أفكار وآراء

نهاية الشرق الأوسط

كيف لخريطة قديمة أن تشوه واقعا جديدا؟

ترجمة أحمد شافعي

في مطلع ديسمبر 2021 حققت الحكومة الإثيوبية انقلابا كبيرا في حربها الأهلية الممتدة منذ عام مع متمردي منطقة تيجراي. إذ تمكَّنت القوات الإثيوبية، مسلحةً بترسانة من الطائرات المسيرة وأشكال دعم عسكري أخرى من صد هجوم لجبهة تحرير شعب تيجراي المدعومة من مقاتلين صوماليين مدعومين بدورهم من دولة خليجية.

فوجئ كثير من المراقبين الأمريكيين بالتورط المباشر من عدد يصل إلى أربعة بلدان شرق أوسطية في ما بدا صراعا أفريقيا. ولكن هذا الاهتمام ليس بالنادر. ففي السنين الأخيرة، أقامت روسيا أكثر من أربعين قنصلية في أفريقيا وقاعدة عسكرية كبيرة في الصومال. وأعلنت إسرائيل «عودة إلى أفريقيا»، وذلك جزئيا للعثور على حلفاء في ظل مواجهتها ضغطا دوليا متزايدا بسبب احتلالها للضفة الغربية. واشترت السعودية مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في إثيوبيا والسودان تحقيقا للأمن الغذائي، وأقامت الإمارات قواعد بحرية عبر القرن الأفريقي. وتورطت مصر في صراع مع إثيوبيا بشأن خططها لإقامة سد على نهر النيل.

وليست هذه التشابكات مقصورة على أفريقيا. فقد دأبت عُمان على رؤية نفسها أمة منتمية إلى المحيط الهندي لها علاقات اقتصادية قوية مع الهند وإيران وباكستان. وطالما تدخلت دول خليجية تدخلا عميقا في شؤون أفغانستان وباكستان. وتورطت تركيا بصورة متزايدة في آسيا الوسطى، فكان من ذلك تدخلها عسكريا في أذربيجان. كما قامت جميع الدول الخليجية تقريبا بتحسين شراكاتها مع الصين وبلاد آسيوية أخرى.

وسط هذه الترابطات العابرة للإقليم، المستمرة والمتزايدة، تبقى السياسة الخارجية الأمريكية ملتزمة بخريطة ذهنية ضيقة للشرق الأوسط. فقد دأبت المؤسسة في واشنطن -منذ أولى سنوات الحرب الباردة- على النظر إلى الشرق الأوسط باعتباره العالم العربي الذي يعد بصفة عامة متألِّفا من الدول العضوة في الجامعة العربية (باستثناء دول بعيدة جغرافيا مثل جزر القمر وموريتانيا والصومال)- إضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا. تبدو هذه المتغيرات طبيعية للكثيرين. فبناءً على الاستمرارية الجغرافية، والفهوم المنطقية للمنطقة، وتاريخ القرن العشرين، فإن هذا هو الشرق الأوسط بالنسبة لأقسام الجامعة الأمريكية والمراكز البحثية وكذلك لوزارة الخارجية الأمريكية.

لكن هذه الخريطة تزداد تقادما. تعمل قوى إقليمية رائدة خارج الشرق الأوسط التقليدي بمثل الطريقة التي تعمل بها داخله، وكثير من المتنافسين شديدي الأهمية للمنطقة يلعبون حاليا خارج تلك الحدود المفترضة. وطالما علم البنتاجون هذا: فحتى إنشاء القيادة الأمريكية لأفريقيا في 2007، لم تكن المنطقة التي تغطيها القيادة المركزية الأمريكية -وهي القيادة القتالية التي تتعامل مع الشرق الأوسط- تحتوي فقط مصر وإيران والعراق ودول الخليج وإنما تشمل أيضا أفغانستان وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وباكستان والصومال والسودان، وتلك تجميعة كانت تتعارض تعارضا مباشرا مع رؤية الخارجية الأمريكية للشرق الأوسط.

مثل هذا الاختلال الدراماتيكي بين صنع السياسة الأمريكية والمؤسسات العسكرية يشير إلى أخطار التشبث بنموذج المنطقة القديم. فليس مفهومنا متنافرا فقط مع السياسات والممارسة العسكرية الراهنة، لكنه يعوق أيضا مواجهة الكثير من أضخم التحديات القائمة اليوم، من أزمات اللاجئين المتتالية إلى التمردات الإسلاموية إلى الاستبدادية المترسخة. والاستمرار في مراكمة الدراسات والسياسات بناءً على تعريف موروث للشرق الأوسط يهدد باستراتيجية أمريكية عمياء عن الديناميات الحقيقية التي تصوغ المنطقة، والأدهى من ذلك أنه يرجِّح تماما استمرار واشنطن في اقتراف أخطاء فادحة هناك.

رسم الحرب الباردة التخطيطي

برغم ما يبدو عليه اليوم المفهوم الأمريكي للشرق الأوسط من رسوخ الصخر، لكنه ليس ذا أساس يذكر في التاريخ ما قبل الحديث. فعلى مدار قرون، كانت الولايات العربية في شمال أفريقيا والشام جزءا من الإمبراطورية العثمانية الشاسعة متعددة الجنسيات. وكانت مجتمعات ساحل الخليج العربي مرتبطة عضويا بالقرن الأفريقي عبر البحر الأحمر. وكانت الشبكات الإسلامية ربطت مصر وبقية شمال أفريقيا بمناطق في عمق أفريقيا ما دون الصحراء. لكن الولايات المتحدة -بدلا من النظر إلى الوراء بكل ذلك القدر- تبنّت نسخا للمنطقة من مصدر أحدث، وهو الكولونيالية وسياسات القوى العظمى التي تبنّتها أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

في القرن التاسع عشر، أدّت المشاريع البريطانية والفرنسية الإمبريالية إلى ظهور فكرة تذهب إلى تمايز منطقة محددة في شمال أفريقيا والشام. في عام 1830 احتلت فرنسا الجزائر، وفي 1881 احتلت تونس، وبحلول عام 1912 سيطرت على المغرب أيضا. وكانت مواريث التصنيف العرقي الكولونيالية الفرنسية، وليس حاجز الصحراء الأفريقية الطبيعي، هي التي أدت إلى التمييز بين أفريقيا الفرنسية السوداء والمغرب الفرنسي المأهول بالعرب والبربر ذوي البشرة الأفتح لونا. وتلك العرقية نفسها هي التي رسمت خطا أسمك بين سكان حوض البحر المتوسط المتماثلين ثقافيا فميزت قسريا بين جنوب أوروبا الأبيض وشعوب الشرق الأدنى في الجهة الأخرى من البحر في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية.

وأطلق البريطانيون من جانبهم على المنطقة اسم «الشرق الأدنى» بسبب دورها كنقطة انتقال على الطريق إلى مصالحهم الكولونيالية الأساسية في الهند و«الشرق الأقصى» أو آسيا. وبعد افتتاح قناة السويس سنة 1869 اكتسبت المنطقة أهمية جديدة. إذ باتت المصالح الإمبريالية البريطانية تربط شبه الجزيرة العربية بمصر والشام وتميِّز تلك المناطق عن نقاط تقع في الشمال والشرق والجنوب. وظلت سلسلة محميات على طول شبه الجزيرة العربية تحت السيطرة البريطانية حتى عام 1971، مؤكدة الحدود الكولونيالية القديمة لوقت طويل بعد بدء قوى أخرى في إعادة تشكيل المنطقة. وكانت جملة الافتراضات الأيديولوجية الخاصة بغرائبية مفترضة في العرب والفرس والترك، وهي النظرة التي اشتهرت بمصطلح «الاستشراقية» الذي سكه الباحث الأمريكي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، قد أسهمت في صياغة الفكرة القائلة بأن هذه المنطقة الشاسعة تشترك في خلفية ثقافية.

بعد الحرب العالمية الثانية، ومع انغماس الولايات المتحدة في تنافس الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، عدَّلت وزارة الخارجية الأمريكية مفهوم المنطقة الأنجلوسكسوني وفقا لأغراضها الخاصة. واستُلهم تعريف ما باتت الولايات المتحدة تسميه «الشرق الأوسط» -غير القريب تماما من واشنطن قربه من لندن- من أهداف صنّاع السياسة: وهي ضمان الوصول إلى نفط شبه الجزيرة العربية، وحماية إسرائيل، وإبعاد الممتلكات الفرنسية والبريطانية السابقة في شمال أفريقيا عن مجال النفوذ السوفييتي.

خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ساعدت أولويات الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية على مأسسة هذه الخريطة في الدوائر الأكاديمية ودوائر صناعة القرار. ووجَّه قانون تعليم الدفاع الوطني الصادر سنة 1958 موارد فيدرالية إلى دراسات المنطقة دعما لأولويات الحرب الباردة، وانضمت إلى تلك الجهود مؤسسات ضخمة غير ربحية مثل مؤسسة فورد. وقسَّم النهج الجديد العالم إلى مناطق متمايزة، كان منها الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك حقَّق باحثو الشرق الأوسط معرفة عميقة بثقافات بلاد تلك المنطقة المحددة بإحكام وبلغاتها وبتاريخها وسياساتها. ولكن لم يكن منتظرا منهم أن يعرفوا الكثير أو القليل عن أفريقيا ما دون الصحراء أو أفغانستان أو باكستان مهما بلغت الأهمية المحتملة لتلك الأماكن بالنسبة للقضايا التي كانوا يدرسونها.

في تلك السنوات المبكرة من الحرب الباردة، أعادت قومية الرئيس المصري جمال عبدالناصر العربية ترسيخ أمَّة الشرق الأوسط كوحدة ثقافية سياسية أكثر منها بناء مصطنعا. وبثَّت القضية الفلسطينية والكفاحُ من أجل القضاء على الاستعمار الطاقة والوحدة في العالم العربي فبات رؤساء دوله يعرِّفون أنفسهم عبر مواقفهم من إسرائيل والوحدة العربية. وفي مصر وبلاد أخرى من شمال أفريقيا، أسهمت مواقف عنصرية تجاه سكان أفريقيا ما دون الصحراء في فكرة أن الشرق الأوسط يتمايز ثقافيا وعرقيا عن المناطق المحيطة به. في حين جاء دمج أغلب أجزاء آسيا الوسطى في الاتحاد السوفييتي ليبرر إقصاء دول من قبيل أذربيجان وكازخستان وتركمانستان عن منطقة حددها تنافس الحرب الباردة.

كان هذا المفهوم للشرق الأوسط بمثابة أساس لسلسلة من عقائد السياسة الخارجية الأمريكية والتحالفات الأمنية، والعلاقات التي ظلت لعقود كثيرة -برغم اضطرابات من قبيل الثورة الإيرانية- تحافظ على تدفق النفط والحفاظ على الاستقرار. غير أن ذلك كان له ثمنه. فالتدرب على التفكير بموجب هذه الخريطة، والاعتماد على الرؤى الاستشراقية الموروثة من الحقبة الكولونيالية، جعل الأكاديميين وصنّاع القرار ينزعون إلى استخلاص نتائج عن المنطقة دون أن يأخذوا في الحسبان كثيرا من القضايا الاجتماعية والسياسية العابرة للحدود. ومن ذلك مثلا أن هجمات 11/ 9 أفرزت بسرعة إجماعا على أنها تمت بدوافع مَرَضيَّة محدَّدة خاصة بالشرق الأوسط العربي. وجبال التحليلات التي تشرح الجهادية من خلال الثقافة العربية كثيرا ما عمدت ببساطة إلى تجاهل الصعود الموازي للإسلاموية وقوى تطرف ديني أخرى في أفريقيا وجنوب آسيا وكثير من أجزاء العالم.

وبالمثل، فإن الفكرة القديمة بأن البلاد الإسلامية تتميز إلى حد ما برفض الديمقراطية تتجاهل الدوافع الحقيقية لقوة الأوتقراطية في الشرق الأوسط. وتتجاهل أيضا إسهام المسلمين العادي في ديمقراطيات كثيرة خارج الشرق الأوسط -من الهند إلى الولايات المتحدة ذاتها. ولكن الافتراض بأن المسلمين سيختارون حتما الحكومات الإسلاموية الراديكالية إذا سنحت لهم الفرصة قد استعمل لتبرير عقود من العجز الأمريكي عن دعم الإصلاح السياسي الحقيقي هناك.

بكل هذه الطرق، كان المفهوم الأمريكي للشرق الأوسط في أحيان كثيرة قيدا أكثر منه أصلا من الأصول، وقد ثبت على مدار عقود أنه ثابت بصورة لافتة. فحتى بعدما فضحت أحداث 11/ 9 فضحا قسريا الصلات العالمية لجماعة كالقاعدة التي كانت لها جذور في أفغانستان ومصر والسعودية والسودان، استمرت السياسة الأمريكية على اتباعها للنموذج القديم. وكان من مبررات غزو العراق العزم على إعادة صنع الشرق الأوسط، مع دفع «أجندة الحرية» التي اتبعتها إدارة جورج دبليو بوش إلى حرب أفكار موجهة إلى عالم عربي افتُرض أنه معرض بشكل خاص للاستبدادية والعنف الطائفي. وفي الآونة الأخيرة أدت افتراضات مماثلة إلى أن عجزت الولايات المتحدة عن استشراف الثورات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي في 2010-2011 أو إحسان التعامل الفعال معها.

سياسات خارج الحدود

كانت الانتفاضات العربية بالنسبة لصنّاع السياسة الأمريكيين درسا خادعا. فقد بدا في أول الأمر أن المظاهرات سريعة الانتشار من تونس ومصر إلى أغلب بقية المنطقة تظهر أن تماسك منطقة الشرق الأوسط يتجدَّد. ومما زاد من تأكيد فكرة المنطقة الجيوسياسية الواحدة هو ما أعقب ذلك من تدخل دول خليجية في ليبيا وسوريا واليمن والتوسط في العمليات الانتقالية الجارية في مصر وسوريا. أما بلاد المنطقة الذي زاد نفوذها أكثر مما عداها -أي إيران وإسرائيل وتركيا- فلم تكن جزءا من العالم العربي أصلا. فضلا عن أن الطغاة سريعا ما رأوا الترابط بين شعوبهم خطرا على بقائهم، وسعى الكثيرون إلى قمع الحركات السياسية العروبية مثل الإخوان المسلمين وشبكات الناشطين الليبراليين سواء بسواء. وسرعان ما تحطمت آمال التغير السياسي في الإقليم كله بتشظية جديدة، مع انحدار ليبيا وسوريا إلى الفوضى وبحث الكثير من الملوك العرب عن مصادر جديدة للشرعية لا علاقة لها بالشعب العربي الأعم.

واليوم، إن كان للتطورات السياسية في كثير من بلاد الشرق الأوسط من أثر فهو أنها جعلت حدود المنطقة التقليدية تفقد معناها بصورة متزايدة. فثورة السودان في 2018 أظهرت مدى وقوف السودان بين منطقتين. وفي أماكن أخرى من أفريقيا، أدت الهجرة ونمو التمردات الإسلاموية في عموم منطقة الساحل إلى تحويل المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية لدول المغرب باتجاه الجنوب. وتسببت حرب ليبيا الأهلية في تدفقات من المهاجرين والأسلحة والمخدرات والراديكالية في عموم وسط أفريقيا، مما زاد من ميوعة الحد الفاصل بين شمال أفريقيا وبقية القارة. فكثير من اللاجئين الذين يصلون إلى أوروبا من الشرق الأوسط أصلهم من بلاد تقع جنوب الصحراء الأفريقية. واستجابة للأهمية المتزايدة لمنطقة الساحل، تركز المملكة المغربية على نشر سلطتها الدينية في شرق أفريقيا، وتشترك الجزائر في عمليات أمنية في مالي.

كشفت ديناميات سياسية أخرى عن محدودية قيمة تعريف الشرق الأوسط بوصفه منطقة جغرافية واحدة. فالتنافس الإيراني السعودي على سبيل المثال ليست له أهمية تذكر في شمال أفريقيا. وكانت جاذبية الدولة الإسلامية (المعروفة أيضا بداعش) -وهي جاذبية فاقت جاذبية القاعدة نفسها- عالمية أكثر مما كانت إقليمية، وتجلى ذلك في تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا وانتشار الحركة في أفريقيا وآسيا. ويصعب أن نبقي نماذج مكافحة الإرهاب قائمة على مشكلات يقال إنها من خواص العرب في حين أن بعض التمردات الجهادية النشطة وقعت أيضا في مالي ونيجيريا والصومال.

في الوقت نفسه، تحدت بعض الصراعات الأخيرة الضخمة الحدود الجغرافية المفترضة للمنطقة. فحرب ليبيا الأهلية زعزعت استقرار مالي وجيران أفارقة آخرين. وحينما شكلت السعودية تحالفا لدعم تدخلها ضد جماعة أنصار الله في اليمن (دعما للشرعية) سنة 2015، لم تطلب فقط المساعدة من دول عربية مشابهة في الذهنية، بل طلبت دعم إريتريا وباكستان والسودان التي أسهمت بقواعد وقوات. في الوقت نفسه، أدى فرض الإمارات حصارا بحريا على جماعة أنصار الله إلى إقامة حضور عسكري عبر القرن الأفريقي لتحصين جزيرة سوقطرة ذات الموقع الاستراتيجي، وهي أقرب إلى أفريقيا منها إلى شبه الجزيرة العربية. وبرغم أن صراع اليمن كثيرا ما يعد حربا شرقأوسطية نموذجية فإن مجريات هذا الصراع تشكك في الحدود المفترضة للمنطقة.

أسواق تتجه شرقا

ومثلما أظهرت دينامية سياسية حديثة أن خريطة الشرق الأوسط القديمة بائدة، فقد فعلت ذلك أيضا تغيرات اجتماعية عظيمة الأحجام. منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى ثمانينياته، أدت هجرات العمالة الضخمة من البلاد العربية الفقيرة إلى دول الخليج سريعة النمو إلى إيجاد روابط قوية داخل المنطقة. فقد أدّت تحويلات الأموال دورا محوريا في الاقتصاديات غير الرسمية بمصر وأغلب دول الشام، كما أدّت فترات إقامة العمال المطولة في بلاد الخليج إلى نشر الأفكار الإسلاموية المحافظة التي لم تكن تتوافر من قبل بكثرة خارج السعودية. لكن بعد الغزو العراقي للكويت سنة 1990، الذي كثيرا ما اعتُبر خلاله العمال الفلسطينيون واليمنيون عديمي الولاء، حل بصورة متزايدة محل العمال المهاجرين العرب عمال أكثر أمنا من الناحية السياسية قادمين من جنوب آسيا. وقد أضعفت تلك النزعة كثيرا من الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين الخليج وبقية الشرق الأوسط، في حين قوَّت في المقابل الروابط بين الخليج وبلاد المحيط الهندي.

وبالمثل، فقد الإعلام العربي كثيرا من تماسكه الموضوعاتي. فحتى 2011، كانت الفضائيات العربية تصوغ إلى حد كبير الثقافة المشتركة على المستوى الشعبي، حتى في أثناء الثورات العربية. لكن في العقد المنصرم منذ ذلك الحين، تبلقن المشهد الإعلامي انعكاسا للاستقطاب السياسي في المنطقة. وهكذا فإن الجزيرة التي كانت بمثابة منصة مشتركة للسياسات الشعبية العربية في تسعينيات القرن الماضي وأولى سنوات القرن الحالي أصبحت محض منصة بين منصات إعلامية كثيرة منحازة منها مجموعة روتانا الإعلامية ومقرها السعودية، والعربية ومقرها الإمارات، والعالم الإيرانية الناطقة بالعربية. وتؤكد هذه القنوات وأمثالها الاستقطاب السياسي، فلكلٍّ منها سردية يعتنقها من يدورون في فلكها السياسي ويزدريها من هم خارجها. والإعلام الاجتماعي الذي كان ذات يوم قوة للتكامل الشعبي العربي، تحوَّل إلى سلاح على أيدي الأنظمة الحاكمة، من خلال الاستخدام الواسع للجيوش الإلكترونية والرقابة، حتى تفتت الإعلام الاجتماعي إلى بؤر متعادية.

على مدار العقدين الماضيين، أعادت أسواق المال العالمية بنفسها صياغة توجه بعض أغنى بلاد الشرق الأوسط، ومنها الكويت وقطر والسعودية والإمارات. نظرا لعمق استثماراتها في العقارات والأندية الرياضية الغربية، وتنامي روابطها الاقتصادية بآسيا، وضخامة جالياتها من عمال الخدمات غير العرب والوافدين الغربيين، بأت أكثر منطقية أن ترى هذه الأماكن أنفسها مراكز للرأسمالية العالمية أكثر من كونها دولا من الشرق الأوسط، فالمشتركات بين دبي وسنغافورة أو هونج كونج أكبر من المشتركات بينها وبين بيروت أو بغداد. وبالمثل، يعكس استعمال دول خليجية لوسائل مراقبة رقمية إسرائيلية نموذج الصين بقدر ما يعكس نموذج أنظمة حاكمة عربية أخرى. وقد يحدث عما قريب أن تؤدي هذه الروابط العالمية في الاقتصاد والتكنولوجيا دورا كبيرا في السياسة الخارجية لهذه الدول مثلما تفعل الأولويات التقليدية، فتدفع إلى مزيد من الاقتراب من آسيا مثلا أو توفر لها حوافز جديدة للتلاعب في انتخابات الدول الديمقراطية الغربية.

أما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي كان في يوم من الأيام قوة توحيد للعالم العربي فذوت أهميته بشدة. فحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات -التي تستهدف الاستيطان الإسرائيلي المتصاعد في الضفة الغربية- اجتذبت اهتماما من الجامعات الأمريكية وقاعات الكونجرس أكثر مما اجتذبته في الشرق الأوسط. وأوروبا والأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية باتت ميادين عراك مركزية للنزاعات الفلسطينية الإسرائيلية أكثر من أي عاصمة عربية. والقضية الفلسطينية اليوم، برغم اكتسابها دعما غير مسبوق في الغرب، باتت تحظى بقدر من التعاطف ندر أن حظيت بما هو أدنى منه في دول المنطقة العربية، مثلما تبيّن من قرار تطبيع دول عربية مؤخرا تطبيع العلاقات مع إسرائيل في اتفاقيات أبراهام في 2020. وبرغم الآثار الملموسة المحدودة لتلك الاتفاقية بدا أن الإسرائيليين يعتزون بها، بوصفها أقرب إلى التنفيس، وذلك جزئيا لأنها أشارت إلى زوال الشرق الأوسط بوصفه منطقة اعتبارات سياسية وأمنية في المقام الأساسي، بالنسبة للعرب والإسرائيليين على السواء.

خريطتهم لا خريطتنا

على مدار خمسة وسبعين عاما، كان الشرق الأوسط مثلما نعرفه جزءا إلى حد كبير من بنية التفوق الأمريكي. في أغلب تلك الفترة، كانت الخريطة الأمريكية منطقية لأن أولويات واشنطن في المنطقة كانت قادرة على قطع شوط كبير في التأثير على سياسات المنطقة. فقد صاغت عقائد الحرب الباردة المعتنقة في واشنطن تحالفات وتدخلات منذ زمن أزمة السويس سنة 1956 حين أزاحت الولايات المتحدة كلا من فرنسا والمملكة المتحدة بوصفهما القوة الغربية الأساسية في المنطقة، وحتى سقوط سور برلين سنة 1989. رسخت حرب الخليج في 1990-1991 النظام الإقليمي الأمريكي الذي بدا فيه أن جميع الطرق تفضي إلى واشنطن. احتكرت الولايات المتحدة فيه قيادة عملية السلام العربية الإسرائيلية منذ مؤتمر مدريد وحتى اتفاقات أوسلو وحدد احتواؤها المزدوج لإيران والعراق الجغرافيا السياسية للخليج.

لكن الموقف العالمي للولايات المتحدة تراجع بصورة سريعة، كما تراجع أيضا تماسك المنطقة المنتظمة إلى حد كبير حول المصالح الأمريكية. ووسط تداعيات القرار الكارثي بغزو العراق في 2003، سعى ثلاثة رؤساء أمريكيين متعاقبين إلى تقليل الالتزامات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والاتجاه إلى آسيا. ومع تصور تراجع الولايات المتحدة، أكدت القوى الإقليمية تعريفاتها للمنطقة: فثمة نظام متركز على المحيط الهندي بالنسبة لدول الخليج، وتوجه عبر الساحل إلى دول شمال أفريقيا. ولا يعني هذا أن مناطق الصراع التقليدية تلاشت. فإيران على سبيل المثال نشرت شبكات نفوذها عبر الدول المحطمة في العراق ولبنان وسوريا واليمن وهي حبيسة منافسة متزايدة مع إسرائيل والسعودية. لكن إيران شأن منافسيها الإقليميين زادت أيضا من أنشطتها في أفريقيا وبدأت تؤسس شراكات مع دول في آسيا، وخاصة الصين.

بالنسبة للولايات المتحدة، أدى صعود التمردات الجهادية في أفريقيا ما دون الصحراء إلى أن بادت عقيدة مكافحة الإرهاب المرتكزة على الشرق الأوسط التي ظهرت في أعقاب 11/ 9. وعلى الرغم من أن القوات الأمريكية انسحبت من العراق وسوريا، فإن غارات الطائرات المسيرة الأمريكية وعمليات مكافحة الإرهاب مستمرة من الصومال عبر الساحل. والمربك أنه حتى مع إشارة الولايات المتحدة إلى أنها تخرج من الشرق الأوسط، فإنها تحافظ على معمارها العسكري نفسه أو توسعه، للتعامل مع الكثير من المخاوف الأمنية نفسها في الساحل وشرق أفريقيا.

والآن، لا بد أن تتعامل الولايات المتحدة مع بكين أيضا، والأخيرة تفكر في الشرق الأوسط تفكيرا مختلفا عن تفكير واشنطن. فخريطة المنطقة بالنسبة للصين تتبع مصالحها الاستراتيجية لا مصالح واشنطن الاستراتيجية. ومن خلال مبادرة الحزام والطريق، وسّعت بكين أيضا مصالحها المتعلقة بالطاقة في الخليج ووسّعت حضورها في أفريقيا. إذ وقَّعت اتفاقيات مع دول خليجية، متجاوزة الفجوة القائمة بين إيران ودول الخليج العربية بالتقليل من شأن السياسة والتركيز على البنية الأساسية وموارد الطاقة. وفتح الانخراط الصيني المتنامي آفاقا جديدة لاستقرار إنتاج النفط وأشكال أخرى من التعاون الإقليمي، لكنه ضاعف كذلك من فرص إساءات الفهم الخطيرة، إذ تسعى واشنطن إلى الموازنة بين مصالحها الإقليمية ومنافستها المتزايدة مع الصين.

لو كان الباحثون والمحللون وصنّاع القرار الأمريكيون قد بدؤوا يقللون من فهمهم للشرق الأوسط باعتباره منطقة جغرافية منفصلة ويزيدون من فهمه باعتباره مجموعة سائلة من الدول والشعوب تعمل فيها قوى اجتماعية واسعة ومنافسات متغيرة على السلطة، فإن كثيرا من التطورات الأخيرة كان ليبدو أقل إدهاشا. وكان من شأن التفكير في ما يتجاوز الشرق الأوسط التقليدي ليحقق منافع تحليلية واستراتيجية مباشرة لواشنطن، وليس ذلك فقط لأنه يقتضي استعادة للتاريخ المنسي بل لأنه أيضا يؤدي إلى فهم أفضل للواقع سريع التغير على الأرض.

ولكن النهج العابر للإقليمية ينطوي على مخاطر. فتبنّي تعريف البنتاجون الأوسع للمنطقة قد يفضي إلى إعادة إنتاج للتركيز على الدوافع الأمنية الذي رسم كثيرا من سياسات الولايات المتحدة الفاشلة في أفغانستان والشرق الأوسط على مدار العقدين الغابرين. ومن شأن ذلك أن يكون مأساة. فيجب أن تتيح العدسات العابرة للإقليمية للأكاديميين وصنّاع السياسة ألا يتجاوزوا فقط النماذج القديمة بل وأن يعيدوا أيضا التفكير في تعزيز التنمية والحكم الرشيد بالخارج. وقد يساعد واشنطن على الخروج باستجابة أكثر فعالية تجاه أفريقيا وأزمة المهاجرين في أوروبا، والاصطفاف مع القوى العالمية اصطفافا أفضل في الاستجابة للحربين الكارثيتين في ليبيا واليمن، واجتناب صراع لا داعي له مع الصين في مناطق وحول قضايا يمكن أن يكون التعاون فيها أجدى وأعقل. والتخلي عن الافتراضات الثقافية والسياسية القديمة بشأن الشرق الأوسط والنظر إلى المنطقة في سياق عالمي أوسع قد يمكّن الولايات المتحدة وحلفاءها أخيرا من البدء بجدية في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز تغير ديمقراطي حقيقي هناك.

لكن واشنطن تخاطر -بالبقاء في أسر مفهوم للمنطقة عفا عليه الزمن- ببتر فهمها لسلوك اللاعبين الأساسيين في الشرق الأوسط ومصالحهم، وإساءة فهم أفعال القوى العالمية الأخرى هناك، مثل الصين، والمغالاة في تقدير آثار التراجع الأمريكي. وسوف يكون من الصعب التفكير بما يتجاوز الشرق الأوسط: فالمعرفة المتراكمة، وأنماط التفكير الداخلي العميق، والبنى البيروقراطية الراسخة، تعترض جميعا هذا الطريق. لكن الديناميات المتغيرة للقوة العالمية والممارسة الإقليمية تعيد بسرعة توجيه كثير من الدول الرائدة في الشرق الأوسط، والخريطة التي تتبعها هذه الدول لم تعد خريطة أمريكية، إنما هي خريطة تخص هذه الدول. ولواشنطن الآن أن تقرر إن كانت راغبة في تعلم قراءة هذه الخريطة.

مارك لينش أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، متخصص في الشرق الأوسط ومؤلف كتاب «أصوات الشعب العربي الجديد»

مترجم عن مجلة فورين أفيرز عدد مارس، أبريل 2022