شي وبوتين وترامب ..حماقات الأقوياء
الأربعاء / 19 / شعبان / 1443 هـ - 20:30 - الأربعاء 23 مارس 2022 20:30
ترجمة أحمد شافعي
كانت السنوات الخمس الأخيرة قاعة محاضرات للدراسات العليا في السياسة المقارنة، فقد وقع فيها ما لم نشهده من قبل في وقت واحد: إذ اتخذ كلٌّ من أقوى ثلاثة رؤساء في العالم ـ وهم فلاديمير بوتين وشي جينبنج ودونالد ترامب ـ خطوات عنيفة للتشبث في السلطة إلى ما بعد فترات الولاية المحددة لحكمهم. فشل منهم واحد. ونجح اثنان. وهنا حكاية تقول الكثير عن عالمنا اليوم.
فشل ترامب لسبب واحد بسيط هو أن المؤسسات والقانون والأعراف في أمريكا أرغمته على التنازل عن السلطة في نهاية سنواته الأربع تقريبا برغم كل من جهوده لتشويه النتائج الانتخابية وإطلاقه العنان لمؤيديه كي يرهبوا المشرعين ويحملوهم على إلغاء خسارته في الاقتراع.
وكان أداء بوتين وشي أفضل، حتى الآن. فدونما عوائق من المؤسسات والأعراف الديمقراطية، استحدثا قوانين جديدة ليجعلا من نفسيهما فعليا رئيسين مدى الحياة.
مسكينة شعوبهما. يعلم الله أن البلاد الديمقراطية لديها مشكلاتها اليوم، لكنها لم تزل تمتلك أشياء تفتقر إليها البلاد الأوتقراطية، كالقدرة على تغيير المسار، وذلك غالبا من خلال تغيير القادة، والقدرة على الفحص العلني والجدال حول أفكار بديلة قبل الشروع في مسار عمل. ولهذه السمات قيمة خاصة في عصر يتسارع فيه التغير التكنولوجي والمناخي حينما تنخفض احتمالات أن يتخذ رجل في أواخر الستينيات من عمره ـ مثل بوتين وشي ـ قرارات أفضل وأفضل، إذ يزداد عزلة على عزلة كلما ازداد شيخوخة على شيخوخته.
غير أن بوتين لوى ذراع الدوما في 2020 لإلغاء تحديد فترة ولايته، بما يسمح له بالترشح للرئاسة في 2024 ويتيح له فرصة البقاء في السلطة إلى عام 2036. وفي 2018، حث شي نوابه على تغيير دستور الصين لإلغاء حدود الفترات الرئاسية بالكلية، ليتسنى له البقاء في السلطة إلى الأبد، بفرض أن يعاد انتخابه رئيسا في جلسة المؤتمر الشعبي الوطني سنة 2023. ويمكنكم افتراض أن هذا ما سوف يحدث.
لقد فرض دينج شياوبنج ألا تتجاوز الرئاسة الصينية فترتي حكم متعاقبتين في عام 1982 لسبب واحد هو أن يمنع ظهور ماو تسيدونج آخر، فقد كانت زعامة تسيدونج الأوتقراطية وسطوته الشخصية سببا في فقر الصين وعزلها وسببا في كثير من الأحيان في فوضى دموية. واجتاز شي هذا العائق. وهو يرى أنه شخص لا غنى عنه ولا يرقى إليه الخطأ.
لكن كما نرى جميعنا بوضوح، فإن أداء بوتين في أوكرانيا بمثابة إعلان واضح جلي سافر عن مخاطر وجود رئيس لمدى الحياة يرى نفسه لا غنى عنه ولا يرقى إليه الخطأ.
أوكرانيا هي حرب بوتين، وقد ارتكب فيها كل الأخطاء: إذ بالغ في تقدير قدرة قواته المسلحة، وقلل من تقدير عزم الأوكرانيين على القتال والموت في سبيل حريته، وأساء تماما قراءة عزم الغرب، حكومات وشركات، على التوحد دعما لأوكرانيا. فإما أن بوتين اعتمد على هراء من مساعدين خائفين أن يقولوا له الحقيقة، أو بلغت ثقته في عصمته من الخطأ حد أنه لم يسائل نفسه قط ولم يجهز حكومته أو مجتمعه لما وصفه المتحدث باسمه شخصيا بأنه حرب اقتصادية «غير مسبوقة» من خلال العقوبات الغربية. كل ما نعرفه يقينا هو أنه منع كل النقد الإعلامي وجعل من المستحيل تقريبا على الروس أن يعاقبوه في صناديق الاقتراع على حماقته البربرية.
الصين مكان أكثر جدية، إذ أخرجت من الفقر نحو ثمانمائة مليون صيني منذ سبعينات القرن الماضي. وشي أكثر جدية من بوتين. ومع ذلك فأخطار الأوتقراطية بادية. إذ لم يبدِ شيء عزما على إجراء تحقيق جاد في كيفية ظهور فيروس كورونا، في ووهان على أغلب الاحتمالات، أو إشراك العالم على الأقل في أي نتائج يتم التوصل إليها خشية ـ في ما يبدو ـ من أن ذلك قد ينعكس سلبا على زعامته. وكان اعتماده على استراتيجية الحظر، وعلى اللقاحات الصينية التي يبدو أنها أقل فعالية من لقاحات أخرى ضد متحور أوميكرون، سبب إجهاد بالغ يعانيه اقتصاده الآن.
أما رهان شي على التحالف مع روسيا بوتين فخاب بسرعة. فحينما التقى الرئيسان في الرابع من فبراير في افتتاح الأولمبياد في الصين، أصدرا بيانا يعلن «صداقة بين البلدين لا حدود لها، وليس فيها مناطق تعاون «محظورة».
من الواضح أن اعتبار بوتين هذه الصداقة غير المحددة ضوءا أخضر لغزو أوكرانيا قد تسبب لشي في حيرة وتخبط. فالصين مستورد ضخم للنفط، والذرة، والقمح من روسيا وأوكرانيا، والغزو الروسي أدى إلى رفع تكاليف الثلاثة فضلا عن واردات غذائية أخرى، كما أسهم أيضا في خفض سوق الأوراق المالية الصيني (وإن عاد إلى القفز)، كما أرغم الصين على الظهور بمظهر غير المبالية بهمجية روسيا في أوكرانيا، وتوتر علاقات بكين بالاتحاد الأوربي، وهو الشريك التجاري الأكبر للصين.
أتساءل كم مسؤولا في الصين يغمغم الآن «لو أن هذا ما يحدث في حال وجود رئيس لمدى الحياة...»
إنني ألوذ بأن واحدا من أكثر كليشيهات السياسة الخارجية ابتذالا قد انكشف زيفه وهزله، وهو الكليشيه القائل بأن رؤساء الصين وروسيا شديدو الذكاء، ويلعبون دائما لعبة الأمم على طريق أساتذة الشطرنج البارعين، في حين أن الأمريكيين الأغبياء ـ الماضين في العالم مضي آكلي اللحوم والبطاطس ـ فلا يجيدون إلا لعب الداما.
يبدو لي بالفعل أن بوتين لم يلعب الشطرنج، وإنما لعب الروليت الروسي، وإن حظه نفد في هذه اللعبة فأطلق الرصاصة في قلب الاقتصاد الروسي. ويبدو شي مشلولا، عاجزا عن تبين أي نقلة يجب أن يقوم بها في لعبته، فبقلبه يريد أن يعارض الغرب، بينما ينبئه عقله بأنه لا يملك أن يفعل ذلك. ولذلك تقف الصين على الحياد في مواجهة أفدح جرائم حرب ترتكب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
في الوقت نفسه كان جو الناعس «أي الرئيس الأمريكي» منكبا في الركن على لعب الليجو، ملتزما بمنهج محدد وهو يضيف القطعة، أي الحليف، إلى الأخرى مما يرتبط معا بقيم وتهديدات مشتركة، إلى أن أقام تحالفا صلبا لإدارة هذه الأزمة.
اختصارا، في الوقت الراهن على الأقل، تتفوق البلاد الديمقراطية الفوضوية، بتناوبها الدوري للسلطات، في براعتها على الرؤساء لمدى الحياة الذين يحتاجون إلى كبت جميع مصادر المعارضة أكثر من ذي قبل.
ويأتي هذا التناقض في الوقت الأمثل، إذ كانت الحركة الديمقراطية متوقفة في كل مكان. وانظروا إلى تطور الديمقراطية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وقد مر عبر العديد من المراحل، حسبما يرى لاري دياموند خبير الديمقراطية في جامعة ستانفورد ومؤلف كتب «رياح معاكسة: إنقاذ الديمقراطية من الغضب الروسي، والطموح الصيني، والرضا الأمريكي» [Ill Winds: Saving Democracy From Russian Rage, Chinese Ambition, and American Complacency].
بعد الحرب العالمية الثانية، حظيت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بزخم مذهل، فبدأت الديمقراطية تنتشر في العالم قبل أن تتعثر بسبب الحرب الباردة ثم ترتد في طريق معاكس في ستينات القرن العشرين نتيجةُ لموجة انقلابات جيوش أو موظفين في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. لكن موجة ديمقراطية أخرى بدأت في منتصف السبعينات، بعد سقوط دكتاتوريات البرتغال وأسبانيا واليونان. انتشرت الديمقراطية أيضا في آسيا، وفي الصين تقريبا في ميدان تيانانمن. ثم جاء سقوط سور برلين في عام 1989 فأطلق موجة ديمقراطية أخرى في شرق ووسط أوروبا، وروسيا.
لكن اعتبارا من 2006، مع ضعف أمريكا بسبب حربين في الشرق الأوسط وبسبب أزمة 2008 المالية ـ والصعود الاقتصادي المذهل في الصين ـ مضت الديمقراطية إلى «ركود عالمي» حسبما قال لي دياموند«. وقد دفعت الصين وروسيا هذه السردية بلا توقف: «البلاد الديمقراطية ضعيفة ومنحلة أخلاقيا وسياسيا. لا تستطيع الإنجاز. والاستبدادية هي المستقبل».
أضاف دياموند أن السؤال الآن هو: هل كان إعلان شي وبوتين في الرابع من فبراير ـ الذي أوضحا فيه «جميع أسباب تفوق نظامهما «الديمقراطي» على الديمقراطيات الليبرالية المفلسة العقيمة» ـ هو العلامة على بلوغ نظاميهما الاستبداديين ذروتهما؟
وقال دياموند ساخرا إن شيئا واحدا واضح الآن: وهو أن العثرات الأخيرة من بوتين وشي «تسيء إلى الاستبدادية».
لكن من أجل الانقلاب على الموجة الاستبدادية بصورة مستدامة، يلزم أمران كبيران. الأول أن تفشل همجية بوتين في أوكرانيا. فقد يؤدي ذلك إلى فقدانه السلطة. ومؤكد أن روسيا بغير بوتين قد لا يتبين أنها أفضل حالا، بل قد تسوء. لكن إن تحولت إلى الأفضل، فالعالم كله سيكون أفضل حالا إذا احتل الكرملين رئيس لائق.
الأمر الثاني أهم: سيكون على أمريكا أن تظهر أنها ليست بارعة فقط في صياغة التحالفات بالخارج بل وأنها أيضا قادرة على إقامة ائتلافات في الداخل مرة أخرى، من أجل حكم رشيد، ونمو، وانتقال للسلطة بلا نزاع، واتحاد أكثر كمالا. ولقد أكسبتنا قدرتنا على عمل ذلك في الماضي تقدير العالم ومحاكاته لنا. كذلك كنا، ويمكن أن نكون من جديد.
لو أن الأمر كذلك، فسيكون لأبياتي المفضلة من مسرحية «هاملتن» مكان وثيق الصلة. تلك هي الأبيات التي يشرح فيها جورج واشنطن لألكسندر هاملتن «وكلاهما من الآباء المؤسسين لأمريكا» لماذا يتنحى طوعا عن الحكم ولا يسعى إلى فترة ثالثة:
واشنطن: «لو أحسنا صنع هذا
فسوف نلقنهم درسا
في كيفية الوداع
أنت وأنا
هاملتن: سيقولون، يا سيدي الرئيس، إنك ضعيف
واشنطن: لا، بل سيرون أننا أقوياء.
توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية في جريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز»
كانت السنوات الخمس الأخيرة قاعة محاضرات للدراسات العليا في السياسة المقارنة، فقد وقع فيها ما لم نشهده من قبل في وقت واحد: إذ اتخذ كلٌّ من أقوى ثلاثة رؤساء في العالم ـ وهم فلاديمير بوتين وشي جينبنج ودونالد ترامب ـ خطوات عنيفة للتشبث في السلطة إلى ما بعد فترات الولاية المحددة لحكمهم. فشل منهم واحد. ونجح اثنان. وهنا حكاية تقول الكثير عن عالمنا اليوم.
فشل ترامب لسبب واحد بسيط هو أن المؤسسات والقانون والأعراف في أمريكا أرغمته على التنازل عن السلطة في نهاية سنواته الأربع تقريبا برغم كل من جهوده لتشويه النتائج الانتخابية وإطلاقه العنان لمؤيديه كي يرهبوا المشرعين ويحملوهم على إلغاء خسارته في الاقتراع.
وكان أداء بوتين وشي أفضل، حتى الآن. فدونما عوائق من المؤسسات والأعراف الديمقراطية، استحدثا قوانين جديدة ليجعلا من نفسيهما فعليا رئيسين مدى الحياة.
مسكينة شعوبهما. يعلم الله أن البلاد الديمقراطية لديها مشكلاتها اليوم، لكنها لم تزل تمتلك أشياء تفتقر إليها البلاد الأوتقراطية، كالقدرة على تغيير المسار، وذلك غالبا من خلال تغيير القادة، والقدرة على الفحص العلني والجدال حول أفكار بديلة قبل الشروع في مسار عمل. ولهذه السمات قيمة خاصة في عصر يتسارع فيه التغير التكنولوجي والمناخي حينما تنخفض احتمالات أن يتخذ رجل في أواخر الستينيات من عمره ـ مثل بوتين وشي ـ قرارات أفضل وأفضل، إذ يزداد عزلة على عزلة كلما ازداد شيخوخة على شيخوخته.
غير أن بوتين لوى ذراع الدوما في 2020 لإلغاء تحديد فترة ولايته، بما يسمح له بالترشح للرئاسة في 2024 ويتيح له فرصة البقاء في السلطة إلى عام 2036. وفي 2018، حث شي نوابه على تغيير دستور الصين لإلغاء حدود الفترات الرئاسية بالكلية، ليتسنى له البقاء في السلطة إلى الأبد، بفرض أن يعاد انتخابه رئيسا في جلسة المؤتمر الشعبي الوطني سنة 2023. ويمكنكم افتراض أن هذا ما سوف يحدث.
لقد فرض دينج شياوبنج ألا تتجاوز الرئاسة الصينية فترتي حكم متعاقبتين في عام 1982 لسبب واحد هو أن يمنع ظهور ماو تسيدونج آخر، فقد كانت زعامة تسيدونج الأوتقراطية وسطوته الشخصية سببا في فقر الصين وعزلها وسببا في كثير من الأحيان في فوضى دموية. واجتاز شي هذا العائق. وهو يرى أنه شخص لا غنى عنه ولا يرقى إليه الخطأ.
لكن كما نرى جميعنا بوضوح، فإن أداء بوتين في أوكرانيا بمثابة إعلان واضح جلي سافر عن مخاطر وجود رئيس لمدى الحياة يرى نفسه لا غنى عنه ولا يرقى إليه الخطأ.
أوكرانيا هي حرب بوتين، وقد ارتكب فيها كل الأخطاء: إذ بالغ في تقدير قدرة قواته المسلحة، وقلل من تقدير عزم الأوكرانيين على القتال والموت في سبيل حريته، وأساء تماما قراءة عزم الغرب، حكومات وشركات، على التوحد دعما لأوكرانيا. فإما أن بوتين اعتمد على هراء من مساعدين خائفين أن يقولوا له الحقيقة، أو بلغت ثقته في عصمته من الخطأ حد أنه لم يسائل نفسه قط ولم يجهز حكومته أو مجتمعه لما وصفه المتحدث باسمه شخصيا بأنه حرب اقتصادية «غير مسبوقة» من خلال العقوبات الغربية. كل ما نعرفه يقينا هو أنه منع كل النقد الإعلامي وجعل من المستحيل تقريبا على الروس أن يعاقبوه في صناديق الاقتراع على حماقته البربرية.
الصين مكان أكثر جدية، إذ أخرجت من الفقر نحو ثمانمائة مليون صيني منذ سبعينات القرن الماضي. وشي أكثر جدية من بوتين. ومع ذلك فأخطار الأوتقراطية بادية. إذ لم يبدِ شيء عزما على إجراء تحقيق جاد في كيفية ظهور فيروس كورونا، في ووهان على أغلب الاحتمالات، أو إشراك العالم على الأقل في أي نتائج يتم التوصل إليها خشية ـ في ما يبدو ـ من أن ذلك قد ينعكس سلبا على زعامته. وكان اعتماده على استراتيجية الحظر، وعلى اللقاحات الصينية التي يبدو أنها أقل فعالية من لقاحات أخرى ضد متحور أوميكرون، سبب إجهاد بالغ يعانيه اقتصاده الآن.
أما رهان شي على التحالف مع روسيا بوتين فخاب بسرعة. فحينما التقى الرئيسان في الرابع من فبراير في افتتاح الأولمبياد في الصين، أصدرا بيانا يعلن «صداقة بين البلدين لا حدود لها، وليس فيها مناطق تعاون «محظورة».
من الواضح أن اعتبار بوتين هذه الصداقة غير المحددة ضوءا أخضر لغزو أوكرانيا قد تسبب لشي في حيرة وتخبط. فالصين مستورد ضخم للنفط، والذرة، والقمح من روسيا وأوكرانيا، والغزو الروسي أدى إلى رفع تكاليف الثلاثة فضلا عن واردات غذائية أخرى، كما أسهم أيضا في خفض سوق الأوراق المالية الصيني (وإن عاد إلى القفز)، كما أرغم الصين على الظهور بمظهر غير المبالية بهمجية روسيا في أوكرانيا، وتوتر علاقات بكين بالاتحاد الأوربي، وهو الشريك التجاري الأكبر للصين.
أتساءل كم مسؤولا في الصين يغمغم الآن «لو أن هذا ما يحدث في حال وجود رئيس لمدى الحياة...»
إنني ألوذ بأن واحدا من أكثر كليشيهات السياسة الخارجية ابتذالا قد انكشف زيفه وهزله، وهو الكليشيه القائل بأن رؤساء الصين وروسيا شديدو الذكاء، ويلعبون دائما لعبة الأمم على طريق أساتذة الشطرنج البارعين، في حين أن الأمريكيين الأغبياء ـ الماضين في العالم مضي آكلي اللحوم والبطاطس ـ فلا يجيدون إلا لعب الداما.
يبدو لي بالفعل أن بوتين لم يلعب الشطرنج، وإنما لعب الروليت الروسي، وإن حظه نفد في هذه اللعبة فأطلق الرصاصة في قلب الاقتصاد الروسي. ويبدو شي مشلولا، عاجزا عن تبين أي نقلة يجب أن يقوم بها في لعبته، فبقلبه يريد أن يعارض الغرب، بينما ينبئه عقله بأنه لا يملك أن يفعل ذلك. ولذلك تقف الصين على الحياد في مواجهة أفدح جرائم حرب ترتكب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
في الوقت نفسه كان جو الناعس «أي الرئيس الأمريكي» منكبا في الركن على لعب الليجو، ملتزما بمنهج محدد وهو يضيف القطعة، أي الحليف، إلى الأخرى مما يرتبط معا بقيم وتهديدات مشتركة، إلى أن أقام تحالفا صلبا لإدارة هذه الأزمة.
اختصارا، في الوقت الراهن على الأقل، تتفوق البلاد الديمقراطية الفوضوية، بتناوبها الدوري للسلطات، في براعتها على الرؤساء لمدى الحياة الذين يحتاجون إلى كبت جميع مصادر المعارضة أكثر من ذي قبل.
ويأتي هذا التناقض في الوقت الأمثل، إذ كانت الحركة الديمقراطية متوقفة في كل مكان. وانظروا إلى تطور الديمقراطية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وقد مر عبر العديد من المراحل، حسبما يرى لاري دياموند خبير الديمقراطية في جامعة ستانفورد ومؤلف كتب «رياح معاكسة: إنقاذ الديمقراطية من الغضب الروسي، والطموح الصيني، والرضا الأمريكي» [Ill Winds: Saving Democracy From Russian Rage, Chinese Ambition, and American Complacency].
بعد الحرب العالمية الثانية، حظيت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بزخم مذهل، فبدأت الديمقراطية تنتشر في العالم قبل أن تتعثر بسبب الحرب الباردة ثم ترتد في طريق معاكس في ستينات القرن العشرين نتيجةُ لموجة انقلابات جيوش أو موظفين في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. لكن موجة ديمقراطية أخرى بدأت في منتصف السبعينات، بعد سقوط دكتاتوريات البرتغال وأسبانيا واليونان. انتشرت الديمقراطية أيضا في آسيا، وفي الصين تقريبا في ميدان تيانانمن. ثم جاء سقوط سور برلين في عام 1989 فأطلق موجة ديمقراطية أخرى في شرق ووسط أوروبا، وروسيا.
لكن اعتبارا من 2006، مع ضعف أمريكا بسبب حربين في الشرق الأوسط وبسبب أزمة 2008 المالية ـ والصعود الاقتصادي المذهل في الصين ـ مضت الديمقراطية إلى «ركود عالمي» حسبما قال لي دياموند«. وقد دفعت الصين وروسيا هذه السردية بلا توقف: «البلاد الديمقراطية ضعيفة ومنحلة أخلاقيا وسياسيا. لا تستطيع الإنجاز. والاستبدادية هي المستقبل».
أضاف دياموند أن السؤال الآن هو: هل كان إعلان شي وبوتين في الرابع من فبراير ـ الذي أوضحا فيه «جميع أسباب تفوق نظامهما «الديمقراطي» على الديمقراطيات الليبرالية المفلسة العقيمة» ـ هو العلامة على بلوغ نظاميهما الاستبداديين ذروتهما؟
وقال دياموند ساخرا إن شيئا واحدا واضح الآن: وهو أن العثرات الأخيرة من بوتين وشي «تسيء إلى الاستبدادية».
لكن من أجل الانقلاب على الموجة الاستبدادية بصورة مستدامة، يلزم أمران كبيران. الأول أن تفشل همجية بوتين في أوكرانيا. فقد يؤدي ذلك إلى فقدانه السلطة. ومؤكد أن روسيا بغير بوتين قد لا يتبين أنها أفضل حالا، بل قد تسوء. لكن إن تحولت إلى الأفضل، فالعالم كله سيكون أفضل حالا إذا احتل الكرملين رئيس لائق.
الأمر الثاني أهم: سيكون على أمريكا أن تظهر أنها ليست بارعة فقط في صياغة التحالفات بالخارج بل وأنها أيضا قادرة على إقامة ائتلافات في الداخل مرة أخرى، من أجل حكم رشيد، ونمو، وانتقال للسلطة بلا نزاع، واتحاد أكثر كمالا. ولقد أكسبتنا قدرتنا على عمل ذلك في الماضي تقدير العالم ومحاكاته لنا. كذلك كنا، ويمكن أن نكون من جديد.
لو أن الأمر كذلك، فسيكون لأبياتي المفضلة من مسرحية «هاملتن» مكان وثيق الصلة. تلك هي الأبيات التي يشرح فيها جورج واشنطن لألكسندر هاملتن «وكلاهما من الآباء المؤسسين لأمريكا» لماذا يتنحى طوعا عن الحكم ولا يسعى إلى فترة ثالثة:
واشنطن: «لو أحسنا صنع هذا
فسوف نلقنهم درسا
في كيفية الوداع
أنت وأنا
هاملتن: سيقولون، يا سيدي الرئيس، إنك ضعيف
واشنطن: لا، بل سيرون أننا أقوياء.
توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية في جريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز»