العرب وأوكرانيا: لكل زمان لاجئوه
الاثنين / 3 / شعبان / 1443 هـ - 19:53 - الاثنين 7 مارس 2022 19:53
بالنسبة لي ولأبناء جيلي قد تكون هذه هي المرة الأولى التي نقف فيها شهوداً على كارثة بهذه المأساوية وهي تحدث خارج الملاعب العربية اليباب، منذ أن تفتح وعينا كجيل كامل على حركة التاريخ المصحوبة بتدفق ملايين النازحين العرب الفارين إلى دول الجوار هرباً من جحيم أوطانهم الغارقة إما في قبضة احتلال أجنبي أو في دوامات الحروب الأهلية والاستبداد، منذ أن أصبح غرق اللاجئ العربي السابح نحو المنافي الأوروبية على مياه الأبيض المتوسط خبراً مألوفاً على شاشة التلفزيون. لكننا اليوم أمام حالة نزوح جديدة وهائلة تعيد إلى الأذهان ذكريات الحرب العالمية الثانية الكامنة في هواجس الأوربيين، فقد أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن أكثر من 1.5 مليون لاجئ فارّ من الأراضي الأوكرانية إلى البلدان المجاورة، منذ 24 فبراير الماضي. وبالكاد يستطيع العربي - لفرط ما أصبح اللجوء صفة من صفاته - تصديق هذا المشهد الكارثي دون أن يكون هو اللاجئ هذه المرة. لكننا كعرب لا نستطيع تحييد أنفسنا عن رهان اللحظة التاريخية المستمرة، ولا سبيل لنا ونحن نقرأ أخبار الحرب الدائرة الآن في أوروبا الشرقية أن نكبح إسقاطاتنا القادمة من الدمار الذي لحق ببلدان 'العالم الثالث'، في فلسطين وأفغانستان والعراق واليمن وسوريا. لقد أشرف السلاح الغربي خلال أكثر من قرن على صناعة رؤيتنا الخاصة للحضارة الغربية باعتبارها حضارة سلاح ومال. ولم نكن كارهين يوماً إلا بعد أن وجدنا أننا مكروهون، ولعل هذه العلاقة القائمة على تبادل الكراهية باتت هي الإجابة البسيطة على السؤال الأمريكي الذي نشط بكثافة في وسائل الإعلام بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر: لماذا يكرهوننا؟
أسبوعان من الحرب، والأوكرانيون والأوكرانيات يقاتلون وحدهم زحف الآلة الروسية، في مشهد لا يخلو من الرمزية والإحالة التاريخية بالنسبة للشعوب المقهورة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تُركت لوحدها في مواجهة مصيرها أمام تدخلات أجنبية مشابهة، تحت وطأة الصمت الدولي الذي لا يخرج عن الخُطب وإبداء مشاعر القلق والتعاطف. وبالنسبة للأوكرانيين، فلا جديد يُذكر على الساحة الدولية سوى المزيد من التهديدات الأمريكية بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على الغزاة إذا لم تُفلح العقوبات السابقة في ردع الروس وزعيمهم المُجنَّح بأحلامه/ أوهامه الإمبراطورية. لقد جاء بوتين ليقول للعالم أن كتابة التاريخ لم تنته بعدُ عند مذلة جدار برلين، الذي أعلن انهياره عن السقوط المدوي للإمبراطورية السوفيتية، ودشن مرحلة جديدة تقودها الولايات المتحدة، القطب الواحد والوحيد. الآن مجدداً، انفلت عقال التاريخ دون أن يعيد نفسه بالضرورة، فلا روسيا الرأسمالية اليمينية اليوم هي جمهورية الاتحاد السوفيتي الاشتراكية اللينينية، ولا أمريكا جون كنيدي هي أمريكا جو بايدن، كما أن أوكرانيا ليست كوبا.
وفي الشرق، حيث المواقف والأراء لم تكن في العادة سوى صدى لما يُتداول في الغرب، تجري في هذه الأثناء مراجعات عربية لأحداث كبرى مشابهة شهدتها المنطقة وكان السلاح الأمريكي والروسي جزءاً منها، كالمعجنة السوفيتية الأمريكية في أفغانستان، وحرب الخليج الثانية التي آلت إلى حصار العراق وسقوط نظام صدام حسين بعد الاجتياح الأمريكي عام ٢٠٠٣، وصولاً إلى العقوبات الأمريكية على إيران والتدخل العسكري الروسي في سوريا.
هناك دعوة للحياد تسود القرار الرسميّ في العالم العربي. إذ يرى صُناع هذا الخطاب أن عدم التورط في خندق أي معسكر هو الخيار الأسلم للخروج بأقل الخسائر الاقتصادية والسياسية، إلى جانب تعليق الرجاء على الحلول الدبلوماسية المتأخرة بعد أن فشلت الدبلوماسية الوقائية في لملمة الأزمة التي انفجرت عن حرب شرسة. لقد ارتبكت الدبلوماسية العربية لأيام قبل أن تذهب في النهاية إلى مساق واحد للتصويت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي 'يدين بأشد العبارات العدوان الروسي على أوكرانيا' باستثناء سوريا. كان الموقف السوري واضحاً منذ بداية الأزمة دون أن يفاجئ أحداً، إذ أعلنت الحكومة السورية دعمها السياسي والإعلامي لموسكو، فكان النظام العربي الوحيد الذي صوَّت الأربعاء الماضي ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. موقف عربي صارخ و'شاذ' - هكذا يقرأ في الغرب- جعل الكثير من وسائل الإعلام الغربية تعيد قراءة الحرب الروسية على أوكرانيا من زاوية التدخل العسكري الروسي في الملف السوري عام ٢٠١٥.
موقف دول الخليج العربي من الأزمة كان الأكثر حرجاً، فقد وجدت هذه الدول نفسها فجأة في مواجهة أسئلة كبرى وتناقضات سياسية واقتصادية حرجة. فمنذ بداية الأزمة حتى الساعات الأخيرة من الحرب كانت دول الخليج العربية، والسعودية وقطر في مقدمتها، في قلب هبوب الاستقطابات السياسية والاقتصادية بين حلف شمال الأطلسي وروسيا. ولا شك في أن الاهتمام الدولي بالموقف الخليجي في هذه الساعات نابع في الأساس من الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها موقع دول الخليج في سياق لعبة الأمم الجديدة، باعتبارها مخزن الطاقة الأهم في العالم. لذلك كان الزعيم الروسي حريصاً على جس النبض الخليجي عبر رسالة بعثها إلى أمير قطر، متعلقةً 'بالقضايا المشتركة والعلاقات الثنائية وسبل تعزيزها'، حدث ذلك في اليوم التالي بُعيد اعترافه باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في أوكرانيا. فكيف ستصمد العواصم الخليجية في هذا الامتحان التاريخي الخطر دون أن تُجتر بحال من الأحوال إلى خندق الحليف الأمريكي، مضحية بعلاقاتها الحذرة مع موسكو التي شهدت في العقود الثلاثة الأخيرة نمواً بطيئاً ومتوجساً من الإرث السوفيتي؟ هذا سؤال يعسر التفتيش عن إجابته وسط الضباب الأسود من التكهنات، في ظل التطورات السريعة التي تدور على أرض المعركة وفي اجتماعات وزراء الخارجية.
• سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
أسبوعان من الحرب، والأوكرانيون والأوكرانيات يقاتلون وحدهم زحف الآلة الروسية، في مشهد لا يخلو من الرمزية والإحالة التاريخية بالنسبة للشعوب المقهورة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تُركت لوحدها في مواجهة مصيرها أمام تدخلات أجنبية مشابهة، تحت وطأة الصمت الدولي الذي لا يخرج عن الخُطب وإبداء مشاعر القلق والتعاطف. وبالنسبة للأوكرانيين، فلا جديد يُذكر على الساحة الدولية سوى المزيد من التهديدات الأمريكية بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على الغزاة إذا لم تُفلح العقوبات السابقة في ردع الروس وزعيمهم المُجنَّح بأحلامه/ أوهامه الإمبراطورية. لقد جاء بوتين ليقول للعالم أن كتابة التاريخ لم تنته بعدُ عند مذلة جدار برلين، الذي أعلن انهياره عن السقوط المدوي للإمبراطورية السوفيتية، ودشن مرحلة جديدة تقودها الولايات المتحدة، القطب الواحد والوحيد. الآن مجدداً، انفلت عقال التاريخ دون أن يعيد نفسه بالضرورة، فلا روسيا الرأسمالية اليمينية اليوم هي جمهورية الاتحاد السوفيتي الاشتراكية اللينينية، ولا أمريكا جون كنيدي هي أمريكا جو بايدن، كما أن أوكرانيا ليست كوبا.
وفي الشرق، حيث المواقف والأراء لم تكن في العادة سوى صدى لما يُتداول في الغرب، تجري في هذه الأثناء مراجعات عربية لأحداث كبرى مشابهة شهدتها المنطقة وكان السلاح الأمريكي والروسي جزءاً منها، كالمعجنة السوفيتية الأمريكية في أفغانستان، وحرب الخليج الثانية التي آلت إلى حصار العراق وسقوط نظام صدام حسين بعد الاجتياح الأمريكي عام ٢٠٠٣، وصولاً إلى العقوبات الأمريكية على إيران والتدخل العسكري الروسي في سوريا.
هناك دعوة للحياد تسود القرار الرسميّ في العالم العربي. إذ يرى صُناع هذا الخطاب أن عدم التورط في خندق أي معسكر هو الخيار الأسلم للخروج بأقل الخسائر الاقتصادية والسياسية، إلى جانب تعليق الرجاء على الحلول الدبلوماسية المتأخرة بعد أن فشلت الدبلوماسية الوقائية في لملمة الأزمة التي انفجرت عن حرب شرسة. لقد ارتبكت الدبلوماسية العربية لأيام قبل أن تذهب في النهاية إلى مساق واحد للتصويت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي 'يدين بأشد العبارات العدوان الروسي على أوكرانيا' باستثناء سوريا. كان الموقف السوري واضحاً منذ بداية الأزمة دون أن يفاجئ أحداً، إذ أعلنت الحكومة السورية دعمها السياسي والإعلامي لموسكو، فكان النظام العربي الوحيد الذي صوَّت الأربعاء الماضي ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. موقف عربي صارخ و'شاذ' - هكذا يقرأ في الغرب- جعل الكثير من وسائل الإعلام الغربية تعيد قراءة الحرب الروسية على أوكرانيا من زاوية التدخل العسكري الروسي في الملف السوري عام ٢٠١٥.
موقف دول الخليج العربي من الأزمة كان الأكثر حرجاً، فقد وجدت هذه الدول نفسها فجأة في مواجهة أسئلة كبرى وتناقضات سياسية واقتصادية حرجة. فمنذ بداية الأزمة حتى الساعات الأخيرة من الحرب كانت دول الخليج العربية، والسعودية وقطر في مقدمتها، في قلب هبوب الاستقطابات السياسية والاقتصادية بين حلف شمال الأطلسي وروسيا. ولا شك في أن الاهتمام الدولي بالموقف الخليجي في هذه الساعات نابع في الأساس من الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها موقع دول الخليج في سياق لعبة الأمم الجديدة، باعتبارها مخزن الطاقة الأهم في العالم. لذلك كان الزعيم الروسي حريصاً على جس النبض الخليجي عبر رسالة بعثها إلى أمير قطر، متعلقةً 'بالقضايا المشتركة والعلاقات الثنائية وسبل تعزيزها'، حدث ذلك في اليوم التالي بُعيد اعترافه باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في أوكرانيا. فكيف ستصمد العواصم الخليجية في هذا الامتحان التاريخي الخطر دون أن تُجتر بحال من الأحوال إلى خندق الحليف الأمريكي، مضحية بعلاقاتها الحذرة مع موسكو التي شهدت في العقود الثلاثة الأخيرة نمواً بطيئاً ومتوجساً من الإرث السوفيتي؟ هذا سؤال يعسر التفتيش عن إجابته وسط الضباب الأسود من التكهنات، في ظل التطورات السريعة التي تدور على أرض المعركة وفي اجتماعات وزراء الخارجية.
• سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني