أفكار وآراء

«التكاملية»... لتعزيز التنمية المستدامة

في الوقت الذي تواجه فيه المنطقة بوجه خاص والعالم من حولها بوجه عام تحديات صعبة، معقدة ومتواصلة، سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، فضلا عن الضبابية وعدم اليقين الذي بات يلف العديد من القضايا والتطورات، وما يمكن أن تؤول إليه في الفترة القادمة، فإن مما له دلالة بالغة أن تواصل سلطنة عمان سياساتها ومسيرتها التنموية بأناة وثقة وبعد نظر، وذلك في إطار المبادئ والقيم التي تقوم عليها السياسة العمانية، والتقاليد الراسخة للممارسة السياسية العمانية، والتي كرسها وأكد عليها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- منذ توليه مقاليد الحكم، ليس فقط على الصعيد الخارجي، ولكن أيضا على المستوى الداخلي، وفي العلاقة بين القيادة والمواطنين على امتداد هذه الأرض الطيبة.

وفي هذا الإطار تأتي اللقاءات المباشرة التي يعقدها جلالة السلطان هيثم بن طارق مع شيوخ وأبناء ولايات المحافظات المختلفة، ومنها لقاء جلالته مع شيوخ وأبناء ولايات محافظات شمال الباطنة والظاهرة والبريمي يوم الأربعاء الماضي الموافق الثالث والعشرين من مارس الجاري، ولعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدد من الجوانب منها:

أولا: أنه إذا كانت اللقاءات المباشرة والحوارات بين جلالة القائد والمواطنين، تمثل أحد أهم أدوات التفاعل المباشر والعميق بين القيادة وأبناء الوطن ككل، بغض النظر عن الحضور في كل لقاء، فإن لقاءات جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيده الله- مع شيوخ وأبناء محافظات ظفار والداخلية والوسطى ومسندم وشمال الشرقية وجنوب الشرقية وشمال الباطنة والظاهرة والبريمي، وما سيعقب ذلك من لقاءات، تكتسب أهميتها ودلالاتها من أنها تعبر عن إيمان راسخ وحرص عميق من جانب جلالته -أعزه الله- على استمرارية وترسيخ هذا النهج والتقليد المميز للممارسة السياسية العمانية على مدى عقود طويلة، وهو ما يعمق ويعزز التواصل الدائم والمفتوح بين القيادة والمواطنين على امتداد الأرض العمانية من ناحية، فضلا عن انه يجعل أبواب الحوار وتبادل الرؤى وطرح ما يراه جلالته من توجيهات، والوقوف على ما يفكر فيه المواطنون وما يرونه بالنسبة للولايات والمحافظات المختلفة من ناحية ثانية، وهو ما يكمل حلقة التفكير والحوار المجتمعي من اجل تحقيق مصلحة الوطن والمواطن في النهاية. ويضاف إلى ذلك أن هذه اللقاءات وما يدور خلالها من حوارات تحقق في الواقع مزيدا من الوضوح والوقوف على حقائق ما يجري وما يتم اتباعه من سياسات من جانب الحكومة في مختلف المجالات والنسبة لمختلف القضايا. وتزداد أهمية ذلك خاصة في مثل الظروف التي تمر بها المنطقة والعالم، وما يمكن أن تؤول إليه مشكلات وتطورات إقليمية ودولية باتت تفرض آثارها على مختلف الدول بدرجات مختلفة، وهو ما يتطلب المزيد من الاستعداد لمواجهة مختلف الاحتمالات، ومن الطبيعي أن يجد ذلك كله صداه في هذه اللقاءات السامية، وما تحمله من آثار إيجابية على المستوى الوطني الواسع وبالنظر للارتباط الوثيق بين السياستين الداخلية والخارجية والتأثير المتبادل بينهما من ناحية، والآثار الكبيرة للتطورات والحروب الجارية عربيا وإقليميا ودوليا من ناحية ثانية، فإن مما له دلالة عميقة أن يؤكد جلالته -حفظه الله ورعاه- خلال لقائه مع شيوخ محافظات شمال الباطنة والظاهرة والبريمي على أن «الأهم بالنسبة لنا التركيز على مصالح بلادنا والإسهام في جهود تنمية منطقتنا، وأن كل سياسات سلطنة عمان الخارجية مثمرة وتأتي بمردودات إيجابية علينا وعلى المنطقة بشكل عام». وما يؤكد ذلك عمليا أن السلطنة نجحت على نحو ملحوظ في الحفاظ على استمرارية مساعيها الإيجابية بالنسية لقضايا عدة، خاصة على الصعيدين العربي والإقليمي، ولا سيما بالنسبة للشقيقة سوريا وبالنسبة لجهود السلام في اليمن وكذلك الإفراج عن أحد المحتجزين الغربيين في إيران ومساندة جهود مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني التي تقترب من نهايتها المأمولة، فضلا عن دعم وتعميق العلاقات مع الأصدقاء في المنطقة وعلى امتداد العالم من خلال زيارات متبادلة واتصالات على مستويات عدة مع الهند والصين وإيران والمملكة المتحدة وغيرها من الدول الصديقة لعمان وهو ما يخدم في النهاية خطط وبرامج التنمية الوطنية بشكل مباشر وغير مباشر ويعزز من الإسهام العماني الإيجابي في كل ما يمكن أن يدعم السلام والاستقرار في المنطقة ومن حولها.

ثانيا: أنه في ظل الأولوية التي تحظى بها التنمية على الصعيد الوطني، فإنه من الطبيعي أن تحظى خطط وجهود التنمية المستدامة بالجزء الأكبر من لقاءات جلالته مع شيوخ ولايات المحافظات المختلفة، حيث يلقي جلالته مزيدا من الضوء على جهود الحكومة في النهوض بمستوى معيشة المواطن العماني وفي الأخذ بيد الفئات الأولى بالرعاية، وفي العناية بالشباب، وبكل ما يدعم الاقتصاد الوطني في الحاضر والمستقبل. وفي الوقت الذي أكد فيه جلالة السلطان المعظم -أعزه الله- على استمرار العمل للتخفيف عن كاهل المواطنين والحد من آثار سياسة الإصلاحات الاقتصادية التي يتم اتباعها في إطار برنامج التعافي المالي، فإن جلالته أوضح انه تم السير في خطوات ملموسة للحد من المديونية العامة، وانه مع ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية وتحسن العائدات، فانه سيتم مواصلة العمل على تقليص حجم المديونية العامة لأهمية ذلك اقتصاديا وماليا في الحاضر والمستقبل مع توجيه الزيادات لخدمة وتعزيز برامج التنمية المستدامة، خاصة فيما يتعلق بالخدمات الصحية والتعليمية والنقل وغيرها وبما يعود بالنفع على الوطن والمواطن العماني .. ومع الوضع في الاعتبار ما تم تخصيصه من أموال لتعزيز برامج التنمية المحلية في المحافظات (عشرون مليون ريال عماني لكل محافظة) يتم إنفاقها على مدى سنوات الخطة الخمسية العاشرة، فإن جلالته وجه بتخصيص 650 مليون ريال عماني لتنفيذ مشروعات تنموية إضافية في مختلف القطاعات حتى نهاية الخطة الخمسية الحالية، بالإضافة إلى زيادة السيولة المالية لمخصصات الموازنة الإنمائية لهذا العام بمبلغ 200 مليون ريال عماني لتوفير الخدمات واستكمال البنى الأساسية.

وبالنظر إلى أن هذه الإضافات تتم من خارج الموازنة التي تم إعلانها في بداية العام -قبل ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير- فإن ذلك يعني مرونة كبيرة من جانب الحكومة واستعدادا لتعزيز تمويل برامج التنمية كلما أتيحت الفرصة لذلك وفي ظل الأولويات المحددة أيضا. وفي ذلك إجابة واضحة وشفافة فيما يتعلق بالزيادة في العائدات النفطية وإنفاقها. جدير بالذكر أن جلالة السلطان هيثم بن طارق أكد أكثر من مرة على أهمية وضرورة مواصلة دعم رواد الأعمال والمشروعات الصغيرة والمتوسطة لتعزيز دورها التنموي ومساهمتها والقطاع الخاص بوجه عام في خدمة التنمية المستدامة وتوفير مزيد من فرص العمل للمواطنين، وقد وجه جلالته بتوفير ما يعزز دور هذه المؤسسات وتذليل أية عقبات أمامها.

ثالثا: انه بالنظر إلى أن تنفيذ برامج التنمية المستدامة وتحقيق الأهداف والأولويات الوطنية المنشودة اليوم وغدا، هي مسؤولية وطنية، ليست فقط على عاتق الحكومة التي تقوم بدورها، ولكنها أيضا على عاتق المواطن والمجتمع ككل، فإن دعوة جلالته لـ«التكاملية» في العمل والأداء بين مختلف مؤسسات الدولة، وبين الحكومة والمواطنين، على كافة المستويات وفي مختلف المجالات، هي دعوة بالغة الأهمية وينبغي جعلها هدفا وسياسة عملية للأخذ بها وتطبيقها في مختلف المجالات وعلى كل المستويات، ليس فقط لأنها تسهم في تجميع الجهود وحشد الطاقات الوطنية في مختلف القطاعات، ولكن أيضا لأنها تحقق إمكانية الاستفادة من كل طاقات الجميع وتوفير مساحة أكبر للشفافية تمنع بقدر الإمكان ازدواجية العمل والطاقات المهدورة بفعل تباعد بعض المؤسسات أو عدم إلمامها بما تقوم به مؤسسات أخرى في نفس المجال.

وفي هذا الشأن وجه جلالته للأخذ بمبدأ «التكاملية بين الحكومة والمواطنين لتنفيذ المشاريع الهادفة التي تخدم الصالح العام وتذليل كافة الصعوبات التي من شأنها أن تعوق مسيرة التنمية الشاملة». ونظرا للدور الحيوي للمحافظات وللمجالس البلدية فيها، وهو دور من المنتظر أن يتسع ويتعمق، خاصة مع استمرار إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، فقد وجه جلالته بأن «على المحافظات والمجالس البلدية القيام بأدوارها التنموية الوطنية اللازمة في هذه المرحلة كما أريد لها أن تكون ومضاعفة الجهد للنهوض بالمجتمع في كل ولاية». ومن خلال الالتزام بذلك تتكامل جهود الحكومة والمواطنين لتحقيق حياة أفضل ولمواجهة كافة التحديات والتغلب عليها.

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري