أعمدة

هوامش ومتون .. حكايات الكواكب الآفلة

 
يُحكى أن كاهنة يمنية عاشت في عصر سبأ، رأت ذات يوم، في منامها، سحابة سوداء أمطرت مطرًا شديدًا، فتشاءمت، وذهبت إلى الملك سبأ وقصّت له الرؤيا، وأخبرته أن الهلاك سيحل باليمن، وأن تفسيرها هو سقوط أمطار شديدة تهدم السدود، ومنها سد مأرب، فأبلغ الملك القبائل، فهاجر من هاجر، وخرج الملك مع أبنائه، وفي منتصف الطريق قال لهم: عليكم أن تتفرقوا، في كل الأرض، وفي مفترق الطرق، قالت لهم الكاهنة: «من منكم له القدرة على الصبر وتحمل جلدات الدهر، فليذهب إلى مكة»، ومن منكم له هم بعيد، وصبر شديد، ولبس جديد، فليذهب إلى عُمان، ومن يرد منكم القوة والجلد والصبر والعضد، فليذهب إلى ما وراء هذا البلد، فذهب فريق منهم باتجاه أفريقيا، ومن منكم يريد الراسيات في الوحل والمطعمات في المحل، فليذهب إلى يثرب بلد النخل، ومن منكم يريد الخمر والخمير، ولبس التيجان والحرير، فليذهب إلى البصرة، أو غوير، ومن يريد منكم الثياب الرقاق، والخيل العتاق، والدم الصداق، فليذهب إلى العراق، وهكذا تفرقوا كل في طريق، ومن بقي منهم قيل له : اسكنوا هنا في أماكنكم في حضرموت ، وتهامة، يقول الباحث محمد سبأ معلقا على هذه الحكاية في كتابه: حكايات من التراث الشعبي اليمني الصادر عن دار الكتب اليمنية صنعاء2020، وردت هذه الحكاية في العديد من كتب التراث والأساطير العربية القديمة وقد قارنتها، فكانت مقاربة لها، ومنها المثل الشائع«تفرّقوا أيدي سبأ» ومنها حكاية عمرو بن عامر الأزدي الذي سار هو وقومه خوفا من سيل العرم، حتى انتهوا إلى مكة، وما حولها فأصابتهم الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى، فشكوا إلى الكاهنة (طريفة) الذي أصابهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون، وهو مفرق بيننا، قالوا: فماذا تأمرين ؟ قالت: من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد، ومزاد جديد، فليلتحق بقصر عمان المشيد، فكانت أزد عمان، وهكذا

هذه الحكاية وغيرها من الحكايات تشكل إطارًا سرديًا للفكرة القائلة: إن أصل العرب من اليمن، لكن السرد أعطاها شحنة جمالية، وأبعادًا تخلط الخيال بالواقع، تجعل المتلقي يتفاعل مع الفكرة بوجدانه، وحواسه، ويزخر واقعنا بالكثير من الحكايات المستلة من التراث الشعبي وهي نتاج تجربة وخبرات طويلة صقلتها التجربة الشعبية عبر العصور، وتحمل في طياتها العديد من المفاهيم والأهداف التعليمية والتربوية كما يقول الباحث محمد سبأ، في كتابه الذي قسّمه إلى سبعة فصول عبر(284) صفحة من القطع الكبير: الحكايات الشعبية التاريخية في اليمن، حكايات الأرض بعض حكم علي ولد زايد، حكايات التهذيب والحكمة، حكايات الحب والعشق، حكايات الكواكب والجن والوحوش، حكايات من أيام الإمام، حكايات شعبية فكاهية، ومن عناوين الفصول نستطيع أن نكون فكرة عن تنوع تلك الحكايات، وثرائها، لكن مما يحز في نفس الباحث أن هذه الحكايات اختفت من حياتنا بسبب ظهور وسائل الإعلام الحديثة، ووسائل التواصل المرئية والمسموعة التي أدت إلى نسيان الكثير من حكاياتنا الشعبي، وكان بداية فقدان هذا التراث عندما احتل الراديو ثم التلفزيون مكان الحكواتي أو السامر، أو كبار السن.

ولعل التفاعل الذي قوبل به ملتقى الحكواتي العماني الأول الذي أقامه النادي الثقافي في نوفمبر الماضي، الذي لم يكتف القائمون عليه بسرد الحكايات، بل جعل الحكاية فنا، ولن يصل إلى تلك المرتبة إلا بإجراء تمارين الخيال والارتجال والعمل على تحرير حكايات المشاركين، وتقديمها بأداء واثق وتفاعلي عن طريق تحرير الجسد، وتمارين في التنفس لإخراج الحكاية بشكل يجذب السامع.

ولعل الجهد الذي قام به الباحث محمد سبأ في كتابه« حكايات من التراث الشعبي اليمني يحفّزنا إلى ضرورة الحفاظ، وتوثيق حكاياتنا الشعبية، وتدوينها، وتحليلها، ودراستها فهذه الحكايات ترتبط بالهوية الثقافيّة والحضارية للبلدان» والقيم والمعتقدات كما ذكرت نجيبة حداد في تقديمها للكتاب الذي من الممكن أن تشكل حكاياته مادة خصبة للكثير من الأعمال الفنية لو جرى توظيفها بشكل يتوافق مع إيقاع العصر ومتغيراته، وفق رؤى إبداعية جديدة، لنعيد إنتاج حكاياتنا قبل أن يدرك كواكبها الأفول.