أفكار وآراء

انتقاد أحداث «تشارلوتسفيل».. ودوافع متباينة!

عماد عريان - أعرب عدد من النواب الجمهوريين البارزين في الكونجرس أنهم نأوا بأنفسهم عن تصريحات ترامب الأخيرة. ومن أبرز هؤلاء رئيس مجلس النواب الأمريكي بول ريان والسيناتور الجمهوري ماركو روبيوو،  نادرا ما تتدخل الأمم المتحدة في الشؤون والتطورات الخاصة للدول عدا تلك التي تلقي بظلال قاتمة على السلم والأمن الدوليين وهي تستند في ذلك إلى مبادئ مهمة على رأسها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤون الآخرين ولكن حدث في مرات عديدة على مدار السنوات الماضية -وفي الغالب تم ذلك بضغوط من القوى الكبرى- أن تدخلت الأمم المتحدة في صراعات أو خلافات داخلية في بعض الدول الأقل قوة أو نفوذا خاصة في قضايا حقوق الإنسان ومن هذا المنطلق فنحن بصدد واقعة نادرة الحدوث في تاريخ المنظمة الدولية وعلى الساحة العالمية أيضا أن تخرج إحدى الأذرع المهمة للأمم المتحدة ببيان يحمل رأيا مهما في شأن داخلي يخص إحدى الدول الأعضاء بالمنظمة فتلك واقعة لها دلالتها المهمة اما أن يكون هذا العضو هو الولايات المتحدة الأمريكية فهذا أمر يزيد من أهمية الحدث ويفرض مزيدا من الانتباه لأهمية الموقف والبيان والوقائع المرتبطة به. ومع تأكيد الاحترام الكامل لسيادة الدول وشؤونها الداخلية،إلا أن لجنة إزالة التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة لم تتردد في الأيام القليلة الماضية في إصدار بيان رسمي يتضمن ما اعتبرته وكالات أنباء عالمية «انذارا مبكرا» ضد ما وصف بانتشار ( مظاهر ممارسات عنصرية) في الولايات المتحدة، منوهة في هذا الصدد بأحداث مدينة تشارلوتسفيل الأخيرة، ويكتسب هذا البيان أهميته كون اللجنة المصدرة له هي جزء من مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ولها مطلق الحرية في إصدار بيانات رسمية بتحذيرات مبكرة للمساعدة على منع المشاكل القائمة من تصاعدها إلى صراعات مدنية،وكذلك الحيلولة دون تفجر نزاعات مماثلة سبق نزع فتيلها في مناطق سبق تعرضها للمشكلات ذاتها،وذلك كله في سياق مراقبتها لمدى الالتزام بالمعاهدة الدولية لإزالة كل أشكال ومظاهر التمييز العنصري،وفقا لما جاء على موقع اللجنة على الشبكة العنكبوتية. وفي إطار صلاحياتها وأسس عملها حثت اللجنة واشنطن وكبار السياسيين والمسؤولين التنفيذيين فيها على أن ينبذوا بكل ما لديهم من قوة وبدون أي تردد وبدون أي شروط وأن يدينوا كذلك ما وصفته اللجنة بـ«خطاب الكراهية التحريضي»،وقالت رئيسة اللجنة اناستازيا كريكلي في بيانها ذاته أنهم قد انتبهوا للمظاهر العنصرية التي انعكست في شعارات عنصرية واضحة من جانب «القوميين البيض والنازيين الجدد وجماعة كوكلوكس كلان» التي تروج للتفوق «الأبيض» وتثير مظاهر تمييز عنصري وكراهية حادة، تجدر الإشارة إلى أن اللجنة ذاتها سبق أن أصدرت بيانات مماثلة في حق دول شهدت توترات وصدامات عنصرية أو طائفية أو عرقية مثل بوروندي ونيجيريا وساحل العاج،إلا أن واقعة اصدار مثل هذا البيان في حق واشنطن له دلالة خاصة . والحقيقة أنه منذ نجاح حملة الحقوق المدنية التي نظمها المواطنون من أصل إفريقي في الولايات المتحدة ووصلوا بها إلى ذروة النجاح في عقد الستينات من القرن الماضي لإسقاط بقايا قوانين التمييز العنصري، ظلت الولايات المتحدة على مدى العقود والسنوات الماضية عرضة للعديد من الحوادث والممارسات والمظاهر ذات البعد العنصري أحيانا، وحتى مع وصول باراك أوباما عام 2008 إلى قمة السلطة في البيت الأبيض ليعيد كتابة التاريخ السياسي الأمريكي كأول رئيس من جذور إفريقية، ولكن ذلك لم يوازه إعادة كتابة التاريخ الإنساني لبلاد العم سام، وظلت الوقائع تلك تطل برأسها بين حين وأخر على مدى السنوات الماضية وكان أبرز أشكالها المعاملة القاسية من جانب بعض رجال الشرطة الأمريكيين لمواطنين من ذوي الجذور الإفريقية، مما أسفر عن مصرع عدد منهم وتفجر مسيرات ومظاهرات غاضبة من جموع السود في عدد من المدن الأمريكية. وبرغم ذلك ظلت هذه الوقائع والأحداث محصورة في الغالب في نطاق «الحادث الفردي» الذي رفض كثيرون من المحللين والمفكرين والسياسيين الأمريكيين اعتباره ظاهرة عامة، وساعد على سيادة هذا المفهوم وتقبله إلى حد ما مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة وجميع الرؤساء بداية من جون كينيدي في مطلع الستينات وحتى رحيل باراك اوباما في مطلع 2017، فقد حرصوا جميعا أشد الحرص على إدانة ورفض كل أشكال التمييز العنصري ووقفوا بمنتهى القوة لكل الممارسات والتصرفات العنصرية باعتبارها أعمالا مدانة ومجرمة وخطا أحمر لا يجوز تجاوزه حفاظا على وحدة الدولة وتماسك المجتمع الأمريكي، وقد حمل أوباما أملا كبيرا للأمريكيين من جذور أفريقية في إنهاء الانقسام العرقى والتاريخي الذي استمر عقوداً من الزمن، وظنوا أنه جاء لاستكمال مسيرة «مارتن لوثر كينج»، أحد أهم الزعماء المدافعين عن الحرية وحقوق الإنسان ونبذ التفرقة بسبب اللون والجنس،وصاحب مقولة «نحن لا نصنع التاريخ.. بل التاريخ هو الذي يصنعنا.. الفصل العنصري جريمة محرمة بين الظلم والخلود» . ولكن ومنذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد فوزه في انتخابات نوفمبر الماضي الرئاسية يبدو أن كثيرا من قواعد اللعبة آخذة في التغير أو أنها تغيرت بالفعل، حيث جاءت ردود فعله تجاه الأحداث الأخيرة التي شهدتها الولايات المتحدة مختلفة تماما عما تحدث به سابقوه حفاظا على الوحدة الوطنية للولايات الأمريكية في مواجهة النزعات والممارسات ذات البعد العنصري بشكل او بآخر، وهي ردود مختلفة بكل تأكيد وليس أدل على ذلك من أنه بمجرد انطلاق التصريحات تزايدت الانتقادات الخارجية والداخلية، بدوافع مختلفة ومتعددة، التي يواجهها بسبب إلقائه اللوم في أحداث العنف بمدينة «تشارلوتسفيل» في فيرجينيا على «القوميين البيض» وأيضا على النشطاء المناهضين للعنصرية الذين كانوا يعارضونهم، ليساوي بذلك بين الطرفين، في موقف اعتدناه كثيرا في منطقتنا العربية عندما يكون الحديث عن ضرورة ضبط النفس بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع تجاهل حقائق كثيرة في مواقف تصب مزيدا من الزيت على النار بدلا من إخمادها بالعودة إلى الحقائق والحقوق. ومن ثم ليس غريبا أن ينتقد بعض أقرب حلفاء الولايات المتحدة، ومنهم رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والمستشارة أنجيلا ميركل وجهة نظر الرئيس الأمريكي، والتي تراجع عنها بالفعل بعد عدة أيام. من جانب آخر أعرب عدد من النواب الجمهوريين البارزين في الكونجرس أنهم نأوا بأنفسهم عن تصريحات ترامب الأخيرة. ومن أبرز هؤلاء رئيس مجلس النواب الأمريكي بول ريان والسيناتور الجمهوري ماركو روبيوو، فضلا عن السيناتور الجمهوري لينزي جراهام وهو ما يعكس الآثار التي أحدثتها تصريحات الرئيس الامريكي وهو ما حاول التخفيف منه بعد ذلك وحاول كالعادة إلقاء بعض المسؤولية على أجهزة الإعلام التي انتقدها بشدة.