في الهوية والتنميط
الأربعاء / 19 / شعبان / 1443 هـ - 19:17 - الأربعاء 23 مارس 2022 19:17
بالرغم من أن تعريف الهوية يشتبك في دوائر تعريفية متداخلة للفرد، إلا أن من شأن التنميط أن يعيد تعريف وتأطير الهوية بطريقة قد تكون متعسفة، أحيانًا، ما يعني أن قدرة الإنسان على الخلاص من التنميط في عناصر هويته القوية والبارزة قدرةً غير ممكنة، لاسيما عبر العناصر الظاهرة للهوية كاللون والسحنة.
بيد أن هناك تنميطا قويا تكسبه الهوية لصاحبها بحيث يتعين على ذلك الإنسان، خصوصا إذا تفاعلت هويته مع عناصر هوية أخرى، أن يمارس إعادة تعريف مزعجة لنفسه باستمرار أمام الآخرين، نسبة لتناقض قد تفترضه انطباعات عامة الناس في تنميطهم لعلامات الهوية وفقا لعناصر ظاهرة.
هذا ما يمكن أن يعاني منه السوداني الذي يتحدث العربية (التي قد تكون بالنسبة له لغة أم لا يعرف غيرها) في بلد أوروبي مثلا، حيث سيعاني من إعادة تنميط الآخرين له نظرًا إلى اختلاف لونه مثلًا عن غالبية ألوان الناطقين بالعربية في بلدان العالم العربي (بالرغم من وجود مَنْ ليست العربية بالنسبة له بلغة أم؛ كالبربر في شمال إفريقيا والكرد في العراق وسوريا مثلا) .
هذا التنميط الظاهري الذي تفرضه بعض علامات الهوية، تنبه له الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم حين شارك، في ستينيات القرن الماضي، في مناسبة ثقافية بألمانيا، فعندما سأله بعض الألمان عن اللغة التي ينطق بها، وأجابهم: بأنه شاعر من السودان لغته هي اللغة العربية، كان الانطباع المهذب لزملائه الألمان: أن شكله ولونه مختلف عن الناطقين بالعربية، مما نبه الشاعر إلى قضية التنميط في الهوية وقدرة ذلك التنميط أحيانا على تأطير الفرد وفق العلامات البيولوجية لهويته الظاهرة، دون أي انتباه للصفات المعنوية غير الظاهرة من صفات الهوية.
قدرة التنميط في العادة تستجلب انتباه الانطباعات الأولية والتلقائية للبشر، لكنها لا تعكس بالضرورة تطابقا حدِّيا وضروريا بين الفرد وبين بعض العناصر البيولوجية لهويته مثلا.
وهنا سنجد أن جزءا من تلك الانطباعات التي تعكسها، أحيانا، تساؤلات الآخرين حول هوية الأفراد (متى كان هناك ما يعكس اختلافا ظاهرا عن التطابق الذي تفرضه الانطباعات الأولية) هو مما يدخل في طرائق تفكير نمطية أكثر من كونها انطباعات مؤسسة على المعرفة، أي طرائق لنظم إدراك تظل باستمرار تعيد عبر آلياتها التقليدية الأسئلة ذاتها التي لا ينجو منها أي فرد توفر عناصر أساسية لهويته ما يوهم تناقضا مع ما يفترض تطابقا ظاهريا! هناك، إذا، مزالق يعكسها التنميط عبر إيهامات مضللة قد تطال حتى النخب حين تعجز تلك النخب عن التفريق بين طبيعة التنميط وبين حقيقة الهوية مثلا.
هذا ما نجده مثلا في اضطراب علاقة بعض النخب السودانية المثقفة حيال علاقاتهم باللغة العربية (التي قد تكون لبعضهم لغة أم) ولكنهم تحت ضغط التنميط يعكسون استجابات مضطربة في علاقتهم باللغة بناء على اختلاف اللون.
وهكذا فإن قوة التنميط حين تنعكس ظلالها في واقع تخلف اجتماعي ومعرفي سنجد أن ردود الفعل حيال ذلك التنميط تطال جميع أولئك الذين يعقدون اقترانًا شرطيًا بين اللغات الحضارية الكبرى -كاللغة العربية- وبين ألوان الناطقين بها فتنعكس ردود فعلهم ضمن إطار التخلف المانع من سوية المعرفة الرافعة لذلك التناقض الشكلي والظاهري، كما أن الذين يعكسون علاقات مضطربة بلغتهم الوطنية (كبعض النخب السودانية مثلا مع اللغة العربية) بناء على ردود فعلهم التي تهدر خصائص الهوية الأصلية للغة العربية كلغة سودانية وطنية فقط من حيث إيهام الاختلاف اللوني؛ هم كذلك يعانون من ردود فعل متخلفة.
إن فك ارتباط التنميط عن الهوية لا يمكن أن يكون دالا على سوية موضوعية، إلا في المجتمعات التي غادرت محطات التخلف الإنساني؛ لأن ما يمكن إدراكه بالمعرفة أولًا ويتحول، بعد ذلك، إلى سوية البديهة بالمراس والتجربة التي تفرضها المعرفة لا يتحقق إلا في المجتمعات المتقدمة.
إن التنميط لا يعبر تعبيرا ظاهريا عن هوياتنا، فقط، بل كذلك، أحيانًا، قد يؤطرنا ويقولبنا في نظم إدراك الآخرين لنا بطريقة لا فكاك منها إلا بعد أن تقلع مجتمعاتنا الناطقة بالعربية بعيدًا عن محطات التخلف.
وإلى أن يحين موعد الإقلاع عن محطات التخلف في سباق المسافات الطويلة، سيظل التنميط حاكماً بالضرورة لنظم إدراكنا كلما بدا هناك تناقض ظاهري بين عناصر الهوية!.
محمد جميل أحمد كاتب من السودان
بيد أن هناك تنميطا قويا تكسبه الهوية لصاحبها بحيث يتعين على ذلك الإنسان، خصوصا إذا تفاعلت هويته مع عناصر هوية أخرى، أن يمارس إعادة تعريف مزعجة لنفسه باستمرار أمام الآخرين، نسبة لتناقض قد تفترضه انطباعات عامة الناس في تنميطهم لعلامات الهوية وفقا لعناصر ظاهرة.
هذا ما يمكن أن يعاني منه السوداني الذي يتحدث العربية (التي قد تكون بالنسبة له لغة أم لا يعرف غيرها) في بلد أوروبي مثلا، حيث سيعاني من إعادة تنميط الآخرين له نظرًا إلى اختلاف لونه مثلًا عن غالبية ألوان الناطقين بالعربية في بلدان العالم العربي (بالرغم من وجود مَنْ ليست العربية بالنسبة له بلغة أم؛ كالبربر في شمال إفريقيا والكرد في العراق وسوريا مثلا) .
هذا التنميط الظاهري الذي تفرضه بعض علامات الهوية، تنبه له الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم حين شارك، في ستينيات القرن الماضي، في مناسبة ثقافية بألمانيا، فعندما سأله بعض الألمان عن اللغة التي ينطق بها، وأجابهم: بأنه شاعر من السودان لغته هي اللغة العربية، كان الانطباع المهذب لزملائه الألمان: أن شكله ولونه مختلف عن الناطقين بالعربية، مما نبه الشاعر إلى قضية التنميط في الهوية وقدرة ذلك التنميط أحيانا على تأطير الفرد وفق العلامات البيولوجية لهويته الظاهرة، دون أي انتباه للصفات المعنوية غير الظاهرة من صفات الهوية.
قدرة التنميط في العادة تستجلب انتباه الانطباعات الأولية والتلقائية للبشر، لكنها لا تعكس بالضرورة تطابقا حدِّيا وضروريا بين الفرد وبين بعض العناصر البيولوجية لهويته مثلا.
وهنا سنجد أن جزءا من تلك الانطباعات التي تعكسها، أحيانا، تساؤلات الآخرين حول هوية الأفراد (متى كان هناك ما يعكس اختلافا ظاهرا عن التطابق الذي تفرضه الانطباعات الأولية) هو مما يدخل في طرائق تفكير نمطية أكثر من كونها انطباعات مؤسسة على المعرفة، أي طرائق لنظم إدراك تظل باستمرار تعيد عبر آلياتها التقليدية الأسئلة ذاتها التي لا ينجو منها أي فرد توفر عناصر أساسية لهويته ما يوهم تناقضا مع ما يفترض تطابقا ظاهريا! هناك، إذا، مزالق يعكسها التنميط عبر إيهامات مضللة قد تطال حتى النخب حين تعجز تلك النخب عن التفريق بين طبيعة التنميط وبين حقيقة الهوية مثلا.
هذا ما نجده مثلا في اضطراب علاقة بعض النخب السودانية المثقفة حيال علاقاتهم باللغة العربية (التي قد تكون لبعضهم لغة أم) ولكنهم تحت ضغط التنميط يعكسون استجابات مضطربة في علاقتهم باللغة بناء على اختلاف اللون.
وهكذا فإن قوة التنميط حين تنعكس ظلالها في واقع تخلف اجتماعي ومعرفي سنجد أن ردود الفعل حيال ذلك التنميط تطال جميع أولئك الذين يعقدون اقترانًا شرطيًا بين اللغات الحضارية الكبرى -كاللغة العربية- وبين ألوان الناطقين بها فتنعكس ردود فعلهم ضمن إطار التخلف المانع من سوية المعرفة الرافعة لذلك التناقض الشكلي والظاهري، كما أن الذين يعكسون علاقات مضطربة بلغتهم الوطنية (كبعض النخب السودانية مثلا مع اللغة العربية) بناء على ردود فعلهم التي تهدر خصائص الهوية الأصلية للغة العربية كلغة سودانية وطنية فقط من حيث إيهام الاختلاف اللوني؛ هم كذلك يعانون من ردود فعل متخلفة.
إن فك ارتباط التنميط عن الهوية لا يمكن أن يكون دالا على سوية موضوعية، إلا في المجتمعات التي غادرت محطات التخلف الإنساني؛ لأن ما يمكن إدراكه بالمعرفة أولًا ويتحول، بعد ذلك، إلى سوية البديهة بالمراس والتجربة التي تفرضها المعرفة لا يتحقق إلا في المجتمعات المتقدمة.
إن التنميط لا يعبر تعبيرا ظاهريا عن هوياتنا، فقط، بل كذلك، أحيانًا، قد يؤطرنا ويقولبنا في نظم إدراك الآخرين لنا بطريقة لا فكاك منها إلا بعد أن تقلع مجتمعاتنا الناطقة بالعربية بعيدًا عن محطات التخلف.
وإلى أن يحين موعد الإقلاع عن محطات التخلف في سباق المسافات الطويلة، سيظل التنميط حاكماً بالضرورة لنظم إدراكنا كلما بدا هناك تناقض ظاهري بين عناصر الهوية!.
محمد جميل أحمد كاتب من السودان