أفكار وآراء

الحرب الروسية الأوكرانية.. وتحولات الذهنية العالمية

بغض النظر عمّا يجري بين روسيا وأوكرانيا من غزو الأولى للثانية، والحرب المستعرة بينهما، والتي لا تزال في بدايتها، ولا نعلم التطورات التي ستصل إليها، فإن قراءة المشهد خارج هذا الإطار؛ يرينا أن البلدين لهما مكوّن حضاري واجتماعي وجغرافي واحد، ومهما بدا من شرخ الانفصال بينهما؛ فقد ظلا على تمازج مستمر بين سكانهما، وهما في الأصل شعب واحد، ولغة واحدة ذات لهجتين؛ مشتركاتهما تزيد على 70%، وبدأت اللهجة الأوكرانية تتطور باتجاه لغة مستقلة خلال الثلاثين سنة الأخيرة في ظل النزعة الليبرالية للاستقلال عن روسيا. هناك روس كُثر أصبحوا أوكرانيين، وأوكرانيون روساً؛ منهم الفيلسوف الروسي ألكسندر دوجين، الذي يتبنى الرئيس بوتين مقولاته الجيوسياسية؛ الداعية إلى القضاء على النظريات الغربية الاستعمارية؛ وهي: الاشتراكية والقومية والليبرالية، وتبني نظرية رابعة قائمة على المكونات الحضارية لشعوب الأوراس. فإذاً.. المشتركات أقوى من السماح لأوكرانيا بأن تولي وجهها شطر الغرب مدبرة عن روسيا. فما نراه من حرب ضروس بينهما كان يمكن تجنب ويلاته، لولا أن المعركة أكبر من كونها نزاعاً بين بلد قوي؛ عرف عنه سلوكه التوسعي، وبلد يتلمّس استقلاله، فالمعركة.. صدام بين حضارتين: الروسية الأوراسية والغربية الليبرالية.

إن أوكرانيا ليست سبب المعركة، وإنما هي أرضها فقط. فلو كانت هي المشكلة؛ لكان الأجدى لروسيا أن تبقى أوكرانيا مستقلة، مع استغلال نفوذها فيها، وبإمكانها أن تحقق بذلك كل ما تريد من مصالح. وإنما هي الحرب مع الغرب، خاصةً.. أمريكا؛ التي أدركت الصعود الروسي المناهض لليبرالية الغربية، فصممت على مواجهته.

المقال.. يحاول أن يقرأ التغيرات الحاصلة في الذهنية العالمية من جرّاء قيام هذه الحرب؛ التي ابتدأت ولا نعلم أين منتهاها، وأستطيع القول بأن أركان النزاع بأنفسهم لا يعرفون ذلك على وجه التحديد، فضلاً عن المحللين السياسيين، الذين نقرأ لهم كل يوم رأياً مختلفاً عمّا سبقه، بسبب التطور المتسارع للحرب.

«الذهنية العالمية».. هي المعتقدات الفكرية التي تسود العالم عموماً، الناتجة عن النظرية السياسية المهيمنة عليه. فالآن.. الليبرالية الغربية؛ بجناحيها الرأسمالي والديمقراطي هي المشكِّلة للذهنية العالمية، لقد صيغت لتبدو كأنها الحقيقة المطلقة، بل هناك من نظّر بأنها «نهاية التاريخ» كفرنسيس فوكوياما. وعندما نعود لمنتصف القرن الماضي؛ نجد بحسبما يقرر دوجين؛ وهو يؤسس لنظريته الجديدة التي ترتكز عليها روسيا، أن العالم كان واقعاً تحت تأثير ثلاث نظريات؛ هي: الاشتراكية الماركسية، والقومية العنصرية كالنازية والفاشية، والليبرالية الغربية، وقد انتهى المطاف بانتصار الأخيرة، والتي لابد من أزاحتها هي الأخرى من السياسة العالمية.

أولى التحولات التي بدأنا نقرأها هي تعددية الأقطاب السياسية، يَرُوج الآن.. بأن أمريكا لن تكون القطب الأوحد في ملعب الكرة الأرضية، فروسيا.. تستعمل نفس الأسلوب العسكري الغربي في فرض هيمنتها. والصين.. رغم أنها لم تدخل بعد حلبة القتال، إلا أنها تقدم نفسها قطباً ثالثاً في الساحة الدولية؛ أيضاً باستعمال الرأسمالية؛ الأداة الغربية الأقوى. ومع ذلك.. فروسيا والصين لا تقتصران على هذه الأدوات في تحقيق السبق العالمي، فلديهما أدوات عديدة؛ أعلاها ذروةً الثقافة؛ التي تعملان على نشرها عالمياً. وعلى كل الأحوال.. فإن مخاض هذه التحولات سيصيب البشرية بكثير من الآلام والكوارث.

إن الحرب الروسية الأوكرانية بغض النظر عن نتيجتها على أرض المعركة؛ هي نقطة تحول نحو التعددية، وبروز أنماط أخرى من الذهنية العالمية، والتي بدأ بوتين يبشر بأنها متجاوزة للقيم الليبرالية؛ كرفض الحرية الفردية غير المقيدة، التي أدت إلى تشريع قيم لا أخلاقية كالمثلية الجنسية والإجهاض، كما أعطت الصينُ مثالاً قوياً بأن النهضة الاقتصادية لا يشترط لتحققها «نظام السوق الحر».

من أخطر التحولات التي بدأنا نراها في الذهنية العالمية؛ الحديث عن الحرب العالمية الثالثة واستعمال الأسلحة النووية في حسم المعركة، ويبدو أن الغرب قد أخذ التهديد الروسي بمحمل الجد، فالعالم جرّب الحربين العالميتين والقنابل الذرية، وفي معركة كسر العظم؛ كل الأطراف قد تستعمل أسلحة الدمار الشامل. كما فتحت الحرب الخيال واسعاً بحصول فتك أسود في الكائنات الحية باستعمال الأسلحة البيولوجية. إن معتقدات هذه الذهنية قد لا تقف عند التصور العقلي؛ بل يمكن أن تطبقها جماعات العنف والدول الإرهابية. إن ما ستنتجه الحرب من ثقافة العنف فيما لو تطورت؛ يحتاج إلى مدة طويلة لعلاجه.

من التحولات المتوقعة في الذهنية العالمية؛ أن يقوم الصراع بين المذاهب المسيحية، وقد يبدأ بجدل أخلاقي محتدم، ويتطور مع تداعيات الأوضاع إلى اقتتال، وهذا يعد تحولاً مذهلاً، حيث يُظَن بأن العلمانية قد قضت على التعصب المذهبي في الغرب. واحتمال هذا الصراع ليس ببعيد؛ فالروس يتحدثون عن روسيا أرثوذكسية في مواجهة الغرب. لقد تابع الناس استعمال بوتين اللغة الدينية، وهو يصف قتلاه بأنهم في الجنة وقتلا خصومه في النار. وفي حمأة التعصب الملتهب؛ لا يُستبعد أن يحصل «تطهير» عرقي وديني، ألم يفعل ذلك هتلر مع اليهود والماركسيين؟! والصراع المذهبي لن يقتصر على الغرب، فهناك توقع بأن ترتفع وتيرته بين المسلمين، في حالة من التعصب قائمة على ساقها منذ نصف قرن، بالإضافة للمحرضات التراثية الكامنة في الثقافة الإسلامية، فضلاً عن احتمال انفجار التعصب بين الهندوس والمسلمين في الهند، وحتى البوذية لن تسلم منه. إن هذه المؤشرات في الذهنية العالمية ينبغي ألا يُغفَل عن دراستها وتتبع نموها. وعلى مدى التأريخ؛ فإن المعتقدات الدينية هي أخطر الأدوات التي يستعملها السياسي في برمجة أذهان البشر لصالحه وضد خصومه. ومن العجيب.. إن الورقة الدينية لا تحترق بتكرار إشعالها، وما ذلك إلا لرسوخ الدين في النفوس.

وربما ذلك يؤدي إلى تغيّر في خارطة المنطقة بشأن الوجود الإسرائيلي في فلسطين، ولا يمكن تقدير العنف الذي سيقع من هذا التغيّر. والتحوّل بشأن القضية الفلسطينية بدأ فعلاً على مستوى العالم، فهناك تزايد مستمر يدين الكيان الإسرائيلي، ولا يُستبعَد وجود قوة وراءه، لأجل التمهيد لتعددية الأقطاب التي ستنتج بعد الحرب الروسية الأوكرانية.

صناعة الذهنية العالمية.. كانت خاضعة للسلطات السياسية وبرامجها الإعلامية، والناس متلقين فحسب، أما بعد ثورة التقنية؛ وامتلاك كل إنسان آلته الإعلامية؛ فلم تعد حكراً على جهات بعينها، وهذا عقّد المشكلة، ويستلزم كذلك معالجة معقدة، فالتقنية.. بقدر ما أتاحت لمبرمجي الذهنية الفرصة لنشر أيديولوجيتهم في العالم بسرعة مذهلة؛ خلطت الأوراق، فهناك أعداد لا تحصى من البشر بمختلف مشاربهم يكافحون هذه الأيديولوجيا، أو ينتصرون لها. ولو نظرنا إلى حلبة الصراع بين الغرب الليبرالي وروسيا الأوراسية؛ المندفعة إلى ضم بعض دول الأوراس تحت إبطها، سنجد حرباً حامية الوطيس عبر وسائل الإعلام الحديثة، كل طرف يدفع بعقيدته الخلاصية نحو عالم البشر، وبمختلف اللغات، الغرب.. الذي يعتبر ليبراليته مسيح اليوم الأخير، والروس.. الصاعدون نحو الهيمنة العالمية على رافعة فلسفية ذات بُعد عقدي، والذين يبذلون قصارى جهودهم لإسقاط النظرية الليبرالية؛ لاسيما.. ركنها الركين الديمقراطية، وهذا واضح في الإعلام الروسي، وهو يبشر بحلول روح القيصر في جسد بوتين، ويؤسس لبقائه حتى عام 2036م. إن هذه العقيدة الروسية ليست من قبيل ما في الجمهوريات العربية من تمسك الرئيس بكرسي السلطة بسوط الاستبداد، وإنما هناك رؤية ثقافية تمهد لها، وبُنْية قانونية تشرّعها، وآلة إعلامية هائلة تنشرها. لقد بدأت هذه العقيدة تخرج من محيطها الروسي متجهة صوب تركيا، فذات الشيء يفعله أردوغان.

هذه قراءة مبكرة للتحولات في الذهنية العالمية، ولفهم تطورات الواقع ينبغي إدراك تصاعدها، ورصد أحداثها تفاعلاتها، والعمل على تحليلها.

* خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب 'السياسة بالدين'