أفكار وآراء

الأوليغارشيا وجماعات الضغط

يكثر الحديث هذه الأيام عن «الأوليغارشيا» الروسية ومدى تأثيرها على اتخاذ القرار في روسيا وسيطرتها على الاقتصاد وصنع القرار هناك، وكذلك عن محاذير توسع مصالحها وممتلكاتها في كثير من بلدان العالم. وكما هي العادة في ظروف النزاعات والحروب، يلجأ كل طرف من الأطراف المشتركة فيها أو الداعمة لها إلى شيطنة الطرف الآخر، ويصحب ذلك إخفاء كل طرف ما لديه من عيوب متناسيا أو متجاهلا للواقع. ومن ذلك ما نسمعه من صخب يتعالى هذه الأيام في الإعلام الغربي والإعلام المتساوق معه أو المنساق وراءه حول الأوليغارشيا الروسية، التي لا شك أنها قوية ومؤثرة في روسيا ولها وجود ومصالح كبيرة في عدد من الدول، لا سيما بريطانيا التي تعتبر أهم مراكز استقطاب رؤوس أموال واستثمارات كبار أصحاب الأعمال الروس.

لكن الواقع هو أن الأوليغارشيا الروسية هي جماعة أو مجموعة من أصحاب المصالح لا تختلف كثيرا عن غيرها من الجماعات المؤثرة في السياسات الداخلية والخارجية لأكثر دول العالم، ومنها جماعات الضغط الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية.

قبل الدخول في تفاصيل الموضوع، سنعرج بصورة مختصرة على المقصود بكلمة «أوليغارش» oligarch، وكلمة لوبي lobby التي جاء منها مصطلح جماعة الضغط. تعرف الموسوعة البريطانية الأوليغارشية oligarchy بأنها حكم الأقلية، أو بأنها القوة المتسلطة التي تمارس التسلط من خلال مجموعة صغيرة من أصحاب الامتيازات بطرق فاسدة ومن أجل تحقيق مصالح أنانية. أما جماعة الضغط pressure group التي يطلق عليها أيضا جماعة المصالح interests group، فهي ببساطة تعني مجموعة من الناس يجتمعون في مكان لمناقشة موضوع معين وتعرف اختصارا باللوبي lobby. وكلمة لوبي في معناها اللغوي الحرفي تعني ردهة أو بهو أو صالة في فندق أو مبنى معين. وقد عرفتها الموسوعة البريطانية كذلك بأنها أيّ جمعية أو منظمة تعمل على تكييف أو توجيه السياسات العامة للدولة لتحقيق مصالح خاصة لها، وأنها قد تكون جمعية علنية أو سرية، وهي تضم أفرادا بينهم مصالح أو لهم اهتمامات مشتركة. وتتخذ أكثر جماعات الضغط من الإعلام والصحافة أداة لممارسة نشاطاتها والترويج لها.

أصبح مصطلح «الأوليغارشيا» الروسية يستخدم للإشارة إلى كبار الأثرياء الروس الذين برزوا في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٩١. وتتجاوز ثروات بعض هؤلاء الأثرياء ما يعادل مليارات الدولارات، موزعة داخل روسيا وأوروبا وأمريكا وعدد من البلدان أخرى حول العالم، وذلك في صورة شركات نفط ومصارف وصحف ووسائل إعلام ومنتجعات سياحية ويخوت وأندية رياضية..إلخ. وتعود أسباب بروز هذه الطبقة المتنفذة من الأثرياء الروس إلى الخصخصة الواسعة النطاق للأنشطة والمؤسسات الاقتصادية التي تمت في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن، وذلك في إطار تحول روسيا من الاقتصاد الاشتراكي المركزي الذي تمتلك فيه الدولة المشاريع الكبرى ووسائل الانتاج إلى اقتصاد رأسمالي قائم على الملكية الخاصة. وأثناء عملية التخصيص تلك تمكن بعض المتنفذين هناك من الحصول على حصص كبيرة في الشركات المخصصة أو الاستحواذ على بعضها بالكامل. وفي تلك الأثناء وخلال السنوات التالية لانهيار الاتحاد السوفييتي تمكن أولئك الأثرياء من تطويع السياسات الاقتصادية للدولة من أجل خدمة مصالحهم، وذلك من خلال علاقات نسجوها مع كبار المسؤولين في الدولة. وبعد أن خلف الرئيس الحالي فلاديمير بوتين الرئيس السابق يلتسن في رئاسة روسيا عمد إلى كبح جماح الأوليغارشيا، لكن بعضهم آثروا مساندة سياسات بوتين، ولذلك ظلوا محتفظين بنفوذ كبير في روسيا. أما الذين عارضوا سياساته فقد فروا إلى خارج روسيا، وفضلوا العيش في بلدان أخرى، ومن أشهرهم المصرفي بوريس بيريزوفسكي، وكذلك ميخائيل غودوركوفسكي، الذي يعتقد أنه أغنى رجل في روسيا ويعيش حاليا في لندن. وقد أدت الحرب الدائرة حاليا في أكرانيا إلى قيام الدول الغربية بفرض عقوبات قاسية لم تقتصر على مؤسسات الدولة الروسية ولكنها شملت أيضاً شركات ومواطنين روس، ومنهم عدد كبير من الأثرياء وأصحاب الأعمال، الذين اعتبرتهم بعض الدول الغربية من ضمن طبقة الأوليغارشيا الموالية للرئيس بوتين. ولا زالت تداعيات فرض العقوبات الغربية على روسيا تتطور، الأمر الذي يعني أن آثارها السلبية ستشمل الاقتصاد العالمي كله، وليس روسيا والدول الغربية فقط.

أما جماعات الضغط، أو جماعات المصالح أو اللوبي فهي قد تختلف في ظروف نشأتها عن ظروف نشأة الأوليغارشيا، إلا إنهما تمارسان أدوارًا متشابهة من حيث التأثير على السياسات العامة للدولة وتوجيه تلك السياسات لخدمة مصالحها. ويظهر دور جماعة الضغط أبرز ما يكون في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يرى بعض الباحثين والخبراء أنها متجذرة في المؤسسات الدستورية في أمريكا وتشكل جزءا من آلية عمل النظام السياسي، حيث تلعب دورا واضحاً في توجيه السياسات العامة هناك، لاسيما من خلال السلطة التشريعية وهي الكونغرس. وتعمل جماعات الضغط في أمريكا من خلال عدة طرق منها القانوني، ومنها ما يكون بالالتفاف على القوانين أو التلاعب بها أو عن طريق تبادل المصالح مع الأطراف الأخرى. ومن أشهر أو أكثر جماعات الضغط تأثيرا على السياسات العامة في أمريكا، لوبي التبغ Tobacco Lobby، ولوبي حملة البنادق أي الجمعية الوطنية للبنادق Rifles and Gomes Association، واللوبي الصهيوني الذي يطلق عليه رسميا اسم لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (ايباك) هذا إلى جانب جماعات ضغط أخرى كثيرة، مثل جمعية الإنترنت والتلفزيون، وجمعية بحوث وصناعة الأدوية، والطاولة المستديرة لأصحاب الأعمال وغيرها من الجمعيات والمنظمات المشابهة.

وعن مدى تأثير تلك الجماعات فإنه لا يخفى على أحد من المتابعين الدور الذي يلعبه اللوبي الصهيوني في توجيه السياسية الأمريكية تجاه العالم العربي. وقد تمكن هذا اللوبي من جعل مصالح إسرائيل الجوهر والمركز في السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك على حساب الحقوق العربية في فلسطين، بل وعلى حساب مصالح كل الدول في المنطقة، إلى درجة أنها أضرت في كثير من الأحيان بمصالح أمريكا في العالم العربي. ومن جماعات الضغط القوية الأخرى في أمريكا، الجمعية الوطنية للبنادق، وهي جمعية مؤثرة جدا وتعتبر امتلاك الأسلحة النارية حقا مقدساً للمواطنين الأمريكيين. وقد أدى نفوذها وتأثيرها في الحد من التشريعات المتعلقة بامتلاك وحمل البنادق إلى انتشار حمل الأسلحة الفردية بصورة مرعبة في أمريكا، وأصبح القتل في الشوارع والمدارس والأماكن العامة أمراً يومياً وعادياً في أمريكا. أما في المجال الاقتصادي فيوجد عدد من جماعات الضغط القوية التي تعمل على توجيه السياسات العامة، لاسيما في مجالات التمويل والضرائب والحد من الاحتكار. وقد نتج عن وجود تلك الجماعات وتزايد نفوذها اتساع الفجوة في الدخول والثروات بين المواطنين الأمريكيين. ومن الجدير بالإشارة إليه هنا أن اتساع فجوة الدخول والثروات مشكلة تعاني منها كل الدول تقريبا. وقد تعالت دعوات عدد من المفكرين حول العالم، خاصة في السنوات الأخيرة، محذرين من خطورة ذلك على الاقتصاد وعلى السلم الاجتماعي. ومن المفكرين الأمريكيين الذين يحذرون من خطر تزايد الفوارق في الدخول، جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، حيث حذر من ذلك في عدد من كتاباته، ومنها كتابه PEOPLE,POWER,and PROFITD الذي أورد في جانب منه دور جماعات الضغط و«الساعين إلى الربح» rent seekers في توجيه السياسات الاقتصادية وسياسات التمويل والضرائب في أمريكا، ودعا إلى إعادة النظر في صياغة وتوجيه السياسات الاقتصادية من أجل قيام ما سماه «رأسمالية تقدمية progressive capitalism» أو «رأسمالية مسؤولة» responsible capitalism وقال ستيغليتز إن أمريكا بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، أي إلى توازن بين دور الحكومة، والأسواق، والمجتمع المدني.

مما سبق يتضح أن جماعات الضغط موجودة في كثير من دول العالم، سواء كانت أوليغارشيا oligarchy في روسيا أو لوبيات lobbies في أمريكا، لكن البعض يعمل على تزيين هذه وتقبيح تلك من خلال حملات دعائية محمومة أو مسعورة، مع أن أكثر تلك الجماعات متشابهة سواء في الهدف أو في النتيجة.

عبدالملك الهِنائي كاتب متخصص في القضايا الاقتصادية وقضايا التنمية