أفكار وآراء

التنميط.. إسقاطات العقل الباطن

يحل مصطلح الـ'تنميط' كمفهوم اجتماعي قبل كل شيء، قابل لتوظيفه في كثير من مشاريع الحياة اليومية: في الاجتماع، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الثقافة؛ حيث يتماهى في النهاية كوصف يسقطه الطرف الأول على الطرف الآخر، إما وصفا إيجابيا، أو وصفا سلبيا، وهو الغالب، أو للتنصل من مسؤوليات معينة، بغية إفساح المجال للشروع في اتخاذ القرار دون حساب، 'فهؤلاء جهلة' يبقى مسوغا لفعل كثير من الممارسات، لأن صاحبه أسقط تنميطه على هذه المجموعة أو تلك، و'هؤلاء قرويون' يجردون من معاني الحضارة، و'هؤلاء مدنيون' يحملون ما لا طاقة لهم من الفوقية والتقزز والترفع، 'وهؤلاء متدينون' يذهب بهم إلى التنطع والمغالاة، و'هؤلاء مثقفون' قابلة حالتهم لأن يكونوا في 'يقولون ما لا يفعلون' وقس على ذلك أمثلة كثيرة، فإسقاطات التنميط، من وجهة نظر شخصية هي لرفع العتب عن ممارسات غير صائبة يأتي بها هذا أو ذاك ممن يعنيهم العمل على وتيرة التنميط، بينما واقع كل ما ذكر من أمثلة لا يمثل (1%) مما ينسب إليهم من تداعيات التنميط، والمشكلة الأكبر أنه بعد حالة الإسقاط، يتم التبني من بقية الأطراف، أو مجموعة الحاضرين على المسرح، دون تفنيد.

تذهب التشاركية في جميع أفعالنا وممارساتنا إلى هدف واحد مهم وهو الحصول على نتيجة معبرة عن جهد جماعي، ورؤية ناصعة وحيادية لمجموعة من الناس: فريق عمل، وجماعة تعمل لهدف واحد، وأسرة متماسكة بمجموع أفرادها، ومؤسسة تفاعلية في الإنتاج، وهذه التشاركية لن تتحقق إلا من خلال تحرر أفرادها جميعهم من الحالة الـ'تنميطية'وهذا وفق الواقع ليس يسيرا تحققه لأن الثقافة الاجتماعية لدى أغلب الناس مشحونة بالكثير من صور الـ'تنميط'وأشد التنميط أثرا ومحنة عندما يتوغل في بيئات العمل الجماعي، سواء أكان هذا العمل الجماعي تنفذه مؤسسة أو مجموعات عمل متنوعة داخل البيئات الاجتماعية، وما أكثرها تبدأ من القبيلة، فالطائفة، وتذوب في التشكيلة 'الفسيفسائية' في المجتمع الكبير.

لماذا يحدث التنميط؟ هل لأن الصور النمطية بهذا الكم من الكثافة حتى لا يستطيع العقل الواعي التخلص منها؟ أم أن العقل الباطن يمارس سلطة غير عادية لا يستطيع العقل الواعي مجابهتها؟ مع أن العقل الواعي هو الذي يسمح للصور والمواقف، والأحداث لأن تدخل لأنه البوابة الرئيسية إلى العقل الباطن، بعد أن تكتمل مجموعة الإشباعات العاطفية لدى الفرد، أو حتى المجموعات الفردية، فالذي يضحي -على سبيل المثال- بكثير من وقته لخدمة الناس قد ينظر إليه على أنه 'مغفل' وفق التقييم المادي، بينما يكون هذا المضحي بماله أو جهده ينطلق من مبدأ إنساني سامٍ اقتنع به عقله، فوجهه نحو ممارسته، واستلم العقل الباطن بعد ذلك هذا التوجيه فتحول الأمر إلى ممارسة نمطية عند كثير من الناس، دون أن يستحضروا مجموعة التقييمات التي تذهب إلى أن هذا النوع من التضحيات هو تحصيل حاصل، وأن الناس بإمكانهم أن يتدبروا أمرهم بوجود المضحي أو بعدمه، إذن من نعزي هنا، ومن نلوم؟ لأن بقاء الحال 'التوصيف النمطي للأفعال الخيرة' كما هو عليه فيه ضرر كبير على النتائج المتحصلة، وهذا الضرر يتلقى مأزقه الجميع، صحيح أن هذه إشكالية موضوعية في العلاقات التنظيمية بين الناس، وهذا ما يصعِّب من أمر تجفيف منابع الأحكام التي تصنف من يقوم بالأعمال الخيرية على أنه إنسان فطري أكثر منه عملي، لأن الإنسان 'حمالة أوجه' بمعنى قد يتخلى عن الفعل الحسن الجميل 'التضحية' كما هو المثال، ويضرب بكثير من القيم الإنسانية أو الاجتماعية بعرض الحائط، ويقول في نفسه: 'ما الذي يجبرني على ذلك؟ فليذهب الجميع إلى الجحيم.

إذن؛ والحالة كذلك من ستكون له القدرة على فصل هذا 'الورم' إن يصح التعبير، لكي يحمي هذا الفكر من هذه الثيمة المزعجة 'التنميطية' ويحول هذا الفكر بكامل قوته وجبروته، إلى فكر ناصع متحرر من كل تجاذبات الـ'التنميط'؟ يقال: لا شيء سوى الآلة الميكانيكية، فهي الوحيدة القادرة على الحياد، فهذه لا تفرق بين فلان من الناس على أنه ناقد، أو معارض، أو عنده رأي قاطع كالسيف، فيستبعد من أي عمل، حتى لا تنسب إليه نسب النجاح والتفوق، وهي لا تفرق ما بين فلان الذي يحظى بالقرب من المسؤول، أو القرب من شيخ القبيلة، أو له مكانة خاصة عند فلان، لأن كل الاعتبارات الشخصية تذوب وتتماهى عند الوقوف أمام الآلة، وتبقى المهنية، والمعرفة هي الفيصل، فالآلة لا تختزن صورا للعقل الباطن فيها، فعقلها عبارة عن برنامج تقني مؤسس على (1+1=2) وبالتالي فأي اعتبار يخرج عن هذه القاعدة الرياضية لن يكون له مكان في عقل الآلة الحاضر.

ولذلك تُعَطَّلْ الآلةُ في النظم التقليدية: النظام الاجتماعي، والنظام المهني، والنظام الفكري، والنظام الاقتصادي، لأن الآلة لا تسمح أبدا في الإضافة أو النقصان على قاعدتها الرياضية، ولذلك هناك من يتخوف من هذه الآلة، ويرى فيها الـ'بعبع' الذي سوف يقلل المسيرة النمطية التي ترجح في كفة الميزان وفق المزاج، ووفق التصنيف، ووفق التنميط، ووفق معنى 'هذا من شيعتي، وهذا من عدوي' حيث تنتصر أبدا لقاعدتها الرياضية، فهل يحسب للآلة الفضل في الانعتاق من كثير من الممارسات التي كرست الصور النمطية لدى الشعوب، وخاصة الشعوب المصنفة بـ'العالم الثالث'؟

ينظر إلى التنميط السياسي على أنه أكثر خطورة من التنميط الاجتماعي، ذلك أن الأول ينفذ عبر برامج موجهة ومقصودة لنيل طرف من طرف، وغالبا ما يكون الطرف 'صانع' الصور النمطية هو الطرف الأقوى لتكريس الصفات، والأفعال السيئة، والممارسات المشينة على الطرف المراد إرباك منظومته السياسية بغية إيجاد مبررات للاعتداء عليه، أو غزوه، أو استغلال ثرواته، وتشحذ لأجل ذلك الكثير من القوى بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، وتسخر في ذلك الكثير من الدعايا السياسية 'البروباجندا' أو الإعلامية حتى يتحقق المطلوب، ويتم عبر ذلك إزاحة الأنظمة السياسية، أو الاقتصادية أو إرباك الأنظمة الاجتماعية، والتي يرى المعتدي أن كل هذه الأنظمة هي حجر عثرة في طريق تنفيذ أجنداته وتحقيق مصالحه الخاصة، بغض النظر عن الحقيقة الماثلة على الواقع، ولعلنا نلاحظ، أو عايشنا مثل هذه الوقائع والأحداث لمثل هذه الممارسات في عصرنا الحديث، ولا تزال الحالة تراوح مكانها، أما التنميط الاجتماعي فهو وليد ممارسات اجتماعية، وعادات وقيم، تتوارثها الأجيال جيل بعد جيل، وإن كان توالي الأجيال يعمل على -في الغالب- إرباك بعض الصور النمطية، حيث يتجاوزها بالكثير من الممارسات التي لا تتفق مع ما توارث عليه الأجيال، في صورة ما يسمى بـ'صراع الأجيال' أو يعطى مسمى أضخم وهو 'صراع الحضارات' وبالتالي فهذا النوع من التنميط وإن كان يوسم المجتمعات بوصف: التخلف، أو الرجعية في بعض التقييمات إلا أنه يظل أقل خطورة من سابقه، لأن الأجيال هنا تتجاوز مثل هذه الصور النمطية المتوارثة، من خلال تحديثاتها المستمرة، لواقعها، يساعدها في ذلك مجموعة من الأدوات الحديثة، وهي الأدوات التي تتفق وواقع حال الحياة اليومية، وما تشهده من تطورات تقنية، وما تشهده المجتمعات من تفاعلات مع مجتمعات أخرى، فتتأثر بها، وتعيد في الغالب الكثير من نمط حياتها اليومية، في الممارسات، وفي الأدوات التي تستخدمها، وإن كان البعض يرى أن بعض صور النمطية الاجتماعية بقاؤها ضروريا لتحديد الهويات والانتمائيات المجتمعية، حتى لا تنسلخ المجتمعات منها.

ومن أكثر التنميطات الشائعة هي عدم القدرة على التخلص من شيء اسمه أجنبي 'عقدة الخواجة' –حسب التعبير المصري - فهذا الـ'خواجة' صاحب خبرة أوسع، وذو معرفة أكبر، ويمكن أن يكون استشاريا أفضل، ومجتهدا أكثر، وفي المقابل فإن ابن البلد كسول، ولا يحقق كل الصفات الآنفة الذكر، وفوق ذلك فهو عنيد، ولا يحترم القانون، ولا يتعاطى مع الجديد، وليس له القدرة الكافية للاستيعاب، وهذه الأحكام المطلقة لكلا الطرفين هي صور تنميطية بامتياز، فلا الخواجة له هذه القدرات الخارقة، فمثله مثل أي فرد آخر من المواطنين، ولا المواطن بهذا السوء المطلق الذي ألبس عليه، فهو مثل الآخرين أيضا له قدراته الشخصية والذاتية، ويستطيع أن يكون أينما يكون الآخر لا فرق بينهما إلا ببعض المعززات الذاتية، وهي الموجودة لدى كلا الطرفين، ولكن لأن هناك من عمل بجد في ترسيخ هذه الصور النمطية عن كلا الطرفين، واختزنها العقل الباطن.