أفكار وآراء

المحبّة ليست تملكا

اختلاف الأجيال وتمايزها أمر لا مفر منه، ولا يخفى تجليه في أوضح أشكاله في العصر الذي نعيش اليوم؛ حيث الانفتاح التقني والذكاء الصناعي، وثورة المعلومات وزخم وسائل التواصل الاجتماعي.

ما عاشه جيلٌ ستيني أو حتى أربعيني لا يمكن بحال من الأحوال أن يشابه ما يعيشه جيلٌ عشريني اليوم؛ لذلك لا بد من إقرار (أولا ) بأن لكل جيل أحلامه ورؤاه وربما 'ترّهاته' حتى، ثم لا بد من وعي كامل أوان تناول محاذير هذا الوقت أو معاذير هذا الجيل.

لا يمكن إنكار ما صنعته وسائل التواصل الاجتماعي من أثر على حياتنا بمختلف الأعمار، فكيف يمكن أن نعجب من صنع أو تصنيع أبطال رقميين في مجالات مختلفة، تغذي فضول مراهق في عاصمة ما، أو ترضي طموح آخر في قرية نائية.

لا يمكن ـ مهما اختلفنا ـ إلا أن نتفق على أن الواقع صار ساحة مفتوحة على مصراعيها لصنّاع التأثير، سلبيا كان أم إيجابيا وعلى كل الصعد. نعايشه يوميا عبر متابعاتنا نفسيا وسلوكيا، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.

حينما يحاول أحدنا تلبّس دور المراقب (ولا أقول المتابع) فإنه باخع نفسه لا محالة؛ إذ لن يتأتى له ذلك في هذا العالم المفتوح المليء بالجديد الآني يوميا، وغاية ما يمكن للأسر والمجتمعات بمؤسساتها التربوية والتعليمية صنعه هو زراعة الثوابت التي يمكنها تعزيز القيم الإنسانية العليا والقيم الدينية التي تقي هذه الأجيال مخاطر الوقوع في شرائك هذا العالم وتناقضاته وحبائله وأباطيله.

أما محاولات المراقبة والمنع فلا جدوى منها، ولا طائل من تبنيها لصعوبة إدراكها أولا، ثم لما يتصف به هذا الجيل من تمرد على التوجيه المباشر والمنع القسري ثانيا، وعوضا عن ذلك لا بد من تفعيل الحوار؛ الحوار الذي هو شكل التواصل الأول أسريا ومدرسيا ومؤسساتيا. لا بد من حوار معزز للقيم، مؤكد على الأمان العاطفي والأمان الاجتماعي، ثم الأمان الفكري الثقافي في أعلى مستوياته.

أكتب هذه المقالة وأنا أتابع وأتأمل غضبة آباء ومراقبين من اندفاع جيل من المراهقين على لقاء مشهور على وسائل التواصل الاجتماعي.

هذه الغضبة تأججت على النتيجة ولم تأبه لقراءة الأسباب التي قد يكون هؤلاء الغاضبين بعضا منها. نعم سنضطر للاعتراف بأن التواصل الأسري بات في أضعف أشكاله، حيث لا نجد تفهما لحاجات الأبناء ورغباتهم، اهتماماتهم وأحلامهم.

الدور السردي الذي غاب عن المنازل غذّاه آخرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ على اليوتيوب أو الانستغرام أو الفيس بوك أو حتى الألعاب وغيرها. اشترك كل هؤلاء في تربية الأبناء حين غاب الاهتمام بالتواصل الأسري وتعزيز الثوابت منشغلين بالإنفاق المادي ومقتضياته اليومية مع إهمال الجانب النفسي والعاطفي والفكري، شاركنا في الأسباب فلم نغضب من النتيجة؟!

من ناحية أخرى، وعودة لدور المتابع لا المراقب: هل كل محتوى يقدمه شاب على وسائل التواصل الاجتماعي سيءٌ بالضرورة؟ هل كلّفت نفسك - أيها المراقب – عناء تقصي المحتوى الذي يشاهده أبناؤك، هل تقتضي التربية السليمة أن نكون نسخا متشابهة عن بعضنا البعض مهما تعاقبت الأزمان أو تغيرت الحقب؟

هل شاركت في توجيههم حول محتوى رقمي يحقق معادلة (الفضول – الجودة) بحيث يغذي فضول ابنك أو ابنتك حول معرفة ما في مجال معين، إضافة إلى جودة هذه المعرفة وصحتها.

خلاصة القول: تعزيز متاريس الأسرة الرئيسة عبر التواصل المضاعف محبةً وإقناعا خيرٌ من محاربة طواحين هواء رقمية لا قِبل لنا بها وبتشكلاتها الأسطورية العصيّة على الثبات، القصيّة عن التقييد. الأمر بيدك – عزيزي ولي الأمر – والسر في تواصل أبوي أسري لتكبح اندفاع أبنائك جهة التواصل الاجتماعي ومخاطره، وربما كانت الحكمة في تجاوز التواصل للمشاركة (مشاركة الأصدقاء) لاكتشاف ما يعايش الأبناء يوميا وما يثير فضولهم مرحليا، كل ذلك بحرص وعناية مبعثهما الرعاية وليس التحكم، الحب وليس التملك.

• حصة البادي شاعرة وكاتبة عمانية