميتها ضمانا لعدم تراكمها تمهيدا لاستشعار إهمالها وتجاوزها وصولا بإرهاصاتها إلى ثورة شعبية قد ينتج عنها ما هو أسوأ.

ينبغي كذلك التركيز على مبادئ الشفافية والمتابعة (متضمنة الحساب والعقاب علنيا) لإشعار الجميع بأن الدولةَ وحدةٌ واحدة قائمةٌ على ثوابتَ لا تقبل التجزئة ولا تسمح بالتمييز.

• حصة البادي شاعرة عمانية