لا مخرج ملائم لبوتين.. وهذا مفزع
الأربعاء / 5 / شعبان / 1443 هـ - 20:28 - الأربعاء 9 مارس 2022 20:28
ترجمة أحمد شافعي
من كان يرجو أن يكون الاضطراب الذي ألحقته حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا بالأسواق العالمية والأوضاع الجيوسياسية قد بلغ ذروته، فقد خاب رجاؤه. لأننا لم نر شيئا بعد. وانتظروا إلى أن يستوعب بوتين تماما أن الخيارات الوحيدة المتبقية له في أوكرانيا هي أن يختار طريقته في الخسارة ـ فإما الخسارة القريبة والصغيرة وقليلة المذلة أو المتأخرة والضخمة وعميقة المذلة.
بل إن عقلي غير قادر على استيعاب شكل الصدمات المالية والسياسية التي ستشع من روسيا ـ ثالث أضخم منتج للنفط في العالم ومالكة أكثر من ستة آلاف رأس نووي ـ حينما تخسر حربا اختيارية أطلقها رجل واحد لا يملك أن يعترف بالهزيمة.
لم لا؟ لأن بوتين يعلم ولا شك أن «التراث الوطني الروسي لا يغفر الانتكاسات العسكرية» حسبما قال ليون هارون خبير الشؤون الروسية في معهد أمريكان إنتربرايز والذي يقوم بتأليف كتاب عن طريق بوتين إلى أوكرانيا.
أضاف هارون في ما كتب بواشنطن بوست أن «كل هزيمة كبيرة تقريبا أدت إلى تغيير جذري. فحرب القرم (1853-1856) عجلت بالثورة الليبرالية التي قام بها الإمبراطور ألكسندر الثاني من أعلى. والحرب الروسية اليابانية (1904-1905) أفضت إلى الثورة الروسية الأولى. وكارثة الحرب العالمية الأولى أدت إلى تنازل الإمبراطور نيكولاس الثاني عن العرش والثورة البلشفية. وحرب أفغانستان صارت عاملا أساسيا في إصلاحات الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف». كما أسهم الانسحاب من كوبا إسهاما كبيرا في إقصاء نيكيتا خروشوف بعد سنتين.
ولسوف يتضح أكثر فأكثر خلال الأسابيع القادمة أن أكبر مشكلاتنا مع وجود بوتين في أوكرانيا أنه سوف يرفض الخسارة القريبة الصغيرة، وسيكون النتاج الوحيد هو الخسارة الضخمة المتأخرة. لكن لأن هذه الحرب حربه وحده التي لا يستطيع الاعتراف بالهزيمة فيها، فقد يظل يضاعف جهوده في أوكرانيا إلى أن ... إلى أن يفكر في استعمال سلاح نووي.
لماذا أقول إن الهزيمة في أوكرانيا هي خيار بوتين الوحيد، وإن المسألة لا تتعلق إلا بالتوقيت والحجم؟ لأن الغزو اليسير الرخيص الذي تصوره وحفلة الترحيب التي تخيَّلها أن يستقبله بها الأوكرانيون ما كانا إلا وهمين تامين، وكل ما تلاهما نابع منهما.
لقد استهان بوتين تماما بإرادة أوكرانيا أن تكون مستقلة وتصبح جزءا من الغرب. واستهان تماما بإرادة كثير من الأوكرانيين في القتال، وإن كان معناه هو الموت، من أجل ذينك الهدفين. وغالى كثيرا في تقدير قواته المسلحة. واستهان تماما بقدرة بايدن على شحن اقتصاد عالمي وتحالف عسكري بما يمكِّن الأوكرانيين من القتال وتدمير روسيا محليا، وهو ما يمثل أفضل جهود أمريكا فعالية في بناء التحالفات منذ ما فعله جورج بوش الأب وجعل به صدام حسين يدفع ثمن حماقة استيلائه على الكويت. واستهان تماما بقدرة الشركات والأفراد في شتى أرجاء العالم على المشاركة في العقوبات الاقتصادية على روسيا وتعظيمها حتى تجاوزت أي شيء بدأته الحكومات أو فوضت فيه.
وعندما يخطئ زعيم في تقدير كل تلك الأمور، يبقى أفضل خياراته هو أن يخسر خسارة قريبة وصغيرة. وفي حالة بوتين سيعني ذلك سحب قواته من أوكرانيا فورا، ويختفي وراء كذبة تحفظ ماء وجهه ويبرر بها «العملية العسكرية الخاصة» كأن يزعم أنها نجحت في حماية الروس المقيمين في أوكرانيا ويعد بمساعدة أخوة الروس في إعادة البناء. أما المذلة التي لا مفر مها فمن المؤكد أنها غير مقبولة من رجل كهذا تسيطر عليه الرغبة في استرداد كرامة ووحدة الوطن الروسي كما يراه.
وبالمناسبة، الطريقة التي تجري بها الأمور على الأرض في أوكرانيا في الوقت الراهن، لا تجعل من المستحيل أن يخسر بوتين أيضا خسارة ضخمة وقريبة. لن أراهن على هذا، لكن مع كل يوم يمر، ومع مصرع المزيد والمزيد من الجنود الروس في أوكرانيا، من يدري ما الذي يحدث للروح القتالية لدى المجندين في الجيش الروسي عند مطالبتهم بخوض حرب قاتلة ضد أخوة سلافيين من أجل سبب لم يوضحه أحد لهم أصلا.
نظرا لمقاومة الأوكرانيين في كل مكان للاحتلال الروسي، لكي «ينتصر» بوتين عسكريا على الأرض سوف يتحتم على جيشه إخضاع كل مدينة كبيرة في أوكرانيا. ويتضمن ذلك العاصمة كييف ـ بعد أسابيع على الأرجح من الحرب المدينية والخسائر الهائلة في المدنيين. أي أن ذلك، باختصار، لا يمكن أن يتم ما لم يقم بوتين وجنرالاته بارتكاب جرائم حرب غير مشهودة في أوروبا منذ هتلر. وذلك سوف يجعل روسيا بلدا منبوذا على المستوى العالمي على الدوام.
فضلا عن أنه كيف لبوتين أن يحتفظ بسيطرته على بلد آخر ـ هو أوكرانيا ـ يقطنه ثلث سكان روسيا تقريبا، وكثير من أهله يعادون موسكو؟ سيحتاج على الأرجح إلى إبقاء جميع أفراد قواته البالغ عددهم مائة وخمسين ألفا منتشرين هناك، إن لم يحتج إلى المزيد، وإلى الأبد.
ليس هناك ببساطة مخرج أراه لبوتين للانتصار في أوكرانيا على أي نحو قابل للاستمرار، لأن أوكرانيا ببساطة ليست البلد الذي ظنه، البلد الذي ينتظر نحر رقاب قادته «النازيين» بسرعة ليرتمي برقة في أحضان روسيا الأم.
فإما أن يقلل خسائره الآن ويتجرع المذلة ـ مع الأمل في الإفلات من قدر كاف من العقوبات بما يساعد على إحياء الاقتصاد الروسي وإبقائه في السلطة ـ أو يواجه حربا أبدية ضد أوكرانيا وكثير من العالم، فتستنزف هذه الحرب ببطء قوة روسيا وتؤدي إلى انهيار بنيتها الأساسية.
ولأنه يبدو عاقدا العزم على البديل الثاني، فإنني أشعر بالخوف. لأنه ما من شيء أسوأ من روسيا قوية يحكمها بوتين إلا روسيا ضعيفة ذليلة فوضوية من شأنها أن تتشظى أو تعاني اضطرابا داخليا طويلا على مستوى القيادة، مع تصارع فصائل مختلفة على السلطة ومع وجود كل تلك الرؤوس النووية، ومجرمي الإنترنت، وانتشار آبار النفط والغاز هنا وهناك.
روسيا في ظل بوتين ليست كبيرة على الفشل. لكنها، مع ذلك، كبيرة على الفشل بطريقة لا يرتج على إثرها العالم.
توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية بجريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز»
من كان يرجو أن يكون الاضطراب الذي ألحقته حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا بالأسواق العالمية والأوضاع الجيوسياسية قد بلغ ذروته، فقد خاب رجاؤه. لأننا لم نر شيئا بعد. وانتظروا إلى أن يستوعب بوتين تماما أن الخيارات الوحيدة المتبقية له في أوكرانيا هي أن يختار طريقته في الخسارة ـ فإما الخسارة القريبة والصغيرة وقليلة المذلة أو المتأخرة والضخمة وعميقة المذلة.
بل إن عقلي غير قادر على استيعاب شكل الصدمات المالية والسياسية التي ستشع من روسيا ـ ثالث أضخم منتج للنفط في العالم ومالكة أكثر من ستة آلاف رأس نووي ـ حينما تخسر حربا اختيارية أطلقها رجل واحد لا يملك أن يعترف بالهزيمة.
لم لا؟ لأن بوتين يعلم ولا شك أن «التراث الوطني الروسي لا يغفر الانتكاسات العسكرية» حسبما قال ليون هارون خبير الشؤون الروسية في معهد أمريكان إنتربرايز والذي يقوم بتأليف كتاب عن طريق بوتين إلى أوكرانيا.
أضاف هارون في ما كتب بواشنطن بوست أن «كل هزيمة كبيرة تقريبا أدت إلى تغيير جذري. فحرب القرم (1853-1856) عجلت بالثورة الليبرالية التي قام بها الإمبراطور ألكسندر الثاني من أعلى. والحرب الروسية اليابانية (1904-1905) أفضت إلى الثورة الروسية الأولى. وكارثة الحرب العالمية الأولى أدت إلى تنازل الإمبراطور نيكولاس الثاني عن العرش والثورة البلشفية. وحرب أفغانستان صارت عاملا أساسيا في إصلاحات الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف». كما أسهم الانسحاب من كوبا إسهاما كبيرا في إقصاء نيكيتا خروشوف بعد سنتين.
ولسوف يتضح أكثر فأكثر خلال الأسابيع القادمة أن أكبر مشكلاتنا مع وجود بوتين في أوكرانيا أنه سوف يرفض الخسارة القريبة الصغيرة، وسيكون النتاج الوحيد هو الخسارة الضخمة المتأخرة. لكن لأن هذه الحرب حربه وحده التي لا يستطيع الاعتراف بالهزيمة فيها، فقد يظل يضاعف جهوده في أوكرانيا إلى أن ... إلى أن يفكر في استعمال سلاح نووي.
لماذا أقول إن الهزيمة في أوكرانيا هي خيار بوتين الوحيد، وإن المسألة لا تتعلق إلا بالتوقيت والحجم؟ لأن الغزو اليسير الرخيص الذي تصوره وحفلة الترحيب التي تخيَّلها أن يستقبله بها الأوكرانيون ما كانا إلا وهمين تامين، وكل ما تلاهما نابع منهما.
لقد استهان بوتين تماما بإرادة أوكرانيا أن تكون مستقلة وتصبح جزءا من الغرب. واستهان تماما بإرادة كثير من الأوكرانيين في القتال، وإن كان معناه هو الموت، من أجل ذينك الهدفين. وغالى كثيرا في تقدير قواته المسلحة. واستهان تماما بقدرة بايدن على شحن اقتصاد عالمي وتحالف عسكري بما يمكِّن الأوكرانيين من القتال وتدمير روسيا محليا، وهو ما يمثل أفضل جهود أمريكا فعالية في بناء التحالفات منذ ما فعله جورج بوش الأب وجعل به صدام حسين يدفع ثمن حماقة استيلائه على الكويت. واستهان تماما بقدرة الشركات والأفراد في شتى أرجاء العالم على المشاركة في العقوبات الاقتصادية على روسيا وتعظيمها حتى تجاوزت أي شيء بدأته الحكومات أو فوضت فيه.
وعندما يخطئ زعيم في تقدير كل تلك الأمور، يبقى أفضل خياراته هو أن يخسر خسارة قريبة وصغيرة. وفي حالة بوتين سيعني ذلك سحب قواته من أوكرانيا فورا، ويختفي وراء كذبة تحفظ ماء وجهه ويبرر بها «العملية العسكرية الخاصة» كأن يزعم أنها نجحت في حماية الروس المقيمين في أوكرانيا ويعد بمساعدة أخوة الروس في إعادة البناء. أما المذلة التي لا مفر مها فمن المؤكد أنها غير مقبولة من رجل كهذا تسيطر عليه الرغبة في استرداد كرامة ووحدة الوطن الروسي كما يراه.
وبالمناسبة، الطريقة التي تجري بها الأمور على الأرض في أوكرانيا في الوقت الراهن، لا تجعل من المستحيل أن يخسر بوتين أيضا خسارة ضخمة وقريبة. لن أراهن على هذا، لكن مع كل يوم يمر، ومع مصرع المزيد والمزيد من الجنود الروس في أوكرانيا، من يدري ما الذي يحدث للروح القتالية لدى المجندين في الجيش الروسي عند مطالبتهم بخوض حرب قاتلة ضد أخوة سلافيين من أجل سبب لم يوضحه أحد لهم أصلا.
نظرا لمقاومة الأوكرانيين في كل مكان للاحتلال الروسي، لكي «ينتصر» بوتين عسكريا على الأرض سوف يتحتم على جيشه إخضاع كل مدينة كبيرة في أوكرانيا. ويتضمن ذلك العاصمة كييف ـ بعد أسابيع على الأرجح من الحرب المدينية والخسائر الهائلة في المدنيين. أي أن ذلك، باختصار، لا يمكن أن يتم ما لم يقم بوتين وجنرالاته بارتكاب جرائم حرب غير مشهودة في أوروبا منذ هتلر. وذلك سوف يجعل روسيا بلدا منبوذا على المستوى العالمي على الدوام.
فضلا عن أنه كيف لبوتين أن يحتفظ بسيطرته على بلد آخر ـ هو أوكرانيا ـ يقطنه ثلث سكان روسيا تقريبا، وكثير من أهله يعادون موسكو؟ سيحتاج على الأرجح إلى إبقاء جميع أفراد قواته البالغ عددهم مائة وخمسين ألفا منتشرين هناك، إن لم يحتج إلى المزيد، وإلى الأبد.
ليس هناك ببساطة مخرج أراه لبوتين للانتصار في أوكرانيا على أي نحو قابل للاستمرار، لأن أوكرانيا ببساطة ليست البلد الذي ظنه، البلد الذي ينتظر نحر رقاب قادته «النازيين» بسرعة ليرتمي برقة في أحضان روسيا الأم.
فإما أن يقلل خسائره الآن ويتجرع المذلة ـ مع الأمل في الإفلات من قدر كاف من العقوبات بما يساعد على إحياء الاقتصاد الروسي وإبقائه في السلطة ـ أو يواجه حربا أبدية ضد أوكرانيا وكثير من العالم، فتستنزف هذه الحرب ببطء قوة روسيا وتؤدي إلى انهيار بنيتها الأساسية.
ولأنه يبدو عاقدا العزم على البديل الثاني، فإنني أشعر بالخوف. لأنه ما من شيء أسوأ من روسيا قوية يحكمها بوتين إلا روسيا ضعيفة ذليلة فوضوية من شأنها أن تتشظى أو تعاني اضطرابا داخليا طويلا على مستوى القيادة، مع تصارع فصائل مختلفة على السلطة ومع وجود كل تلك الرؤوس النووية، ومجرمي الإنترنت، وانتشار آبار النفط والغاز هنا وهناك.
روسيا في ظل بوتين ليست كبيرة على الفشل. لكنها، مع ذلك، كبيرة على الفشل بطريقة لا يرتج على إثرها العالم.
توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية بجريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز»