الأمن الإعلامي وحّد الكفاية الوطنية
الثلاثاء / 3 / رمضان / 1443 هـ - 21:31 - الثلاثاء 5 أبريل 2022 21:31
ربما يتبادر إلى أذهان البعض عندما يطالعون هذا العنوان أنني سوف أتحدث عن الإعلام الأمني، الذي استقر كنوع من أنواع الإعلام المتخصص الذي يركز على الأحداث والقضايا الأمنية، ويتابع أعمال الهيئات والمؤسسات العامة المنوط بها حفظ الأمن والنظام في الدولة، والدفاع عنها وعن مقدراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتجنيبها المخاطر الداخلية والخارجية.
حقيقة الأمر أنني مع تقديري لهذا الشكل المتخصص من الإعلام الذي يصب -دون شك- في جهود تعزيز الأمن القومي، اعتنى بالأمن الإعلامي ابتداء من توفير الدول البنية الإعلامية الأساسية التي تواكب العصر والوسائل والمضامين الإعلامية التي تشبع حاجات المواطنين وتجنبهم مشاق ومخاطر البحث عن وسائل ومضامين بديلة، وتغلق الباب أمام محاولات التسلل الإعلامي المستمرة لاختراق عقول وقلوب أبناء الوطن.
ويتحقق الأمن الإعلامي عندما تصبح الدولة قادرة بإمكاناتها الذاتية على توفير حد الكفاية الإعلامية الوطنية لجميع مواطنيها والمقيمين على أرضها، وعندما تصبح وسائل الإعلام الوطنية -سواء كانت حكومية أم خاصة- الملاذ الآمن الذي يلجأ له الناس للحصول على المعلومات والمعارف والأخبار والتفسيرات والآراء والإرشادات والتوجيهات.
لا يقل الأمن الإعلامي في وقتنا الحالي أهمية عن مجالات الأمن الأخرى، مثل: الأمن السياسي والأمن الاقتصادي والأمن الجنائي، بل أنه يمثل -في تقديري- أحد أهم محققات الأمن القومي. ويكفي هنا أن ننظر إلى ما يجري في العالم من أحداث، يلعب فيها الإعلام الوطني القوي دورا رئيسيا، ويتحول في بعضها إلى سلاح فعال من أسلحة الدولة، خاصة في حالات الكوارث والنزاعات والحروب، وما حرب أوكرانيا عنا ببعيد.
لا نحتاج هنا إلى إعادة التأكيد على أهمية الإعلام للدولة الحديثة، خاصة في ظل تعدد وتنامي واندماج الوسائل والرسائل الإعلامية التي تحاصرنا ليل نهار، كما أننا ربما لا نحتاج إلى التذكير بالأجندات التي تعمل في ظلها وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، والأهداف الخفية التي تسعى إلى تحقيقها، بعد أن أزالت تكنولوجيات الاتصال الجديدة، مثل: الأقمار الاصطناعية وشبكة الإنترنت وشبكات الهواتف الذكية، الحدود الجغرافية بين الدول.
وقد أضحت هذه الحقائق معروفة ليس فقط لدى صناع القرار الإعلامي في الدول العربية، ولكن أيضا لدى المواطن العادي الذي يدرك أن كل ما يصله من رسائل إعلامية من خارج الدولة يستهدف التأثير في قيمه ومعتقداته ومبادئه وآرائه ومواقفه واتجاهاته وربما سلوكياته، كما يدرك أن الجهات والمؤسسات التي توفر البث الإعلامي الذي يصل له بالمجان وبأحدث التقنيات وفي غاية الإتقان والإبهار، سواء عبر القنوات الفضائية أو عبر المواقع الإلكترونية على الويب، لا تفعل ذلك لوجه الله والإنسانية، وتحركها دوافع كثيرة سياسية واقتصادية وفكرية للإنفاق غير المحدود على وسائل الإعلام العابرة للحدود.
في ظل هذه الحقائق وفي ظل سطوة الفضائيات ومواقع الويب وشبكات التواصل الاجتماعي الأجنبية فقد الإعلام الوطني -أو كاد- جمهوره، الذي انصرفت قطاعات واسعة منه عن وسائل الإعلام الوطنية في عملية أشبه بهجرة جماعية محفوفة بالمخاطر نحو الوسائل الإقليمية والدولية، وهو انصراف يدق ناقوس الخطر أمام القائمين على الشأن الإعلامي ويجب فهمه ودراسة أسبابه وتداعياته على الأمن الوطني، كونه يؤثر سلبا على المفهوم الذي نطرحه هنا وهو الأمن الإعلامي، الذي يجب أن توليه الجهات المسؤولة الاهتمام الكافي، وتعمل على تعزيزه ودعمه وتوفير متطلباته المادية والبشرية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل حققت دولنا العربية الأمن الإعلامي؟ هنا يجب أن نميز بين فترتين مر بهما الأمن الإعلامي العربي، الأولى فترة ما قبل الفضائيات والإنترنت، والثانية فترة ما بعدهما والممتدة من مطلع تسعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. في الفترة الأولى استطاعت الدولة الوطنية العربية إلى حد كبير توفير الأمن الإعلامي لمواطنيها، من خلال وضع البنى الإعلامية التحتية، ثم تعزيز ثرواتها الإعلامية من الوسائل التي كانت متاحة في هذه الفترة، وقد ساعدها في ذلك سهولة التحكم في وسائل الإعلام القادمة من الخارج كالصحف والمجلات والأفلام السينمائية التي تستطيع منع دخولها إلى الدولة في المطارات والمنافذ الحدودية، والبث الإذاعي الدولي الذي تستطيع منع استقباله أو على الأقل التشويش عليه.
في هذه الفترة كانت وسائل الإعلام الوطنية هي المقصد الوحيد تقريبا للمواطن العربي، وكانت الوسائل التي يسمح بدخولها الدول العربية تخضع لرقابة مشددة، وقد يُمنع عرضها أو توزيعها وتداولها، إذا تبين أنها تمثل خطرا على الأمن القومي أو على قيم ومعتقدات الجمهور. صحيح أن بقايا تلك الرقابة ما زالت موجودة في غالبية الدول العربية، ولكنها تقتصر على المواد المطبوعة والسينمائية والتلفزيونية التي يتم استيرادها من الخارج، ولا تستطيع أن تطول كل ما يبث على الفضائيات أو المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي.
في فترة ما بعد الفضائيات والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي أصبح الفضاء الإعلامي لكل دول العالم تقريبا مفتوحا، وغير قابل للإغلاق في وجه آلاف القنوات والمواقع والشبكات، حتى إن أرادت الدولة ذلك، وهو ما جعل الأمن الإعلامي لأية دولة مستباحا. ومن شأن ذلك أن يجعل مواطنيها هدفا سهلا لوسائل الإعلام الأجنبية، ما لم يتم تحصينهم إعلاميا من خلال وسائل إعلام وطنية قوية قادرة على منافسة الوسائل الأجنبية، وإشباع مختلف احتياجات جمهورها.
لقد حان الوقت أن تسعى الدول العربية إلى زيادة قدراتها الإعلامية كخطوة أساسية وضرورية لتحقيق الأمن الإعلامي. ولا بأس على الإطلاق في وجود واستمرار وسائل إعلام قوية تابعة للدولة وتديرها الحكومة، سواء كانت صحفا أو مجلات أو محطات إذاعية وتلفزيونية، فما زلنا بحاجة إلى هذا النوع من الإعلام الذي يحتاج إلى ميزانيات كبيرة، ولكن يجب فتح الباب أمام الأفراد ومؤسسات القطاع الخاص للمشاركة في زيادة الثروة الإعلامية وتعزيز الحضور الإعلامي الوطني. ويتطلب ذلك إعادة النظر في الاستراتيجيات والرؤى الوطنية الإعلامية، التي ما زالت أسيرة عصر إعلامي انتهى أو كاد أن ينتهي.
وإذا أردنا تحقيق الأمن الإعلامي وتوفير الحصانة الإعلامية الوطنية، فإن علينا أن نفتح المجال لقيام المزيد من وسائل الإعلام الوطنية وأن نتخلى عن القيود التي تمتلئ بها قوانين المطبوعات والنشر والصحافة والإعلام العربية سواء على صعيد الشروط الصعبة لامتلاك الصحف ووسائل الإعلام، مثل شرط الترخيص أو شرط الإخطار الذي لا يختلف عنه في التطبيق العملي، أو على صعيد التأمين المالي المبالغ فيه الذي يجب على من يريد أن يمتلك وسيلة إعلام أن يوفره قبل الحصول علي الترخيص، أو حتى على صعيد الشروط الصعبة للعمل في مجال الصحافة والإعلام، وقوائم محظورات النشر التي لا تنتهي.
لم يعد مقبولا في عصر إعلامي تتنافس فيه الدول على الوصول برسائلها الإعلامية إلى جميع أنحاء الكرة الأرضية، ونواجه فيه تهديدات إعلامية غير مسبوقة أن يظل إعلامنا الوطني العربي منزوع «الدسم» والفاعلية بسبب قوانين ولوائح تعود إلى القرن الماضي، وإلى عصر إعلامي مختلف.
أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
حقيقة الأمر أنني مع تقديري لهذا الشكل المتخصص من الإعلام الذي يصب -دون شك- في جهود تعزيز الأمن القومي، اعتنى بالأمن الإعلامي ابتداء من توفير الدول البنية الإعلامية الأساسية التي تواكب العصر والوسائل والمضامين الإعلامية التي تشبع حاجات المواطنين وتجنبهم مشاق ومخاطر البحث عن وسائل ومضامين بديلة، وتغلق الباب أمام محاولات التسلل الإعلامي المستمرة لاختراق عقول وقلوب أبناء الوطن.
ويتحقق الأمن الإعلامي عندما تصبح الدولة قادرة بإمكاناتها الذاتية على توفير حد الكفاية الإعلامية الوطنية لجميع مواطنيها والمقيمين على أرضها، وعندما تصبح وسائل الإعلام الوطنية -سواء كانت حكومية أم خاصة- الملاذ الآمن الذي يلجأ له الناس للحصول على المعلومات والمعارف والأخبار والتفسيرات والآراء والإرشادات والتوجيهات.
لا يقل الأمن الإعلامي في وقتنا الحالي أهمية عن مجالات الأمن الأخرى، مثل: الأمن السياسي والأمن الاقتصادي والأمن الجنائي، بل أنه يمثل -في تقديري- أحد أهم محققات الأمن القومي. ويكفي هنا أن ننظر إلى ما يجري في العالم من أحداث، يلعب فيها الإعلام الوطني القوي دورا رئيسيا، ويتحول في بعضها إلى سلاح فعال من أسلحة الدولة، خاصة في حالات الكوارث والنزاعات والحروب، وما حرب أوكرانيا عنا ببعيد.
لا نحتاج هنا إلى إعادة التأكيد على أهمية الإعلام للدولة الحديثة، خاصة في ظل تعدد وتنامي واندماج الوسائل والرسائل الإعلامية التي تحاصرنا ليل نهار، كما أننا ربما لا نحتاج إلى التذكير بالأجندات التي تعمل في ظلها وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، والأهداف الخفية التي تسعى إلى تحقيقها، بعد أن أزالت تكنولوجيات الاتصال الجديدة، مثل: الأقمار الاصطناعية وشبكة الإنترنت وشبكات الهواتف الذكية، الحدود الجغرافية بين الدول.
وقد أضحت هذه الحقائق معروفة ليس فقط لدى صناع القرار الإعلامي في الدول العربية، ولكن أيضا لدى المواطن العادي الذي يدرك أن كل ما يصله من رسائل إعلامية من خارج الدولة يستهدف التأثير في قيمه ومعتقداته ومبادئه وآرائه ومواقفه واتجاهاته وربما سلوكياته، كما يدرك أن الجهات والمؤسسات التي توفر البث الإعلامي الذي يصل له بالمجان وبأحدث التقنيات وفي غاية الإتقان والإبهار، سواء عبر القنوات الفضائية أو عبر المواقع الإلكترونية على الويب، لا تفعل ذلك لوجه الله والإنسانية، وتحركها دوافع كثيرة سياسية واقتصادية وفكرية للإنفاق غير المحدود على وسائل الإعلام العابرة للحدود.
في ظل هذه الحقائق وفي ظل سطوة الفضائيات ومواقع الويب وشبكات التواصل الاجتماعي الأجنبية فقد الإعلام الوطني -أو كاد- جمهوره، الذي انصرفت قطاعات واسعة منه عن وسائل الإعلام الوطنية في عملية أشبه بهجرة جماعية محفوفة بالمخاطر نحو الوسائل الإقليمية والدولية، وهو انصراف يدق ناقوس الخطر أمام القائمين على الشأن الإعلامي ويجب فهمه ودراسة أسبابه وتداعياته على الأمن الوطني، كونه يؤثر سلبا على المفهوم الذي نطرحه هنا وهو الأمن الإعلامي، الذي يجب أن توليه الجهات المسؤولة الاهتمام الكافي، وتعمل على تعزيزه ودعمه وتوفير متطلباته المادية والبشرية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل حققت دولنا العربية الأمن الإعلامي؟ هنا يجب أن نميز بين فترتين مر بهما الأمن الإعلامي العربي، الأولى فترة ما قبل الفضائيات والإنترنت، والثانية فترة ما بعدهما والممتدة من مطلع تسعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. في الفترة الأولى استطاعت الدولة الوطنية العربية إلى حد كبير توفير الأمن الإعلامي لمواطنيها، من خلال وضع البنى الإعلامية التحتية، ثم تعزيز ثرواتها الإعلامية من الوسائل التي كانت متاحة في هذه الفترة، وقد ساعدها في ذلك سهولة التحكم في وسائل الإعلام القادمة من الخارج كالصحف والمجلات والأفلام السينمائية التي تستطيع منع دخولها إلى الدولة في المطارات والمنافذ الحدودية، والبث الإذاعي الدولي الذي تستطيع منع استقباله أو على الأقل التشويش عليه.
في هذه الفترة كانت وسائل الإعلام الوطنية هي المقصد الوحيد تقريبا للمواطن العربي، وكانت الوسائل التي يسمح بدخولها الدول العربية تخضع لرقابة مشددة، وقد يُمنع عرضها أو توزيعها وتداولها، إذا تبين أنها تمثل خطرا على الأمن القومي أو على قيم ومعتقدات الجمهور. صحيح أن بقايا تلك الرقابة ما زالت موجودة في غالبية الدول العربية، ولكنها تقتصر على المواد المطبوعة والسينمائية والتلفزيونية التي يتم استيرادها من الخارج، ولا تستطيع أن تطول كل ما يبث على الفضائيات أو المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي.
في فترة ما بعد الفضائيات والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي أصبح الفضاء الإعلامي لكل دول العالم تقريبا مفتوحا، وغير قابل للإغلاق في وجه آلاف القنوات والمواقع والشبكات، حتى إن أرادت الدولة ذلك، وهو ما جعل الأمن الإعلامي لأية دولة مستباحا. ومن شأن ذلك أن يجعل مواطنيها هدفا سهلا لوسائل الإعلام الأجنبية، ما لم يتم تحصينهم إعلاميا من خلال وسائل إعلام وطنية قوية قادرة على منافسة الوسائل الأجنبية، وإشباع مختلف احتياجات جمهورها.
لقد حان الوقت أن تسعى الدول العربية إلى زيادة قدراتها الإعلامية كخطوة أساسية وضرورية لتحقيق الأمن الإعلامي. ولا بأس على الإطلاق في وجود واستمرار وسائل إعلام قوية تابعة للدولة وتديرها الحكومة، سواء كانت صحفا أو مجلات أو محطات إذاعية وتلفزيونية، فما زلنا بحاجة إلى هذا النوع من الإعلام الذي يحتاج إلى ميزانيات كبيرة، ولكن يجب فتح الباب أمام الأفراد ومؤسسات القطاع الخاص للمشاركة في زيادة الثروة الإعلامية وتعزيز الحضور الإعلامي الوطني. ويتطلب ذلك إعادة النظر في الاستراتيجيات والرؤى الوطنية الإعلامية، التي ما زالت أسيرة عصر إعلامي انتهى أو كاد أن ينتهي.
وإذا أردنا تحقيق الأمن الإعلامي وتوفير الحصانة الإعلامية الوطنية، فإن علينا أن نفتح المجال لقيام المزيد من وسائل الإعلام الوطنية وأن نتخلى عن القيود التي تمتلئ بها قوانين المطبوعات والنشر والصحافة والإعلام العربية سواء على صعيد الشروط الصعبة لامتلاك الصحف ووسائل الإعلام، مثل شرط الترخيص أو شرط الإخطار الذي لا يختلف عنه في التطبيق العملي، أو على صعيد التأمين المالي المبالغ فيه الذي يجب على من يريد أن يمتلك وسيلة إعلام أن يوفره قبل الحصول علي الترخيص، أو حتى على صعيد الشروط الصعبة للعمل في مجال الصحافة والإعلام، وقوائم محظورات النشر التي لا تنتهي.
لم يعد مقبولا في عصر إعلامي تتنافس فيه الدول على الوصول برسائلها الإعلامية إلى جميع أنحاء الكرة الأرضية، ونواجه فيه تهديدات إعلامية غير مسبوقة أن يظل إعلامنا الوطني العربي منزوع «الدسم» والفاعلية بسبب قوانين ولوائح تعود إلى القرن الماضي، وإلى عصر إعلامي مختلف.
أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس