هوامش ومتون.. نهار بغدادي
الأربعاء / 4 / رمضان / 1443 هـ - 14:02 - الأربعاء 6 أبريل 2022 14:02
WhatsApp Image 2022-04-06 at 1.51.14 PM (6)
فيما كانت العاصمة الغافية على أكتاف نهر دجلة الخالد، تستعدّ لاستقبال شهر رمضان المبارك، كنت أهمّ بلملمة ذكرياتي، وآخر تفاصيل زيارة قمت بها بدعوة من مهرجان 'بابل الدولي للثقافات'، تلك الزيارة، لم تنتهِ بانتهاء المهرجان الذي أقيم بمدينة بابل الأثرية التي حكمت وادي الرافدين في القرن الثامن قبل الميلاد، وشعّت منها أنوار الحضارة على الإنسانية، فكانت لبغداد حصّة الأسد من الزيارة، على مدى ثلاثة أسابيع من الشعر، والمحبّة، غير أنني أردت لليوم الأخير فيها أن يكون عفويّا دون تخطيط مسبق، ومواعيد، سوى في الخطوط العامة، لكن من أين نبدأ في مدينة تضجّ بأنشطة الحياة؟ اقترح صديقي د.سعد التميمي أن نتوجّه لبيت الحكمة الذي أسّس في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد (766-809م) وازدهر في عصر المأمون الذي كان يزوره بين وقت وآخر، فكان خزانة معرفية ضمّت أكثر من 300 ألف كتاب جمعت صنوف المعرفة: الأدب، والطب، والهندسة، والفلك، والعلوم الأخرى، ومنه خرجت كتب أرسطو بعد ترجمتها للعربية، وحين وصلنا المكان المقصود رأيت القصر العباسي يقف شامخا على ضفة النهر الذي يعود بناؤه إلى عام 1181م وقد قام ببنائه الخليفة الناصر لدين الله، فكان لابدّ لنا من دخوله، والتمتع بعمارته التي لم تزل تسرّ الناظرين، واصلنا السير إلى بيت الحكمة، كان د.صادق رحمة الرئيس التنفيذي لبغداد مدينة الإبداع الأدبي-اليونسكو، ود. مزهر الخفاجي مدير منصة متروبوليتان التابعة للمشروع يرحّبان بضيوف جلسة ضيفها سعادة (نصير ممدووف) سفير جمهورية أذربيجان في العراق، للحديث عن العلاقات التاريخية الثقافية بين العراق وأذربيجان في ظلّ المتغيرات الدولية بحضور جمهور من البرلمانيين، والأكاديميين، والأدباء، ورجال الأعمال، والمثقفين، والمهتمين، حضرنا جانبا منها قبل أن نغادر إلى مقرّ وزارة الثقافة، حيث يقام مهرجان الواسطي، فتجوّلنا فيه، وشاهدنا أعمالا مبهرة لنخبة من التشكيليين، بعضهم جاء من الخارج، أخبرني د.فاخر محمد مدير عام الفنون التشكيليّة بالوزارة أنه بدأ به قبل أسبوعين من افتتاحه فقط، وهو تاريخ التحاقه بعمله الجديد بالوزارة، واصلنا السير، فدخلنا قاعة تُقام فيها ندوة استذكار العالِم الدكتور محسن مهدي (1926–2007) الذي كان أستاذا في جامعة هارفارد الأمريكية، متخصّصا في ابن خلدون، والفارابي، والفكر الفلسفي العربي، وبعد انتهائها دعانا وزير الثقافة والسياحة والآثار د.حسن ناظم لشرب الشاي في مكتبه، مع الباحثين المشاركين، فكانت فرصة للقاء عدد منهم، والدخول في حوارات عميقة، غادرنا بعدها المكان لنتوجّه إلى مقهى 'قهوة وكتاب' حيث ينتظرنا الشاعران جواد الحطاب، وعماد جبار، والأكاديمية موج يوسف، وبعد تناول وجبة غداء، بنكهة سوريّة، إذ أضفى عمل الأخوة السوريين في المطاعم العراقية نكهة زادت من لذّته، توجّهنا إلى المسرح الوطني حيث تقيم الفرقة السمفونية العراقية حفلا بقيادة المايسترو كريم كنعان وصفي يعود ريع تذاكره لتطوير المسرح، ومرفقاته، وقبل أن تعزف الفرقة (نبوخذ نصر) لفيردي التي ألّفها سنة 1841، ألقى د. ميمون الخالدي نص (تطبيع عراقي) للشاعر الكبير جواد الحطاب، فسار كما قال أ. د مزهر الخفاجي 'مع الغادين من أهله في شارع الموكب.. وحفظ عن ظهر قلب ترانيم سومر وتهجد بابل ورتّل دعاء آشور، واستنشق آهات بابل'، كان الجمهور، منسجما مع الموسيقى في بلد أهدى للعالم أقدم آلة موسيقية في التاريخ، وهي القيثارة السومرية التي يُطلق عليها أمّ الآلات الوترية، فهذا البلد المحكوم بالحروب والأزمات، في كلّ يوم يثبت مهارته في صنع الفرح، وليس الحزن، يقول أحد شعراء سومر متحدّثا عن زوجين في حفل زفافهما:
'كل مظاهر الفرح تجري أمامهما
وذوو الرؤوس السود يمرّون أمامهما
وعلى دقات طبل أعلى من الرعد
وقيثارة تنعش الروح'
كان الفرح عنوانا للحياة في ذلك النهار البغدادي (تحديدا نهار الخميس الموافق 31 مارس)، وهو نهار عادي، لا يختلف عن بقية النهارات بشيء، أما غير العادي، فهو اليوم التالي الموافق الأوّل من أبريل، الذي هو حسب التقويم البابلي (أكيتو) موعد بذر وحصاد الشعير، ورأس السنة البابلية الآشورية، وبه يحتفل البابليون سنويّا، باعتباره عيدا، بل هو أقدم عيد في تاريخ البشرية، ويعود إلى السلالة البابلية الأولى، أي إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، لكنني في ذلك اليوم كنت قد حزمت حقائبي عائدا لمسقط مودّعا مدينة تنهض من جديد.
'كل مظاهر الفرح تجري أمامهما
وذوو الرؤوس السود يمرّون أمامهما
وعلى دقات طبل أعلى من الرعد
وقيثارة تنعش الروح'
كان الفرح عنوانا للحياة في ذلك النهار البغدادي (تحديدا نهار الخميس الموافق 31 مارس)، وهو نهار عادي، لا يختلف عن بقية النهارات بشيء، أما غير العادي، فهو اليوم التالي الموافق الأوّل من أبريل، الذي هو حسب التقويم البابلي (أكيتو) موعد بذر وحصاد الشعير، ورأس السنة البابلية الآشورية، وبه يحتفل البابليون سنويّا، باعتباره عيدا، بل هو أقدم عيد في تاريخ البشرية، ويعود إلى السلالة البابلية الأولى، أي إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، لكنني في ذلك اليوم كنت قد حزمت حقائبي عائدا لمسقط مودّعا مدينة تنهض من جديد.