أعمدة

معظمُ النار من مستصغر الشرر

 
وقفت مشدوها وأنا أعيد قراءة ما جاء في منشور لإحدى الفتيات على منصة «تويتر» كُتب بلغة صفيقة وجرأة غير معتادة حول علاقتها بالصديقة المقربة التي يبدو أنها تصرمت بسبب أن شابا طلب منها أن تحظرها في كافة حساباتها.

ولأن موضوع التغريدة الغريب بدا محرّضا على خروج تعليقات متباينة لم أشك لحظة أنها ستأتي بين المُستهجِنة والمستهزِئة واللائمة قررت قراءتها جميعا لسببين أولهما معرفة الرسالة التي يُراد إيصالها والسبب الثاني يتعلق بالمستوى الثقافي والفكري لمن تستهويهم مثل هذه النوعية من الطروحات التي خرجت بصورة كاملة عن كل محددات وأخلاقيات الكتابة.

وإذا كان تبرير الكثيرين ممن لا يرون أي غضاضة في طرح موضوعات لم تعُد في دائرة المسكوت عنه في عالم الإعلام الجديد فإن ما لا يمكن تبريره استخدام أساليب بالغة الإسفاف والابتذال وطرحها ليس بهدف مناقشة علمية وموضوعية وإنما استثارة للغرائز وبعث رسائل خالية من المضمون تدفع باتجاه استنزاف الوقت والطاقات فيما لا جدوى من ورائه.

وقد يقول قائل: إنه ليس من الواقعية ونحن في عام 2022 أن نقوم بوضع شُرطي أمام البوابة دوره انتقاء الأفكار وغربلة تصورات الشباب مهما كان نوعيتها ووضعها في قفص الاتهام لأنها «لا تروق لنا» ولا تتوافق وتفكيرنا الكلاسيكي لكن الصحيح أيضا أن هذه المساحات المُتاحة بلا أي قيود يجب أن يُستفاد منها بما يمكن أن يساهم في حل كثير من قضايا هؤلاء الشباب المُلحة التي هي بحاجة لحلول ومخارج.

لقد كنت على يقين وأنا أقرأ ذلك المنشور المسيء والصادم أن هناك مشكلة حقيقية لا نعرفها كأولياء أمور ومربين وتربويين وقادة رأي أو أننا نغض الطرف عنها ولا نريد التعرف عليها والاقتراب منها لأسباب متعددة جميعها غير مبررة.

يدّعي الوالد أنه قريب من ابنه ويعي ما يدور في ذهنه بما فيه الكفاية والوالدة من جانبها تعتقد أنها تعرف ابنتها حق المعرفة وتقرأ ما يدور في ذهنها قراءة صحيحة لكن الحقيقة هي غير ذلك فالجميع منشغل بنفسه ولكل واحد اهتماماته التي تسرقه من ابنه أو ابنته بل لا يكلف أيا منهم نفسه عناء الجلوس إليهم والحديث المفتوح وغير المتحفظ معهم حول ما يفكرون به وما يخص علاقاتهم بأصدقائهم والمجتمع وأي علاقات أخرى هم بحاجة إلى من يرشدهم إلى طرق التعامل الصحيح معها وتوظيفها التوظيف الأمثل.

لا يصحو الوالد أو الوالدة من سُباته العميق إلا بعد أن تحدث الكارثة ويتورط ابنهم أو ابنتهم في مشكلة يجدون أنفسهم إزاءها مصدومين وغير قادرين على فهمها واستيعابها لكنّ هذا لا يعني أنه يجب أن يكونوا على دراية بالتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي أو يفرضوا عليهم الرقابة الصارمة إنما بتحصينهم من الداخل الذي يبدأ باعتبارهم أصدقاء يمكن مناقشتهم في شؤون حياتهم مناقشة شفافة وصريحة هدفها الاحتواء والتبصير بشؤون الدين والحياة والتعامل مع المواقف المختلفة بعقلانية.

ليس لدي أدنى شك في أن الكثير من المشاكل التي يعتبر البعض أن أسبابها تعود إلى ظهور تيارات منظمة هدفها ضرب قيم الدين والأخلاق والمجتمع إنما هي بسبب البَون الشاسع بين هؤلاء الشباب والمسؤولين عن تربيتهم وانعدام الحوار الحر والحقيقي حول همومهم والتعامل معهم بعقلية الماضي التي تجعل من الحياء حاجزا عظيما يقف دون طرق الكثير من الأبواب خاصة تلك التي تتعلق بالأمور الشخصية الخاصة.

لا يجب أن نقلل من شأن أي إشكال صغير ولا أن نُقزم من أثر أي توجه ما أو نستبعد ما قد تخلفه فكرة لا تروق لنا لأن «معظم النار من مستصغر الشرر».