مرحبًا بكم في قانون الغاب
الاثنين / 17 / شعبان / 1443 هـ - 19:59 - الاثنين 21 مارس 2022 19:59
في كتابه الصادر عام 1960 بعنوان 'الحشد والسلطة'، لاحظ إلياس كانيتي أن المُستبدين المُصابين بجنون العظمة والذين يعتبرون أنفسهم 'ناجين' سوف يُحيطون أنفسهم بمساحة فارغة حتى يتمكنوا من رؤية أي خطر وشيك. الأشخاص الوحيدون الذين يمكن الاعتماد عليهم هم أولئك الذين يمكنهم التضحية بأنفسهم. ومع كل عملية إعدام يأمر بها الديكتاتور، فإنه يكتسب بذلك 'قوة البقاء'.
ما هو أفضل وصف للرئيس فلاديمير بوتين؟ يُفضل المُستبدون في روسيا الجلوس بمفردهم عند نهاية طاولة بيضاء طويلة - مع إصدار الإنذارات النهائية، وشن الغزوات، والأمر باعتقال (أو اغتيال) خصومهم السياسيين. لقد قام بوتين ببناء نفوذه من خلال الحروب الدموية في الشيشان وجورجيا وسوريا وأوكرانيا. يعتمد وجوده على إنهاء وجود الآخرين. ومع ذلك، يُعد بوتين سببًا في إثارة غرائز البقاء الخاصة بالآخرين. فقط برز فولوديمير زيلينسكي المُمثل الأوكراني الذي تحول إلى رئيس باعتباره البطل الذي يُجسد النضال الوجودي لأمته. وقد أُعيد إحياء منظمة حلف شمال الأطلسي من 'الموت الدماغي' الزاحف.
وقد تحول الاتحاد الأوروبي فجأة من مشروع سلام يُركز على الداخل إلى مجتمع يتمتع بالسيادة والأمن. وكما أخبرني أحد كبار الدبلوماسيين الأوروبيين، 'إن روسيا أكبر وأقرب من أن يُسمح لها بالتصرف بهكذا حماقة باعتبارها بلدا متنمرا متحررا من جميع المعايير. فإما أن تعمل استجابتنا لهذه الحرب على وضع حد لها أو سينهار عالمنا'. إن الأزمة التي خلقها بوتين لأوروبا لا تتعلق بالأمن فحسب. إنها أزمة فلسفية. فقد تم بناء المشروع الأوروبي استنادًا إلى فكرة مفادها أن الأعداء السابقين يمكن أن يتحولوا إلى أصدقاء من خلال الترابط الاقتصادي والقانوني والسياسي، في نهاية المطاف.
ومن الخارج، تبدو الحرب في أوكرانيا وكأنها تدخّل عسكري في القرن العشرين. لكن هذا الصراع لا يتكشف عبر ستار حديدي. إنه يشمل أطرافًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببعضها البعض، ويتم شنه ليس فقط من خلال الاستعانة بالطائرات والدبابات، ولكن أيضًا بالعقوبات وسلاسل التوريد والتدفقات المالية والأشخاص والمعلومات والأجزاء الرقمية.
إن هذا الترابط المُفرط يجعل السلام المُستقر أمرًا مُستحيلا. وسيتعين على أوروبا الاستعداد لمواجهة الاضطرابات والفوضى بشكل مُستمر، على الأقل ما دام بوتين في السلطة. وعند إعادة النظر في النظام الأوروبي، يتعين على صُناع السياسات التعامل مع أربع مجموعات من الأسئلة.
أولاً، أين ينبغي أن تكمن حدود أوروبا وحلف شمال الأطلسي؟ فمنذ عدة سنوات، عندما فكر الأوروبيون في الحدود، كان ذلك في سياق إزالتها داخليًا (أو تخفيفها للاعتراف بكوسوفو المستقلة). كانت الحدود الدقيقة للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي غامضة إلى حد ما. ولكن الآن سيتم إجراء نقاش كبير حول من يقع في الداخل ومن في الخارج.
ستؤدي بلورة هذه الفوارق إلى خلق غرب أصغر حجمًا ولكن أكثر تماسكًا. قد تنضم السويد وفنلندا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، ومع ذلك سيكون هناك قدر أقل من التسامح إزاء البلدان التي تحاول عبور السياج: سيتعين على هنغاريا وتركيا وصربيا اختيار أحد الجانبين. سيدور أيضًا نقاش كبير حول الدول التي ترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ولكنها تفتقر إلى المؤهلات اللازمة للعضوية: أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا ودول غرب البلقان. لقد بدأ بعض الدبلوماسيين الأوروبيين في الحديث عن أوروبا متعددة السرعات، حيث قد تحصل هذه البلدان على فرص محدودة للوصول إلى السوق الموحدة، أو اتحاد الطاقة، أو الصفقة الخضراء.
السؤال الثاني هو ما إذا كانت أوروبا مستعدة لنظام إقليمي قائم على توازن القوى وليس على القوانين والمؤسسات. لقد تم استبدال الرؤية القديمة لنظام مع روسيا بنظام ضد روسيا، وذلك في غياب المؤسسات أو الثقة المشتركة. ستتم ممارسة ضغوط كبيرة على بعض الدول لإعادة التسلح، وهي عملية بدأت بالفعل في ألمانيا والدنمارك. وسوف نشهد أيضًا مناقشة جديدة حول القواعد العسكرية والأسلحة النووية، وهو ما من شأنه أن يُحول انتباه أوروبا (وربما الموارد) بعيدًا عن المشاركة العالمية المتعددة الأطراف.
ثالثًا، هل تتمتع أوروبا بأساس سياسي لبناء المرونة الاقتصادية والمُجتمعية؟ وفي حروب التواصل - الصراعات بين القوى المترابطة - تكمن مفاتيح النجاح في الصبر والقدرة على تحمل الألم. ورغم التأييد الشعبي الهائل للعقوبات المفروضة على روسيا في الوقت الحالي، فإن هذا قد لا يدوم إذا استمرت أسعار النفط والغاز في الارتفاع، الأمر الذي يُعجل بحدوث ركود اقتصادي. بعد إنشاء صندوق انتعاش ضخم لمنع أزمة فيروس كوفيد 19 من تفكيك الاتحاد الأوروبي، تدرس المؤسسات الأوروبية الآن آليات تضامن جديدة لمساعدة المستهلكين على مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة وغيرها من التداعيات الناجمة عن العقوبات. سوف تعمل أوروبا بطريقة أو بأخرى على إعادة هيكلة أسواق الطاقة وسلاسل الإمداد والشؤون المالية لديها، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على مستوى العالم.
يتمثل السؤال المهم الأخير في ما إذا كانت أوروبا تُعد جزءًا من نظام إقليمي أم عالمي؟. قبل بضعة أسابيع فقط، كانت تُعد أوروبا بمثابة عرض جيوسياسي جانبي للمنافسة الحاسمة في القرن الحادي والعشرين: معركة السيطرة على المحيطين الهندي والهادئ. لكن عودة ظهور الحرب في القارة، والشراكة القوية بين الصين وروسيا، أعادا أوروبا و 'أوراسيا' إلى مركز الصدارة من جديد. وكما يجادل جيريمي شابيرو من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سيحتاج حلف شمال الأطلسي اليوم إلى إقامة روابط مع الديمقراطيات الآسيوية، وتنسيق السياسات، بل وحتى فرض المواقف في مختلف أنحاء أوروبا والمحيط الهادئ. فقد أشار العديد من المراقبين إلى أن بوتين يعيش في عالم مختلف، نظرًا لما يحمله من أوهام تاريخية ومخاوف من الحصار. لكن هذه الاستعارة تستبعد حقيقة أن أقدارنا متداخلة. لا يهم أي عالم (أو فترة زمنية) يعتقد بوتين أنه يعيش فيه. فما دام في الكرملين، فإن أوروبا ليست آمنة.
سوف يحتاج القادة الأوروبيون إلى التوفيق بين العالم الذي يريدون العيش فيه والعالم الذي فرضه عليهم بوتين. قد يزعم البعض أن التقدم نحو عالم قائم على القواعد وواع بيئيًا كان دائمًا وهميًا.
لكنني ما زلتُ أعتقد أن مشاركة السيادة بين الأوروبيين، وتطوير أنظمة تنظيمية فوق وطنية، والتعاون في مجال التكنولوجيا وحماية البيئة والصحة، يُمثل تقدمًا هائلا لحضارتنا. لقد أصبحت الجغرافيا السياسية في أوراسيا عبارة عن منافسة من أجل البقاء.
والسؤال الأساسي إذن هو كيف يتم الحفاظ على قيم السلام الدائم حسب مفهوم كانط داخل الاتحاد الأوروبي مع التصدي للتهديدات القادمة من الخارج؟
مارك ليونارد مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مؤلف كتاب 'عصر عدم السلام: كيف يتسبب الاتصال بالصراع'؟.
خدمة بروجيكت سنديكيت
ما هو أفضل وصف للرئيس فلاديمير بوتين؟ يُفضل المُستبدون في روسيا الجلوس بمفردهم عند نهاية طاولة بيضاء طويلة - مع إصدار الإنذارات النهائية، وشن الغزوات، والأمر باعتقال (أو اغتيال) خصومهم السياسيين. لقد قام بوتين ببناء نفوذه من خلال الحروب الدموية في الشيشان وجورجيا وسوريا وأوكرانيا. يعتمد وجوده على إنهاء وجود الآخرين. ومع ذلك، يُعد بوتين سببًا في إثارة غرائز البقاء الخاصة بالآخرين. فقط برز فولوديمير زيلينسكي المُمثل الأوكراني الذي تحول إلى رئيس باعتباره البطل الذي يُجسد النضال الوجودي لأمته. وقد أُعيد إحياء منظمة حلف شمال الأطلسي من 'الموت الدماغي' الزاحف.
وقد تحول الاتحاد الأوروبي فجأة من مشروع سلام يُركز على الداخل إلى مجتمع يتمتع بالسيادة والأمن. وكما أخبرني أحد كبار الدبلوماسيين الأوروبيين، 'إن روسيا أكبر وأقرب من أن يُسمح لها بالتصرف بهكذا حماقة باعتبارها بلدا متنمرا متحررا من جميع المعايير. فإما أن تعمل استجابتنا لهذه الحرب على وضع حد لها أو سينهار عالمنا'. إن الأزمة التي خلقها بوتين لأوروبا لا تتعلق بالأمن فحسب. إنها أزمة فلسفية. فقد تم بناء المشروع الأوروبي استنادًا إلى فكرة مفادها أن الأعداء السابقين يمكن أن يتحولوا إلى أصدقاء من خلال الترابط الاقتصادي والقانوني والسياسي، في نهاية المطاف.
ومن الخارج، تبدو الحرب في أوكرانيا وكأنها تدخّل عسكري في القرن العشرين. لكن هذا الصراع لا يتكشف عبر ستار حديدي. إنه يشمل أطرافًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببعضها البعض، ويتم شنه ليس فقط من خلال الاستعانة بالطائرات والدبابات، ولكن أيضًا بالعقوبات وسلاسل التوريد والتدفقات المالية والأشخاص والمعلومات والأجزاء الرقمية.
إن هذا الترابط المُفرط يجعل السلام المُستقر أمرًا مُستحيلا. وسيتعين على أوروبا الاستعداد لمواجهة الاضطرابات والفوضى بشكل مُستمر، على الأقل ما دام بوتين في السلطة. وعند إعادة النظر في النظام الأوروبي، يتعين على صُناع السياسات التعامل مع أربع مجموعات من الأسئلة.
أولاً، أين ينبغي أن تكمن حدود أوروبا وحلف شمال الأطلسي؟ فمنذ عدة سنوات، عندما فكر الأوروبيون في الحدود، كان ذلك في سياق إزالتها داخليًا (أو تخفيفها للاعتراف بكوسوفو المستقلة). كانت الحدود الدقيقة للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي غامضة إلى حد ما. ولكن الآن سيتم إجراء نقاش كبير حول من يقع في الداخل ومن في الخارج.
ستؤدي بلورة هذه الفوارق إلى خلق غرب أصغر حجمًا ولكن أكثر تماسكًا. قد تنضم السويد وفنلندا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، ومع ذلك سيكون هناك قدر أقل من التسامح إزاء البلدان التي تحاول عبور السياج: سيتعين على هنغاريا وتركيا وصربيا اختيار أحد الجانبين. سيدور أيضًا نقاش كبير حول الدول التي ترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ولكنها تفتقر إلى المؤهلات اللازمة للعضوية: أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا ودول غرب البلقان. لقد بدأ بعض الدبلوماسيين الأوروبيين في الحديث عن أوروبا متعددة السرعات، حيث قد تحصل هذه البلدان على فرص محدودة للوصول إلى السوق الموحدة، أو اتحاد الطاقة، أو الصفقة الخضراء.
السؤال الثاني هو ما إذا كانت أوروبا مستعدة لنظام إقليمي قائم على توازن القوى وليس على القوانين والمؤسسات. لقد تم استبدال الرؤية القديمة لنظام مع روسيا بنظام ضد روسيا، وذلك في غياب المؤسسات أو الثقة المشتركة. ستتم ممارسة ضغوط كبيرة على بعض الدول لإعادة التسلح، وهي عملية بدأت بالفعل في ألمانيا والدنمارك. وسوف نشهد أيضًا مناقشة جديدة حول القواعد العسكرية والأسلحة النووية، وهو ما من شأنه أن يُحول انتباه أوروبا (وربما الموارد) بعيدًا عن المشاركة العالمية المتعددة الأطراف.
ثالثًا، هل تتمتع أوروبا بأساس سياسي لبناء المرونة الاقتصادية والمُجتمعية؟ وفي حروب التواصل - الصراعات بين القوى المترابطة - تكمن مفاتيح النجاح في الصبر والقدرة على تحمل الألم. ورغم التأييد الشعبي الهائل للعقوبات المفروضة على روسيا في الوقت الحالي، فإن هذا قد لا يدوم إذا استمرت أسعار النفط والغاز في الارتفاع، الأمر الذي يُعجل بحدوث ركود اقتصادي. بعد إنشاء صندوق انتعاش ضخم لمنع أزمة فيروس كوفيد 19 من تفكيك الاتحاد الأوروبي، تدرس المؤسسات الأوروبية الآن آليات تضامن جديدة لمساعدة المستهلكين على مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة وغيرها من التداعيات الناجمة عن العقوبات. سوف تعمل أوروبا بطريقة أو بأخرى على إعادة هيكلة أسواق الطاقة وسلاسل الإمداد والشؤون المالية لديها، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على مستوى العالم.
يتمثل السؤال المهم الأخير في ما إذا كانت أوروبا تُعد جزءًا من نظام إقليمي أم عالمي؟. قبل بضعة أسابيع فقط، كانت تُعد أوروبا بمثابة عرض جيوسياسي جانبي للمنافسة الحاسمة في القرن الحادي والعشرين: معركة السيطرة على المحيطين الهندي والهادئ. لكن عودة ظهور الحرب في القارة، والشراكة القوية بين الصين وروسيا، أعادا أوروبا و 'أوراسيا' إلى مركز الصدارة من جديد. وكما يجادل جيريمي شابيرو من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سيحتاج حلف شمال الأطلسي اليوم إلى إقامة روابط مع الديمقراطيات الآسيوية، وتنسيق السياسات، بل وحتى فرض المواقف في مختلف أنحاء أوروبا والمحيط الهادئ. فقد أشار العديد من المراقبين إلى أن بوتين يعيش في عالم مختلف، نظرًا لما يحمله من أوهام تاريخية ومخاوف من الحصار. لكن هذه الاستعارة تستبعد حقيقة أن أقدارنا متداخلة. لا يهم أي عالم (أو فترة زمنية) يعتقد بوتين أنه يعيش فيه. فما دام في الكرملين، فإن أوروبا ليست آمنة.
سوف يحتاج القادة الأوروبيون إلى التوفيق بين العالم الذي يريدون العيش فيه والعالم الذي فرضه عليهم بوتين. قد يزعم البعض أن التقدم نحو عالم قائم على القواعد وواع بيئيًا كان دائمًا وهميًا.
لكنني ما زلتُ أعتقد أن مشاركة السيادة بين الأوروبيين، وتطوير أنظمة تنظيمية فوق وطنية، والتعاون في مجال التكنولوجيا وحماية البيئة والصحة، يُمثل تقدمًا هائلا لحضارتنا. لقد أصبحت الجغرافيا السياسية في أوراسيا عبارة عن منافسة من أجل البقاء.
والسؤال الأساسي إذن هو كيف يتم الحفاظ على قيم السلام الدائم حسب مفهوم كانط داخل الاتحاد الأوروبي مع التصدي للتهديدات القادمة من الخارج؟
مارك ليونارد مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مؤلف كتاب 'عصر عدم السلام: كيف يتسبب الاتصال بالصراع'؟.
خدمة بروجيكت سنديكيت