أفكار وآراء

نهاية تخمة المدخرات العالمية!

في عام 2005، قَـدَّمَ بن برنانكي، عضو مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي آنذاك، فكرة تخمة المدخرات العالمية لشرح السبب وراء عجز الحساب الجاري المستمر في الولايات المتحدة.

في انحرافه بعيدًا عن الـفِـكر الأكاديمي الغالب في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، زعم برنانكي أن المدخرات الزائدة خارج الولايات المتحدة جعلت أسعار الفائدة -وخاصة أسعار الفائدة طويلة الأجل -أقل مما كانت لتصبح عليه لولا ذلك.

كان برنانكي عاكفًا على تطوير فكرة تناولها أيضًا رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك ألان جرينسبان. كان عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة مستمرًا؛ لأن سندات الخزانة الأمريكية كانت تستميل المدخرين في مختلف أنحاء العالم، الذين كانوا حريصين على الاحتفاظ بأصول يفترض أنها آمنة.

في الماضي، كان الافتراض السائد أن هذا العجز المستمر من شأنه عند مرحلة ما أن يهدد استقرار الدولار، ويدفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة إلى الارتفاع كوسيلة للحماية ضد التضخم وانعدام الاستقرار المالي المحلي. أصبحت أطروحة برنانكي ذائعة إلى حد كبير في الدوائر النقدية الدولية في ذلك الوقت. وقد اكتسبت المزيد من الثِـقَـل بعد الأزمة المالية في عام 2008، عندما كان التضخم منخفضًا على نحو متواصل، وكان عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة مستمرًا.

ومنذ أواخر العقد الأول من القرن الحالي، غيرت العديد من الشركات سلوكيات الادخار، وبدأت تبني صناديق المؤونة، مما أضفى المزيد من الزخم على الفكرة. على الرغم من ميلي إلى قبول حكمة العقول الأكاديمية الأكثر ذكاء من عقلي، فإنني لم أقتنع قط بأطروحة برنانكي. كنت متشككًا لسببين: أولًا، يشكل ميزان مدفوعات أي دولة هوية محاسبية تتألف من الحساب الجاري وحساب رأس المال. يتحدد الحساب الجاري من خلال رصيد الادخار والاستثمار المحلي، فالدولة التي تدخر أكثر مما تستثمر يتوفر لديها مدخرات زائدة وفائض في الحساب الجاري، والعكس صحيح تمامًا، كما أن الدولة التي تستورد أكثر مما تصدر (على أساس الحساب الجاري على الأقل) تتحمل عجزًا تجاريًا.

ولكن لا يستتبع ذلك بالضرورة أن يُـمـلي حساب رأس المال (الذي يعكس تدفق الأموال إلى الدولة وإلى خارجها) ما يحدث للحساب الجاري.

ثانيًا، نظرًا لتزامن شعبية أطروحة تخمة المدخرات مع فترة من التضخم المنخفض على نحو مستمر، فقد يكون الانخفاض العام في عائدات السندات راجعًا في الأساس إلى ذلك العامل.

بعيدًا عن هذه القضايا، لم أفهم قَـط السبب وراء عدم تعرض دُعاة فكرة تخمة المدخرات لقدر متزايد من التحدي عندما بدأت الصين تقلل من فوائض حسابها الجاري الهائلة. لو مورست الضغوط عليهم، فربما كنا لنسمعهم يقولون: إن هذا التغيير عوضت عنه فوائض أكبر في مكان آخر، كما كانت الحال في منطقة اليورو بعد الأزمة، وعلى دفاتر الشركات التي كانت حريصة على اكتناز الأموال النقدية خشية تكرار أزمة 2008.

ولكن الآن ينطوي الأمر على تطورين جديدين يعرضان أطروحة تخمة المدخرات بالاستعانة باختبار آخر.

أولًا، يبدو أننا دخلنا حقبة من التضخم الأعلى، التي قد تكون مستمرة أو لا تكون من منظور البنوك المركزية، وتتمثل الطريقة الوحيدة لضمان كون هذه الحالة مؤقتة في إحكام سياساتها النقدية، وملاحقة مستويات طبيعية من أسعار الفائدة الحقيقية الإيجابية، بدلًا من التشبث بالنظريات القديمة لتبرير مستوياتها المتدنية المستمرة. ونأمل أن يتذكر الجميع القواعد الاقتصادية الأساسية، التي تؤكد وجود ارتباط وثيق بين معدل النمو الاقتصادي وأسعار الفائدة الحقيقية. يتمثل التطور الكبير الثاني في نظام العقوبات الغربية الجديد ضد روسيا، بما في ذلك تجميد حصة كبيرة من احتياطيات البنك المركزي الروسي من النقد الأجنبي الغربي (نصيب الأسد في صندوق حربها المالي). وقد تدفع هذه المناورة الذكية أصحاب الاحتياطيات الفائضة الآخرين إلى التوقف عن تكديس مقادير كبيرة من النقد الأجنبي، وهذا من شأنه أن يضع حدًا حاسمًا لتخمة المدخرات العالمية التي حدثنا عنها برنانكي.

لن يكون هذا تطورًا سيئًا، فحتى لو كانت نظرية تخمة المدخرات صحيحة، فلماذا تحتاج كل هذه الدول إلى فوائض ضخمة مستمرة في الحساب الجاري؟ ينبغي لنا أن نرحب بعالم، حيث من الممكن أن ترتفع قيمة عملات بلدان أخرى بشكل أكبر، فيؤدي هذا بدوره إلى تعزيز الدخول المحلية الحقيقية للسكان. وسوف تسمح لهم القوة الشرائية الكبرى بالحصول على المزيد من السلع الأجنبية. بل وربما يفكر قادتهم في ملاحقة السياسات الكفيلة بخفض معدل الادخار المحلي، وزيادة الاستهلاك والاستثمار المحليين. وهذا بدوره قد يسهم بشكل غير مباشر في زيادة المدخرات المحلية في الولايات المتحدة.

شاركتُ هذه الأفكار مع العديد من خبراء النقد الدوليين، فرفض أغلبهم فـِـكري بطريقة مهذبة. وهم يزعمون أن معظم البلدان الأخرى التي تتمتع بحيازات ضخمة من النقد الأجنبي لا ينبغي لها أن تخاف من الاستجابات السياسية الغربية، أو تخشى أن تفتقر إلى الهياكل السياسية اللازمة لإدارة تحول سلس في النظام الاقتصادي المحلي.

واقترح آخرون أن استخدام أمريكا للعقوبات ربما يؤدي إلى المزيد من التنويع بعيدًا عن الدولار. ولكن ليس من الواضح أي من العملات الأخرى عالية السيولة قد يحتفظ بها المرء بقدر كبير من الثقة في غياب البدائل، ربما تبدأ المزيد من البلدان تتساءل لماذا ينبغي لها أن تحتفظ بكل هذا القدر من الاحتياطيات في المقام الأول، إذا كان الأمر كذلك، وخاصة إذا انعكس اتجاه التضخم الذي ساد طوال الأعوام الثلاثين الأخيرة، فإن الاضطرابات التي شهدتها في أسواق السندات حتى الآن هذا العام قد تكون مجرد مقدمة لما هو آت.

جيم أونيل وزير الخزانة البريطاني السابق، وعضو في لجنة عموم أوروبا للصحة والتنمية المستدامة.