أعمدة

نوافذ.. عن العمّة BBC

 
لا أظن أحدًا من جيلي أو الجيل الذي سبقني لا يحب الـBBC التي كانت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إذاعة العرب الأولى، ومصدر ثقتهم، حتى إنه كان يكفي للتأكد من صحة خبر مشكوكٍ فيه أن نقول إن الـBBC أذاعته في نشرتها. لذا فإننا ما زلنا إلى اليوم عندما تُذكَر أسماء من الجيل الذهبي لهذه الإذاعة كماجد سرحان، وسامي حداد، وجميل عازر، ومديحة المدفعي، وحسن الكرمي، ورشاد رمضان، وسلوى جراح، وأفتيم قريطم، وغيرهم، نقف احترامًا للإعلام المهني والصوت النقي والثقافة العالية.

الذي ذكرني بالـ'بي بي سي' هذا الأسبوع هو قراءتي لكتاب 'أنا والعمة BBC'، السيرة الإعلامية لأحد إعلاميي هذا الجيل الذهبي وهو أفتيم قريطم الذي عرفناه كأهم مقدمي البرامج الرياضية في هذه الإذاعة العريقة، إضافة إلى برامجه السياسية والفنية. ألف قريطم هذا الكتاب باللغة الإنجليزية وصدرت طبعته العربية عن دار النسيم المصرية عام 2021م، بترجمة زميل قريطم في البي بي سي الإعلامي المعروف فؤاد عبدالرازق.

نقرأ من بين سطور الكتاب لماذا حظيتْ البي بي سي في فترتها الذهبية بثقة المستمعين، سواء من خلال حرصها على توظيف كوادر موهوبة وذات ثقافة عالية، أو من خلال سياستها التحريرية التي تسعى لتقديم الخبر الصحيح ومن مصدره الأصلي، إضافة إلى الحياد الذي خاضت من أجله حربًا شرسة عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر، كما يروي المؤلف، عندما حاولت الحكومة البريطانية إجبارها على تبني الموقف البريطاني من هذا العدوان، لكن البي بي سي رفضت وانتصرت لمهنيتها. ولم يتوقف المؤلف عن المقارنة طوال الكتاب بين الظروف الصعبة التي كان يعاني منها العاملون في الإذاعة والظروف المريحة التي خلقتها التكنولوجيا المتطورة اليوم. فالمونتاج على سبيل المثال كان يستغرق وقتًا ليس بالقصير ويتم بقص الشريط بشفرة صغيرة تشبه موسى الحلاقة، في حين يتم اليوم بالكومبيوتر بسهولة بالغة، أما البحث عن المعلومات حول الضيوف أو فقرات الحلقة المراد إعدادها فقد كان يتم من خلال قراءة قصاصات الجرائد وربما بعض الكتب، في حين تكفّل العم جوجل وإخوته من محركات البحث بهذا الأمر اليوم بكل سهولة ويسر.

ولأن مدة عمل أفتيم قريطم في الـBBC طويلة اقتربت من أربعة عقود، فإنه يمكن اعتبار الكتاب رصدًا لتقلبات هذه القناة العريقة، التي وإن كنا قد أشدنا بمهنيتها قبل قليل، إلا أن ذلك لا يمنعنا من رؤية عيوبها ونقائصها التي يعزوها المؤلف لأخطاء فردية، بينما يُرجعها سعيد العيسى رئيس وحدة الثقافة في القسم العربي للبي بي سي في مقال له نُشِر عام 1988 بمناسبة مرور خمسين عاما على تأسيس هذه الإذاعة، يُرجعها إلى المسؤولين البريطانيين عن القسم العربي. من هذه العيوب والنقائص مثلًا أنها لم تكن دائمًا حيادية في طرحها، ونستشهد هنا بحكاية سردها قريطم عندما كان ذات يوم في غرفة الأخبار يطالع خبرًا قادمًا من مقر الأمم المتحدة في نيويورك تستعد البي بي سي لبثه، ويتضمن تصريحين لمسؤولين فلسطيني وإسرائيلي، فلاحظ قريطم أن مترجم الخبر استخدم الفعل 'قال' في صياغة تصريح الإسرائيلي، في حين استخدم الفعل 'ادعى' في تصريح الفلسطيني!، وهنا تدخل قريطم وقال: 'إننا نعمل في مؤسسة محايدة ولا ينبغي علينا التفرقة في الصياغة'. ومن عيوبها أيضًا عدم تقدير الموظفين الأكفاء وإعطائهم ما يستحقون من تكريم، إذ رغم أن أفتيم قريطم جلب للبي بي سي سمعة كبيرة في البرامج الرياضية، وكون علاقات مميزة مع شخصيات رياضية مهمة ونافذة في الوطن العربي إلا أن مسؤولي القسم العربي البريطانيين كانوا يضعون له العراقيل في عمله، ويرفضون اقتراحاته تغطية الأحداث الرياضية الكبرى ككأس العالم في فرنسا سنة 1998، أما الألعاب الأولمبية في سيدني سنة 2000، فقد اعتبرها قريطم 'القشة التي قصمت ظهر البعير'، إذْ فوجئ بأن القسم العربي قرر إيفاد زميل له 'ليس لديه أي خبرة في تغطية الأحداث الرياضية' لتغطية الأولومبياد، برغم أن قريطم كان قد أبدى اهتمامه واستعداده لهذه التغطية قبل انطلاق البطولة بثمانية أشهر. وهنا قرر تقديم استقالته منهيا قرابة سبعة وثلاثين عاما في هذه الإذاعة العريقة، بدون أي راتب تقاعدي.

يعتمد الكتاب على ما يبدو لي على ذاكرة قريطم واستعادته للأحداث بعد سنين طويلة من وقوعها، وهذا ما يفسر عدم استرساله في سرد بعض الأحداث والمواقف التي كنتُ شخصيًا أنتظر فيها إسهابا منه ووصفا لمشاعره وحالته النفسية أثناء حدوثها، منها مثلا موقف مشاركته الفنان الشهير يوسف وهبي التمثيل في إحدى التمثيليات، ودخوله قصر باكنجهام دون تصريح، وقصف الغرفة التي كان يقيم فيها وأسرته في القدس بعد فترة قصيرة من الرحيل عنها إلى عمّان.