أعمدة

الإبادة الجماعية في روندا

WhatsApp-Image-2021-08-31-at-9.36.27-PM
 
WhatsApp-Image-2021-08-31-at-9.36.27-PM
يستمر مشروعي في قراءة آداب العالم، ومحاولة فهم الإنسان في أماكن جديدة كل مرة. منذ بداية هذا العام نجحتُ في قراءة أدب من إندونيسيا وإيران. على أنه ينبغي أن أذّكر دائماً، في أن يكون الأدب قادماً من مكان معين لا يعني بالضرورة أن يكون أدب تلك الأمة، فهنالك من يكتب كما لو أنه سائح، أو مستشرق، وهنالك من يكتب لكي يقرأه الأوربيون وفقا لما يتوقعونه منه. هذه المرة حطت رحلتي في روندا، هذه البلاد التي أسمع عنها كثيراً مؤخراً، عن ازدهارها، الاستثمار والسياحة فيها.

كنتُ أتمشى في المكتبة وحطت عيني على غلاف رواية 'موارمبي، كتاب العظام' لبوبكر بوريس ديوب بترجمة صادرة عن دار الكتب خان. صُدرّت الترجمة وفي الغلاف الأمامي باقتباس من الروائية الرائعة: 'توني ميرسون' تقول فيه: 'إنها رواية معجزة' مما جعلها على الفور محل اهتمامي. قرأت سطوراً منها وأعجبتني الكتابة ولم أكن حتى تلك اللحظة أعرف أنها تحمل بين طياتها وعداً بالألم ومقارعة النفس البشرية وهي تدمر دون حد وحتى النهاية.

تتحدث الرواية عن الإبادة الجماعية في روندا والتي حدثت خلال أربعة أشهر من عام 1994 وراح ضحيتها ما يزيد عن مليون إنسان من قبائل التوتسي بعد قتلهم من قبل قبائل الهوتو، الفاجعة التي لم تلفت انتباه العالم آنذاك بينما تجري نسخة من كأس العالم لكرة القدم في الولايات المتحدة الأمريكية، لفكرة متأصلة حول أن السود في حرب مستمرة بين أنفسهم. إلا أن هذا بالتحديد ما تحاول هذه الرواية تفكيكه بدقة فلنتأمل هذا الاقتباس على لسان 'كورنيليوس كاريكزي' معلم التاريخ اللاجئ في جيبوتي، عن حبيبته الجيبوتية وفكرتها عن الإبادة الجماعية في روندا:

'وقال موجها كلامه لجيسكا: منذ الأيام الأولى التي التقينا فيها أرادت معرفة كل شيء عن روندا

وبالطبع كانت تملأ رأسها القوالب النمطية الجامدة نفسها: مجموعتان عرقيتان تمقتان بعضهما منذ زمن سحيق

بالتأكيد كان ذلك يغضبني وحاولت بصبر أن أحرر عقلها من هذا الهراء. وشرحت لها أن هذا لم يكن صحيحا، وخاصة أن المذابح الأولى كانت تعود إلى عام 1959 وليس منذ فجر التاريخ.' ص ٨١

تشترك قبائل التوتسي والهوتو في عبادة الإله نفسه، وفي اللغة نفسها بل وتقريبا في كل شيء، والحقيقة انه قبل نهاية الستينيات لم يكن هنالك أي شيء بين القبيلتين، فما السبب فيما جرى. يقول معلم التاريخ مجدداً: 'إن النصر الحقيقي الذي أحرزه هؤلاء القتلة هو نجاحهم في خلط جميع الأمور ويبقى لدى الناس دوماً شعور بأننا نخفي عليهم بعض الأشياء' ص ٥٩ ومع عودة 'كورنيليوس كاريكزي' لبلده بعد الإبادة بأربع سنوات ينظر في تركة الإبادة الجماعية على كل شيء، حتى مع توقفها فروندا لن تصبح مثل أي مكان آخر بعد تلك الكارثة : 'كان الأمر كما لو أن الإبادة الجماعية تشع نورها المظلم على كل شيء، وتجتذب نحوها أقدم الحقائق وأكثرها تفاهة لمنحها بعدًا مأساويًا، ومعنى مختلفًا عن ذاك الذي كانت لتمنحه في مكان آخر' ص ٥٣

نقرأ في فصول الرواية المختلفة، أصوات وجهات الحرب كلها، فنسمع صوت الضحية والقاتل، ومن يتأمل فيهما من على مسافة زمنية، إلا أنها بكل تأكيد تشترك في توكيد الوحشية، مع حضور طيف ما بعد الاستعمار ودوره فيما حدث ثم التواصل الذي يحدث بين ما يجري في روندا وبقية العالم، ينجح الكاتب السنغالي في الإشارة لإبادة اليهود في الهولوكوست، أو إلى هتلر في وصية أحد الآباء لابنه الذي يمتلك منصبًا في قبيلة التوتسي، أن ذلك لا يخص السود وحدهم إذن، إنها التجربة البشرية التي قدمت لنا نماذج من العنف لا يمكن أن تنسى وما زالت قادرة على إدهاشنا في هذا على نحو مرعب يكفي أن تغير طرفي المعادلة وتنقل العدسة إلى مكان آخر من خريطة العالم.

ومن صور العنف أن يقتل الوالد أبنائه إن تطلب الأمر كما حدث مع جوزيف كاريزكي مسوغًا ما فعله من قتل مئات الآلاف ممن لجؤوا له دفعة واحدة، باسم الواجب : 'مهما حدث كنت لأقوم بواجبي / الواجب !/ كلمة بسيطة أحبها كثيراً' ص ١٢١ ليصبح العائد من جيبوتي ضحية لوالده، الذي قتل أمه وأخوته الصغار، دم القاتل في دمه، ودم الضحية في الوقت نفسه، فأمه من قبائل التوتسي وما كان أحد ليظن به سوءاً عندما دفع بزوجه وأبنائه لمدرسة مورامبي الفنية مع بقية اللاجئين لحمايتهم من الهوتو، خصوصا بعد ما عرف عن حبه لهم، وعن طيبته وعلاقته الجيدة بالتوتسي طيلة حياته، واستغلاله مهنة الطب لمساعدة المحتاجين مهما كان العرق الذي ينتمون إليه، إلا أنه ولا نستطيع أن نفهم هذه الهستيريا سوى في أوقات الكوارث كيف يمكن للإنسان في لحظة واحدة أن يتخلى عن كل شيء وأن يمسي شخصاً آخر، قادر على ارتكاب أبشع الجرائم وأفظعها.

يكتب أحد القراء عن مورامبي أنها حلوة ومخيفة بشكل رهيب 'مثل صدى المقبرة' وكل راوٍ في فصول هذا العمل يوفر تعقيداً يطور نظرة ثاقبة لدور كل لاعب في الإبادة الجماعية في روندا 1994 بالإضافة إلى أن عودة الابن وهو معلم التاريخ لمورامبي، ودخول المدرسة الفنية التي حدثت فيها أكبر المجازر مجدداً، هي دعوة لقبول الإرث. اذ أن هذه الأرض المكونة من آلاف التلال تغني بصوت مختلف من الموسيقى، لكن يجب أن يتردد صدى هذه الموسيقى في قلوب وعقول الجميع.