هوامش ومتون.. كسرا لحلقة مفرغة من الحياة
الأربعاء / 11 / رمضان / 1443 هـ - 14:31 - الأربعاء 13 أبريل 2022 14:31
لا أدري لماذا مثل أمامي لحظة وصول خبر رحيل الصديق العزيز عبدالعزيز الفارسي، عنوان نصّه 'أخائف من الموت أنت يا أبا هاجر؟' والعنوان مستلّ من سؤال ألقاه على مسامعه مريضه خالد، الأربعيني الذي أصيب بسرطان الدم، وبدأ رحلته مع العلاج الكيمياوي، وإذا علمنا أن الفارسي المولود عام 1976 غادر عالمنا، وهو في السادسة والأربعين من عمره، فهل تراه توحّد مع مريضه الذي علّمه 'الحديث عن الموت بجسارة' ولم ينس أنّ روح الطبيب (عبدالعزيز) ملتصقة بروح مريضه (خالد) الذي جاء سؤاله مباغتا، وصادما، لأنّه من مريض على وشك الموت، وبالفعل توفّي بعد يومين، لطبيب في كامل صحّته، وعافيته، لكنّه ظلّ محفورا في ذاكرة الفارسي، بحيث جعله عنوانا لقصّة، منشورة بمجموعته 'لا يفلّ الحنين إلّا الحنين'، وكأنّه بسؤاله عزفَ على وتر حسّاس، فحمل في طيّاته دعوة لطبيبه كي يستعدّ لمواجهة موت مبكّر، بشجاعة، قبل أن يستكمل مشروعه الأدبي في وقت أخذت دراسته الطبية شطرا من عمره الذي نذره لخدمة الإنسانية في الطب، والأدب، كما فعل الكاتب والطبيب الروسي تشيخوف، صاحب المقولة الشهيرة 'الطب زوجتي والأدب عشيقتي'.
في حوار لي معه قبل 19 سنة، سألته: ماذا يريد عبد العزيز الفارسي من الكتابة؟ فأجاب: الذي يريده من الحياة.. كسر الحلقة المفرغة من الموت والميلاد على الهوامش.. بكل بساطة!! ويضيف في الحوار الذي أجريته بمناسبة صدور مجموعته القصصية الأولى (جروح منفضة السجائر) عام 2003 عن دار (الكرمل) بالعاصمة الأردنية عمان 'تولد الأشياء لتسقط في الغواية، ثم يمضغها التراب، وبين الميلاد والسقوط مسافة أقل من شعرة، أسعى -قدر إدراكي- رصفها بشيء من حقيقة، فالحياة رحلة انتظار مصيرنا في الأرض، والغواية تحجب أبصارنا عن السماء، ولا أرغب إلا بكسر الحلقة المفرغة من الموت والميلاد' فهل نجح صديقنا د. عبد العزيز الفارسي الذي باغتنا خبر رحيله المفاجئ في كسر تلك الحلقة، وخرج إلى عوالم أكثر نقاء وصفاء، كما كان يحلم؟ هل كانت روايته الأولى 'تبكي الأرض.. يضحك زحل' التي بدأ بكتابتها ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره، وهو العمر الذي كتب به الراحل حسن مطلك روايته المدهشة ( دابادا) وكلتا الروايتين تحدّثتا عن عوالم غرائبية، استلهمها الكاتبان من البيئة (السديرة) في (داباد)، و( شناص) في (تبكي الأرض..)، أقول: هل ذلك التشابه يمكن أن يقودنا إلى رسائل في طيّ الغيب؟ وكان من حسن حظّي أنّني قرأت مخطوطتيهما قبل الطباعة.
لقد ترك الفارسي نتاجا غزيرا قياسا لعمره القصير، في القصة والرواية والقصة القصيرة جدا والمقال الأدبي، ولو لم ينفق (14) سنة من عمره، في دراسة الطب بجامعة السلطان قابوس، وكندا، وكرّس وقتا أطول للكتابة، لكان له شأن آخر، وفي ذلك يشبه الصديق الراحل حسن مطلك، فكلاهما ترك نتاجا غزيرا، ورصينا، ومارس نشاطا ثقافيا، رغم أن جلّ وقت الفارسي كان يمضيه في عمله كطبيب، حتى عندما يكون خارج المستشفى، ففي تنقّلاتنا داخل مسقط وخارجها، كان يحرص على حمل سماعة التشخيص، وأدوات الإسعافات الأوليّة معه، وحين سألته عن ذلك، ذات يوم، أجاب: 'الطبيب طبيب في كل وقت، فربما رأيت في الطريق حادثا، ومصابا بحاجة إلى إسعاف عندئذ أكون على أتمّ الاستعداد لنجدته'، وعند مرض زوجتي المرحومة (عزة الحارثي)، وكان زميلا لها في المستشفى السلطاني، ظلّ على تواصل معي يمدّني بالنصائح الطبية، ويشدّ من أزري حتى عندما كان يواصل دراسته العليا في كندا، متخصصا في مرض السرطان، وحين سألته ذات يوم عن سبب اختياره هذا التخصص أجاب: لأن جدي توفي بالسرطان، فأردت أن أعالج المصابين به، مذكّرا إياي بمقولة تشيخوف 'ثلاثة أشياء تغير نظرتك للحياة وتترك فيك فجوة عميقة: المرض والغربة وفقدان عزيز'.
لقد جعل الفارسي الواقع مادة أوّليّة لقصصه، والمهمشين أبطالا، والموت والحزن البشري، والألم محاور لا يحيد عنها، يقول القاص خليل السواحري: 'قصص الفارسي تؤشر في معظمها على عالم من البؤس والشقاء، عالم من عذابات الناس البسطاء، وعذابات المثقفين حين يخذلهم الواقع، إنها مزيج من مرارات الحياة واستبطان لما يدور في الأعماق من هواجس وعذابات يزيدها الواقع الخارجي حرارة واشتعالاً' تلك المرارة كانت تؤطّر لقاءً جمعني به في 'منتدى الفجيرة الثقافي' في 2019، وكأنّنا نعلم أنّ هذا اللقاء، وما دار به من حديث فيه من الشجن الكثير، لن يتكرّر في عالم يدور بحلقة مفرغة سيكسرها واحد منا قبل الآخر.
في حوار لي معه قبل 19 سنة، سألته: ماذا يريد عبد العزيز الفارسي من الكتابة؟ فأجاب: الذي يريده من الحياة.. كسر الحلقة المفرغة من الموت والميلاد على الهوامش.. بكل بساطة!! ويضيف في الحوار الذي أجريته بمناسبة صدور مجموعته القصصية الأولى (جروح منفضة السجائر) عام 2003 عن دار (الكرمل) بالعاصمة الأردنية عمان 'تولد الأشياء لتسقط في الغواية، ثم يمضغها التراب، وبين الميلاد والسقوط مسافة أقل من شعرة، أسعى -قدر إدراكي- رصفها بشيء من حقيقة، فالحياة رحلة انتظار مصيرنا في الأرض، والغواية تحجب أبصارنا عن السماء، ولا أرغب إلا بكسر الحلقة المفرغة من الموت والميلاد' فهل نجح صديقنا د. عبد العزيز الفارسي الذي باغتنا خبر رحيله المفاجئ في كسر تلك الحلقة، وخرج إلى عوالم أكثر نقاء وصفاء، كما كان يحلم؟ هل كانت روايته الأولى 'تبكي الأرض.. يضحك زحل' التي بدأ بكتابتها ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره، وهو العمر الذي كتب به الراحل حسن مطلك روايته المدهشة ( دابادا) وكلتا الروايتين تحدّثتا عن عوالم غرائبية، استلهمها الكاتبان من البيئة (السديرة) في (داباد)، و( شناص) في (تبكي الأرض..)، أقول: هل ذلك التشابه يمكن أن يقودنا إلى رسائل في طيّ الغيب؟ وكان من حسن حظّي أنّني قرأت مخطوطتيهما قبل الطباعة.
لقد ترك الفارسي نتاجا غزيرا قياسا لعمره القصير، في القصة والرواية والقصة القصيرة جدا والمقال الأدبي، ولو لم ينفق (14) سنة من عمره، في دراسة الطب بجامعة السلطان قابوس، وكندا، وكرّس وقتا أطول للكتابة، لكان له شأن آخر، وفي ذلك يشبه الصديق الراحل حسن مطلك، فكلاهما ترك نتاجا غزيرا، ورصينا، ومارس نشاطا ثقافيا، رغم أن جلّ وقت الفارسي كان يمضيه في عمله كطبيب، حتى عندما يكون خارج المستشفى، ففي تنقّلاتنا داخل مسقط وخارجها، كان يحرص على حمل سماعة التشخيص، وأدوات الإسعافات الأوليّة معه، وحين سألته عن ذلك، ذات يوم، أجاب: 'الطبيب طبيب في كل وقت، فربما رأيت في الطريق حادثا، ومصابا بحاجة إلى إسعاف عندئذ أكون على أتمّ الاستعداد لنجدته'، وعند مرض زوجتي المرحومة (عزة الحارثي)، وكان زميلا لها في المستشفى السلطاني، ظلّ على تواصل معي يمدّني بالنصائح الطبية، ويشدّ من أزري حتى عندما كان يواصل دراسته العليا في كندا، متخصصا في مرض السرطان، وحين سألته ذات يوم عن سبب اختياره هذا التخصص أجاب: لأن جدي توفي بالسرطان، فأردت أن أعالج المصابين به، مذكّرا إياي بمقولة تشيخوف 'ثلاثة أشياء تغير نظرتك للحياة وتترك فيك فجوة عميقة: المرض والغربة وفقدان عزيز'.
لقد جعل الفارسي الواقع مادة أوّليّة لقصصه، والمهمشين أبطالا، والموت والحزن البشري، والألم محاور لا يحيد عنها، يقول القاص خليل السواحري: 'قصص الفارسي تؤشر في معظمها على عالم من البؤس والشقاء، عالم من عذابات الناس البسطاء، وعذابات المثقفين حين يخذلهم الواقع، إنها مزيج من مرارات الحياة واستبطان لما يدور في الأعماق من هواجس وعذابات يزيدها الواقع الخارجي حرارة واشتعالاً' تلك المرارة كانت تؤطّر لقاءً جمعني به في 'منتدى الفجيرة الثقافي' في 2019، وكأنّنا نعلم أنّ هذا اللقاء، وما دار به من حديث فيه من الشجن الكثير، لن يتكرّر في عالم يدور بحلقة مفرغة سيكسرها واحد منا قبل الآخر.