أفكار وآراء

درس أستراليا.. وكسر أنف «جوجل»

في فبراير من العام الماضي كتبت في هذا المكان عن الأزمة التي اندلعت وقتها بين شركات التقنية العملاقة، خاصة جوجل وفيسبوك، وبين الحكومة الأسترالية، على خلفية قانون التفاوض مع وسائل الإعلام الإخبارية الذي كان يناقشه مجلس النواب الأسترالي، ويلزم تلك الشركات بالدخول في مفاوضات مع الصحف ووسائل الإعلام الوطنية ودفع تعويضات مالية عادلة عن استخدام أخبارها وروابطها على محركات البحث ومنصاتها الإلكترونية.

بعد مرور عام أو أكثر قليلا، وبعد شد وجذب، وتهديدات متبادلة وصلت إلى حد التهديد بانسحاب شركات التقنية العملاقة من العمل في أستراليا، وإعادتها -وفق تعبير جوجل- إلى عصور الظلام الرقمي، حققت الحكومة والصحافة الأسترالية نصرا كبيرا كافحت طويلا من أجله، وأجبرت تلك الشركات العابرة للحدود على سداد مئات الملايين من الدولارات للصحف ووسائل الإعلام.

وقد أعادت تلك الأموال الحياة إلى الصحافة الأسترالية، سواء على صعيد إنشاء صحف جديدة، أو على صعيد توفير فرص عمل جديدة للصحفيين، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق على إنتاج محتوى إخباري ومعلوماتي عالي الجودة، وهو ما عده البعض أفضل ما حدث للصحافة الأسترالية في العشرين سنة الأخيرة.

وتقول الأخبار الواردة من أستراليا: إن فيسبوك وجوجل أبرمت، خلال العام الماضي وبعد دخول القانون حيز التنفيذ في فبراير الماضي، نحو 30 صفقة مع المؤسسات الصحفية والإعلامية الأسترالية لدفع التعويضات عن المحتوى المستخدم منها في منصات الشركتين. ووفقا لتقديرات شبه رسمية دفعت الشركتان حوالي ربع مليار دولار أسترالي لعدد من المؤسسات الإعلامية، كانت كافية وأكثر لإعادة الأمل لصناعة الصحافة في أستراليا، التي ظلت تعاني من تراجع حاد في الإيرادات طوال السنوات الماضية، وهو ما أجبر بعضها على تسريح صحفييها، وإغلاق بعض الصحف المحلية.

أصبحت أستراليا إذن أول دولة في العالم تنجح في كسر أنف وغرور عملاق محركات البحث «جوجل»، وعملاق شبكات التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، وإجبارهما على التضحية بجزء من أرباحهما الطائلة لصالح الصحف وشركات وسائل الإعلام المنتجة للمحتوى. ولعل أهم ما ميز القانون الأسترالي أنه لم يتدخل في تحديد مبالغ التعويضات التي تدفع للصحف ووسائل الإعلام من جانب تلك الشركات، وترك الأمر للمساومة والتفاوض بينها وبين كل صحيفة ومؤسسة إعلامية على حدة، للوصول إلى اتفاق يرضي الطرفين.

وعلى سبيل المثال توصلت شركة «ناين» للتسلية الإعلامية، التي تمتلك صحفا شهيرة مثل سيدني مورننج، ومحطات راديو وقناة تلفزيونية وطنية، بالإضافة إلى منصات رقمية عديدة منها منصة الفيديو تحت الطلب، إلى اتفاق تحصل من خلاله على 50 مليون دولار أسترالي سنويا من جوجل وفيسبوك، وهو الاتفاق نفسه الذي توصلت له مجموعة «نيوز كوربوريشن أستراليا» المملوكة لعائلة إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، التي تصدر صحف ديلي تليجراف وذي أستراليان، وهيرالد صن.

وقد أنعشت أموال جوجل وفيسبوك هذه الشركات فزادت أرباحها خاصة من النشر الصحفي.

صحيح أن هناك صحفا ووسائل إعلام أخرى صغيرة ومتوسطة الحجم لم تصل بعد إلى اتفاق مع العملاقين العالميين، أو بالأصح تتجاهلهم شركات التقنية العملاقة ولم تبادر إلى فتح قنوات اتصال للتفاوض معها حول قيمة التعويضات عن الأخبار المأخوذة منها. إذ تركز تلك الشركات على الاتفاق مع الصحف والمؤسسات الإعلامية الكبيرة، بدوافع انتهازية تقوم على فكرة أنه لا أحد سوف يهتم بالصحف الصغيرة. وقد دفع هذا التجاهل تلك الصحف إلى تنظيم احتجاج امتنعت من خلاله عن نشر أي مقالات إخبارية، لإجبار فيسبوك وجوجل على التفاوض معها. وفي حالة عدم إقدامهما على فتح باب التفاوض مع هذه الصحف، يمكن للحكومة من خلال نص واضح في القانون أن تجبرهما على الجلوس إلى طاولة التفاوض معها، أو فرض غرامات على كل منهما يمكن أن تصل إلى عشرة بالمائة من إجمالي دخلهما في أستراليا، وهو أمر إن تم سوف يضاعف حجم الأموال التي ستجنيها صناعة الإعلام الأسترالية من جوجل وفيسبوك على مدى السنوات القادمة.

الشاهد في الأمر أن أستراليا نجحت في تقديم نموذج يمكن أن تقتدي به دول العالم في إعادة الحياة للصحف ومؤسسات الإعلام التي تعاني مشكلات اقتصادية كبيرة، وذلك برد بعض حقوقها المسلوبة من جانب شركات التقنية العملاقة التي تسيطر على سوق الإعلام الرقمي العالمي. لذلك تدرس دول عديدة في العالم بما في ذلك المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية استخدام هذا النموذج لتوفير الدعم المالي للصحف ووسائل الإعلام، رغم اعتراضات شركة جوجل التي ترى أن تشريعا مماثلا في الولايات المتحدة لن يكون عمليا وسوف يضر بالديمقراطية، وحق مستخدمي الإنترنت في الحصول على المعلومات. ورغم إجباره على الدفع للصحف الأسترالية فإن عملاق البحث على الويب يرى أن ما حدث في أستراليا لا يجب تكراره، وما زال يعارض فكرة الدفع للناشرين مقابل إظهار روابطهم الإلكترونية في نتائج البحث، من منطلق أن هذه الروابط تعد سمة أساسية من سمات شبكة الويب؛ لذا فإن مثل هذه التشريعات ستضيق نطاق البحث عن المعلومات، وهو ما يهدد حرية الويب بصفتها شبكة مفتوحة ومجانية، ويقوض أساس التنوع والتعددية الإعلامية.

إن ما يجب أن يشغلنا الآن بعد نجاح النموذج الأسترالي واتجاه دول أخرى إلى اتباعه، هو موقعنا نحن العرب من هذه التطورات التاريخية التي ربما تؤسس لعصر إعلامي جديد تحتفظ فيه الصحافة بموقعها باعتباره مزودا رئيسا للمنصات الإعلامية بالأخبار والمعلومات، وموقفنا من تلك الحلول التي يقدمها لنا درس أستراليا لدعم صناعة الصحافة التي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة في العالم العربي، وكيف نستفيد منه.

لقد أصبح من الضروري الاستفادة من النموذج الأسترالي، واتخاذه منطلقا للتفكير في حلول جديدة لأزمة الصحافة العربية من خارج صندوق الأفكار التقليدية والمعلبة التي تتمحور جميعها حول الدعم الحكومي للصحف ووسائل الإعلام العربية. إن الصحافة العربية في أمس الحاجة إلى موارد جديدة تمكنها من الاستمرار في السوق الإعلامي وتفتح أمام أبنائها أبواب الأمل والوظائف الجديدة في المستقبل. والجيد في الأمر أن لدينا سوقا عربيا كبيرا للإعلام الرقمي يصل حجمه إلى ما لا يقل عن 300 مليون مستهلك، ويزيد عدد المنضمين إليه يوما بعد يوم. وبموجب ذلك يمكن أن نتفق على صيغة قانونية موحدة، يمكن التوصل إليها من خلال الصحف العربية الكبيرة أو عبر مجلس وزراء الإعلام العرب، نلزم بموجبها جوجل وفيسبوك وغيرهما من عمالقة شركات التقنية على التفاوض مع الصحف ووسائل الإعلام العربية، إما بصورة فردية أو جماعية، ودفع تعويضات مالية لها مقابل استخدام روابطها وأخبارها في محركات البحث، وشبكات التواصل الاجتماعي. وبهذه الصيغة الموحدة يمكن أن نوفر دعما دائما وكبيرا لصناعة الإعلام العربية.

لقد حققت صحف عربية عديدة نجاحات كبيرة في منصاتها الرقمية، وأصبحت روابطها في مقدمة نتائج محركات البحث، وأخبارها في صدارة ما ينشر على شبكات التواصل الاجتماعي، ولكنها ما زالت تعاني ضغوطا اقتصادية خانقة تمنعها من الازدهار، وقد حان الوقت لكي توظف هذا النجاح في الحصول على جزء من الأرباح الكبيرة التي تحققها شركات التقنية العملاقة مثل جوجل وفيسبوك في المنطقة العربية.

أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس