أعمدة

"كل شيء ينبغي أن يُعزى إلى من يُحسن القيام به"

 
جدلا الفن لا ينعزل عن السياسة، لكنه يختلف عنها. عند النظر إلى التجارب الإنسانية التي اجتازت فكرة الفشل في المنفى، وقدمت مقاربات زاوجت بين حياتها وإبداعها، أعود إلى برتولد بريخت.

دائرة الطباشير القوقازية! عمل مسرحي للمؤلف والشاعر الألماني (برتولد بريخت 1898-1956م) ويعدُّ أحد أعماله الملحمية المهمة، لما 'تتسم به من نضج في الرؤيا وعمق في التعبير إلى جانب تعاطف كبير مع الإنسانية ومأساتها.' وهي عمل يتناول وجودنا الاجتماعي ككل، وما يكوّنه من تناقضات بشرية عجيبة جدًا، وسعى بريخت إلى الدفع بتلك المكونات لمناقشتها على خشبة الرُّكح لإضفاء القيمة على قوة المسرح في تناوله للسياسة، دون الانفصال عن الجمهور ومشكلاته الحيوية.

كتبها في عام 1933م، وهو عام مفصلي في رحلة بريخت الحياتية والفنية وأسفاره الكثيرة وانتقاله من منفى إلى آخر بسبب ظروف الحرب من جهة، أو إيمانه بالفكر الأيديولوجي في الشق الماركسي الذي اعتقده وظل يدافع عنه في حياته وفي إبداعه المسرحي والشعري. تتكون المسرحية من خمس فصول هي: المقدمة الاستهلالية أو البرولوغ، والطفل النبيل، والفرار إلى الجبال الشمالية، وحكاية القضية، ودائرة الطباشير.

تجري أحداث المسرحية - مع تقدير المصادر الأصلية التي بُنيت عليها- حول قصتين منفصلتين لكنهما تلتقيان في هدف ملحمي واحد، أو يؤديان إلى نتيجة واحدة، تتمثل في مبدأ الكفاءة وتكريم الإنسان الذي يستحق المكافأة بمنحه ما يستحقه من تقدير. ومفهوم الإنسان الكُفء، لا ينحصر في مكوّن اجتماعي من العشائر أو القبائل أو الفخائض أو العُمال، كما لا يقتصر على مهنة واحدة بل ينطبق ذلك على مبدأ الكفاءة وحدها. ولكي يصل بريخت مع المتفرج إلى هذه المسألة الواضحة عنده، ينطلق في نظرته إلى المسرح متكئا على ركيزة أساسية مهمة هي: المسرح الجدّلي. فهذا المسرح يرفض التقليدية الأرسطية، ضاربا مفهوم 'الواقع في الفن' عرض الحائط، كما أنه يقدم رؤية فلسفية للحياة والوجود والثقافة المسرحية.

تدور أحداث القصة الأولى في المسرحية حول مجموعتين من (كولخوزيت سوفييت) يتنازعون على أرض اضطروا إلى مغادرتها إبّان الحرب العالمية الأولى.

تنتسب المجموعتين إلى الأرض بحكم التاريخ، فالمجموعة الأولى كانت تهتم بتربية الماشية، بينما ركزت المجموعة الثانية على استصلاح الأرض وفقا لأساليب الزراعة الحديثة، فكان لديها مخططاتها وأفكارها العملية.

بعد انتهاء الحرب عاد الفلاحون والمزارعون إلى القرية التي غادروها فشَّب النزاع بينهما أيهما أحقّ بالأرض؟ أوفدت السلطة الحاكمة مندوبها ليفصل في النزاع، فيحكم المندوب لصالح الفلاحين بحيازة الأرض، لأنهم أظهروا خطة اهتمامهم بالأرض وتنميتها. أما القصة الثانية فتحكي قصة الأم نتاليا التي تخلت عن طفلها ميشال في أثناء تعرض ولاية زوجها الحاكم لانقلاب على الحكم من أخيه، فتفر الأم زوجة الحاكم وتترك طفلها الذي تتولاه الخادمة غروشا، فتتولى هذه تربيته. بعد عامين تأتي الأرملة زوجة الحاكم مطالبة بأملاك زوجها، ولا تستطيع الحصول عليها إلا من خلال صلبه، ابنها الذي تركته طفلا وهربت. يتم عرض القضية في المحكمة على القاضي أزدك؛ أيهما أحق بالطفل، الأم التي حملته في بطنها وولدته أم التي رعته وربته؟ يلجأ القاضي إلى حيلة قديمة معروفة في العهد القديم، هي قصة الملك سليمان مع المرأتين اللتين جاءتا إليه في مسألة صعبة. فإذا كانت حكمة الملك سليمان دعته إلى استخدام السيف لحل المسألة، فإن بريخت يلجأ إلى الطبشور! يرسم القاضي دائرة بالطبشور على الأرض، ويضع داخلها الطفل، ويصدر أمره بأن تسحب كُّل امرأة الطفل إلى جانبها؛ لأن المرأة التي ستستطيع أخذه ستكون هي أمه. تقاتل الأم الحقيقية بقوة كي تسحب طفلها إليها، بينما تتخلى غروشا عن النزاع، فلجأ القاضي إلى تكرار وضع الطفل في الدائرة، وكانت غروشا تكرر الفعل نفسه! عندئذ يصدر القاضي حكمه أن الطفل سيكون من نصيب غروشا. لقد أدرك القاضي من جواب غروشا استحقاقها للطفل لأنها في امتناعها عن خوض العراك مع أم الطفل الحقيقية إنما كانت تخشى أن تؤذيه أو تتسبب في ألم يُصيبه، وهكذا ينتهي النزاع بين المرأتين، فكما جاء في المسرحية: “كل شيء ينبغي أن يُعزى إلى من يُحسن القيام به.'

لا شك أن بريخت قد أدرك فعالية الاشتغال الجدلي في نظرته للمسرح، لذلك سعى إلى تقديم ما كان يعتقد أنه جوهر الحياة الاجتماعية والإنسانية معا. هذا الجدل في الدراما، سبغ حياة برتولد بريخت ونضاله ضد النازية في مشواره الإبداعي. ففي أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918م، وعندما كان برتولد طالبا في المدرسة الثانوية، طلبت إدارتها أن يكتب مقالة حول موضوع عنوانه العام 'الموت عذب وواجب في سبيل الوطن'، لكن الصبي كما يذكر (قاموس المسرح الصادرة طبعته الأولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008م) كتب مقالة ضد الحرب! فكادت إدارة المدرسة أن تفصله. ولم يمكث برتولد طويلا إذّ جرى تجنيده كممرض فترك المدرسة دون الحصول على شهادتها.

في مبحث صغير بعنوان (مطالب المدرسة القليلة) صدر في كتاب (حوارات المنفيين) ترجمة يحيى علواني، يكتب بريخت على لسان شخصيتيه الحواريتين، عن مهمة معلمي المدارس بروح يمزج فيها النقد والفكاهة، وهو فصل يكشف فيه بعض مرتكزاته الفكرية حول التعليم. كان ذلك الموقف من بين مواقف أخرى كثيرة ألهبت حماسة بريخت لاختيار المنفى قسرًا، لذلك يعدُّ من نماذج العلامات الكبيرة للذين هاجروا وتركوا أوطانهم واستطاعوا أن يعملوا على أنفسهم بلا كسل أو شعور حادّ باليتم وكآبة الفراق أو تفكير في الانتحار. انطلق بريخت بنضاله الفكري والوجودي من إحساسه بالمسؤولية تجاه العالم من وظيفته ككاتب أولا، وكائن مستحق للتقدير، في ظل نظرته المتطورة التأويلية لروح الدراما.

إن الدراما هي فن الجدل. وإذا عجز العمل الدرامي (مسرح، سينما، تلفزيون، وإذاعة)، في أحد أنواعه (تراجيديا، كوميديا، ملهاة) عن إظهار صيغة ذلك الجدل، فيمكن أن يكون العمل المعروض أي شيء إلا أن يكون دراما. إن حرص المشاهد على متابعة العمل ينبع من تضافر عناصر عديدة تكون منصهرة ومنسجمة في داخل العمل ككل، ويصعب في الحقيقة تقييم أداء عمل ما على هيئة أجزاء متناثرة هناك أو هناك، كأن يُمتدح اسم الفنان أو التصوير أو الفكرة الفلانية، بينما يُذم اسم فنانة أو كادر تصوير أو موسيقى العمل. وعلى هذا تضج الساحة الفنية اليوم بأحكام غريبة لا تساوي شيئا.

ختاما، عندما وجه هذا السؤال إلى سارتر: 'من هو الكاتب المسرحي المعاصر الذي تحتفظ له بإعجاب أكثر؟ أجاب قائلا: إنه بريخت، بلا منازع، رغم رحيله. وإن كنت في الواقع لا أستعمل تقنياته ولا أتبنى مبادئه الفنية.'