رحلة القراءة.. «من الوعي الجمعي إلى الوعي الفردي»
الاحد / 2 / شعبان / 1443 هـ - 20:10 - الاحد 6 مارس 2022 20:10
لا يختلف أحدنا كون القراءة «مصدر المعرفة الأول»، وصقيلة العقول الألمع، ومجلية الجهل الأقوى، ولا ريب أن يكون أول ما أنزل علينا من آيات «اقرأ»، تلك القراءة التي توسع مدارك الفرد؛ ليعرف منها بمقتضى الحال ما لا نعلمه عن الحضارات الأخرى، وتشحذ حواسه ليحظى بزيارة تخوم عوالم لم يرها من قبل، ويدخل في أحاديث مزهرة مع شخصيات علمية وأدبية من شعوب قديمة بائدة.
تلك القراءة التي تختلف دوافع اللجوء إليها، ما بين أن يمضي الوقت على نحو مفيد، أو تلك المتعة الشعورية التي تمنحنا القراءة، أو محاولة للإجابة على تلك التساؤلات التي تومض على جدران الدماغ، وتهدر كشآبيب تخضر لها معرفة قلبك، فما نقرأه ليست كلمات صماء لا مدلولات لها، بل هي ساكنة جامدة إلى تبث فيها روح المعنى الذي يأتي من قراءتك الواعية لها، فتسبل عليها المعنى، فتتعدد القراءات لها بعدد قراءها، حيث تتحد بالمعاني في داخلك، فتكون على نحو يشابه ذلك البناء التراكمي في معانيك الداخلية.
القراءة بما تحملها من معان فصيحة وصريحة جزلة، أو مسبوكة برمزية أدبية وإيجاز مخل بالمعنى، تدعوك للإيغال في التفكر لتكون قراءتك أكثر وعيًا، وكأن القارئ يمتلك القدرة على إحياء المعنى الموات في الكلمات، فتترمم متخلقة بروح المعنى الحي، فلا تعود مفردات غوغاء خاوية من المعنى، فهي الآن ذات دلالات تتبدل وفق قارئها الذي يقرأها بعدسة منظومته المعرفية، فتتعدد التأثيرات والتحليلات والتفسيرات النابعة من القراءة ببصيرة ناقدة تخرج الدلائل من مكامنها.
فيتنامى جميع ما تقرأ بوعي في اللاوعي، لتنبثق منها روح جديدة للمعنى، فتنتظم في أنساق فريدة لا تشبه سواها مشكلة ما يسمى بالوعي الجمعي، فتلك الأشياء التي نقرأها تصنعنا من الداخل، تختمر مع بعضها مكونة مادة جديدة، فالأمر مشابه حقًا لتلك المواد الخام التي تتحد مع بعضها لتصنع مادة جديدة، كتلاحم الطين والماء مشكلة طوب يعتريه الصلابة.
الرحلة في بدايتها صناعة للوعي الجمعي، سواء كانت رحلة لكتاب واحد، أو موسم قرائي لمجموعة من الكتب، أو طوال فترة حياتك القرائية، فهي تأخذ بيدك نحو الوعي الجمعي، لنكون في كنف الجماعة مع ديباجة من الجماعات، لتفلتها بعد أن أصبحت ذات وعي فردي، حيث إن الفرد الذي تطبع ببعض خصال العامة، فإن فطرته الأولى ترده إليها بحدة تامة.
لتكون القراءة بذلك الأداة الأهم للنمو الجمعي والفردي على حد سواء، يتدرج من خلالها القارئ من المستويات القرائية المختلفة ما بين ترجمة الحروف المترابطة إلى كلمات ذات معنى، وجمل مترابطة في وحدة واحدة من الموضوع، انتقالا إلى تمحيص ذلك المعنى والموضوع وقراءته بطريقة ناقدة، تقلب فيها تلك الأفكار في عقلك، وتشحذ تلكم المعرفة وتترجمها في حياتك.
ومع التوسع قليلا في معنى القراءة، وليكن الأمر أبعد من تلك الفكرة المؤطرة للقراءة العادية، المحصورة ما بين تصفح الكتب أو القراءة على ألواح الشاشات الإلكترونية، لتكون عن القراءة بمفهومها العام من ملاحظة وتأمل على نحو قارئ مسترسل، لتعود بنا إلى زمن رجل الكهف والعصور البدائية، حيث إن تلك القراءة الملاحظة والمشاهدات المتفرقة والأحداث المتوالية تشكل لدى الإنسان البدائي وعيًا جمعيًا، تسير به لحين أن تورق لديه براعم من وعي ذاتي تجعله مختلفا، برؤى مميزة تعزز من التباين بين الأفراد على نحو مكمل للآخر لتكتمل المنظومة الحياتية.
الشعوب بثقافاتها المتعددة النابعة عن القراءات التراكمية وأفكار مفكريها، وما يتنامى عن عقولهم من وعي جمعي، يصعدون منه نحو وعي ذاتي متفرد يميزهم كجماعات وقبائل وشعوب مختلفة، في وحدة تجتمع حولها شؤون حياتهم، فالمعرفة العامة والأفكار التي يطرحها، يجتمع حولها الناس في تآلف بوعي مجتمعي، بعد الوقوف عليها من زاوية ناقدة، فإن الوعي الذاتي سيكون في أوج تميزه وتفرده، ذلك الوعي المنبثق من رأيه الخاص الأصيل تجاه كل ما يتلقاه من فكره ومنظومة معلوماتية عبر رحلة القراءة الاستكشافية للأفكار بتأمل واستبصار ينبجس عنها الوعي الفردي.
فالقراءة من ديدنها أن تبني وعي الإنسان في مستويين، ما بين تركز المعنى وفهمه المباشر، لتقتاد بذلك أكبر تجمهر للوعي بين الناس، إلى حالات أكثر تمددًا وتوسعًا للمعنى ليكون هنا وعيًا مميزًا لكل أولئك الذين قرأوا النص، فالقارئ يمتلك حرية داخلية ذاتية بفهم النص بلا مراء، وفق إضاءات منعكسة من بصيرته العميقة التي لا تشبه سواها، كما أن القارئ يصب قيمته الشعورية الخاصة في لحظة فعل القراءة، فيكون النص مناسبًا لتلك المشاعر والرؤى، ففهمه العام للنص المقروء، وما يصنعه من وعي جمعي مع العامة لا ينقذه من الفهم الشخصي والذاتي.
فتكون القراءة بفهم تأويلي للكلمات، للوصول إلى تفسيرات ذاتية جدلية بين أفكار النفس لتخزين تلك الكلمات بدلالات خاصة، قد لا تشابه ولا تتماثل مع قراء آخرين، فالكلمة داخل النص تحفل بمعان عديدة يستجليها القارئ من خلف رمزيتها، ليكون الانتقال من الوعي الجمعي إلى الذاتي من الكل إلى الجزء، فيبني القارئ معنى الكلمات من المعنى الذي هو مادته الأساسية للفهم.
الغاية الأولى لدى القارئ من تأويل النص القرائي بوعي ذاتي، ليس الوصول إلى أعلى درجات الحرية الفكرية، بل إنه يحاول اجتهادًا الوصول إلى المعنى الحقيقي الذي يختبئ خلف الكلمات، ويأتي التأويل الفردي للمقروء من تلك التساؤلات الناقدة من ذلك العلم الذي تم تلقيه على نحو مباشر من الكتب، التي يتصفحها لتكون لديه إجابات تحمل طابع فلسفي قوامه الشك والتساؤل، فكما يقول برتراند الفيلسوف والكاتب الإنجليزي: «العلم هو ما تعرف والفلسفة هي مالا تعرف».
في حين تهدم المعاني الخاطئة والأفكار غير المنطقية نفسها بنفسها، فالإنسان قادر بلا شك على دحض ونقد تلك الأفكار التي يتلقاها، فيسير مع العامة على نحو جمعي وفق إملاءات نفسية فطرية عقائدية، ثم ينجرف عنها نزوحًا إلى قوى الفكر الحرة التي تتجاذبه مرة بعد مرة، فتجعلك القراءة تشعر بجهلك فيتنامى نهمك نحو مزيد من المعرفة، فحتى قيل أن مدعي العلم أو المعرفة هو جاهل بالأصل.
تلك المعاني لا تتراص فوق بعضها عبثًا، بل وفق منظومة سابقة تراكمية اتحدت فيها التأثيرات البيولوجية والجغرافية والثقافية والتاريخية والاجتماعية، ليتخلق طور جديد من المنظومة المعرفية، لا يكون منفصلا وكيانا مستقلا بل إنه ينعقد مع سلسلة المعارف والمعاني السابقة في دواخلك، لتتوسع مداركك فتنظر إلى ما حولك برؤية كونية أكثر شمولية، ولتعيد تركيز النظر فتكون نظرتك ثاقبة وأكثر عمقا وتخصصية.
وختاما، إن كان ما نعلمه يقينا هيمنة القراءة على الرحلة ما بين الوعي الجمعي إلى الوعي الفردي، يبقى التساؤل الأكثر إلحاحًا، الذي يصعب البت فيه، هل هناك وعي جمعي بدون مجاميع من الوعي الفردي المستنير المتكامل؟، وهل من الممكن صناعة وعي فردي متفرد موفور وبتمام الاستقلالية بدون ذلك الوعي الجمعي؟.
فوزية الفهدي روائية وقاصة عمانية
تلك القراءة التي تختلف دوافع اللجوء إليها، ما بين أن يمضي الوقت على نحو مفيد، أو تلك المتعة الشعورية التي تمنحنا القراءة، أو محاولة للإجابة على تلك التساؤلات التي تومض على جدران الدماغ، وتهدر كشآبيب تخضر لها معرفة قلبك، فما نقرأه ليست كلمات صماء لا مدلولات لها، بل هي ساكنة جامدة إلى تبث فيها روح المعنى الذي يأتي من قراءتك الواعية لها، فتسبل عليها المعنى، فتتعدد القراءات لها بعدد قراءها، حيث تتحد بالمعاني في داخلك، فتكون على نحو يشابه ذلك البناء التراكمي في معانيك الداخلية.
القراءة بما تحملها من معان فصيحة وصريحة جزلة، أو مسبوكة برمزية أدبية وإيجاز مخل بالمعنى، تدعوك للإيغال في التفكر لتكون قراءتك أكثر وعيًا، وكأن القارئ يمتلك القدرة على إحياء المعنى الموات في الكلمات، فتترمم متخلقة بروح المعنى الحي، فلا تعود مفردات غوغاء خاوية من المعنى، فهي الآن ذات دلالات تتبدل وفق قارئها الذي يقرأها بعدسة منظومته المعرفية، فتتعدد التأثيرات والتحليلات والتفسيرات النابعة من القراءة ببصيرة ناقدة تخرج الدلائل من مكامنها.
فيتنامى جميع ما تقرأ بوعي في اللاوعي، لتنبثق منها روح جديدة للمعنى، فتنتظم في أنساق فريدة لا تشبه سواها مشكلة ما يسمى بالوعي الجمعي، فتلك الأشياء التي نقرأها تصنعنا من الداخل، تختمر مع بعضها مكونة مادة جديدة، فالأمر مشابه حقًا لتلك المواد الخام التي تتحد مع بعضها لتصنع مادة جديدة، كتلاحم الطين والماء مشكلة طوب يعتريه الصلابة.
الرحلة في بدايتها صناعة للوعي الجمعي، سواء كانت رحلة لكتاب واحد، أو موسم قرائي لمجموعة من الكتب، أو طوال فترة حياتك القرائية، فهي تأخذ بيدك نحو الوعي الجمعي، لنكون في كنف الجماعة مع ديباجة من الجماعات، لتفلتها بعد أن أصبحت ذات وعي فردي، حيث إن الفرد الذي تطبع ببعض خصال العامة، فإن فطرته الأولى ترده إليها بحدة تامة.
لتكون القراءة بذلك الأداة الأهم للنمو الجمعي والفردي على حد سواء، يتدرج من خلالها القارئ من المستويات القرائية المختلفة ما بين ترجمة الحروف المترابطة إلى كلمات ذات معنى، وجمل مترابطة في وحدة واحدة من الموضوع، انتقالا إلى تمحيص ذلك المعنى والموضوع وقراءته بطريقة ناقدة، تقلب فيها تلك الأفكار في عقلك، وتشحذ تلكم المعرفة وتترجمها في حياتك.
ومع التوسع قليلا في معنى القراءة، وليكن الأمر أبعد من تلك الفكرة المؤطرة للقراءة العادية، المحصورة ما بين تصفح الكتب أو القراءة على ألواح الشاشات الإلكترونية، لتكون عن القراءة بمفهومها العام من ملاحظة وتأمل على نحو قارئ مسترسل، لتعود بنا إلى زمن رجل الكهف والعصور البدائية، حيث إن تلك القراءة الملاحظة والمشاهدات المتفرقة والأحداث المتوالية تشكل لدى الإنسان البدائي وعيًا جمعيًا، تسير به لحين أن تورق لديه براعم من وعي ذاتي تجعله مختلفا، برؤى مميزة تعزز من التباين بين الأفراد على نحو مكمل للآخر لتكتمل المنظومة الحياتية.
الشعوب بثقافاتها المتعددة النابعة عن القراءات التراكمية وأفكار مفكريها، وما يتنامى عن عقولهم من وعي جمعي، يصعدون منه نحو وعي ذاتي متفرد يميزهم كجماعات وقبائل وشعوب مختلفة، في وحدة تجتمع حولها شؤون حياتهم، فالمعرفة العامة والأفكار التي يطرحها، يجتمع حولها الناس في تآلف بوعي مجتمعي، بعد الوقوف عليها من زاوية ناقدة، فإن الوعي الذاتي سيكون في أوج تميزه وتفرده، ذلك الوعي المنبثق من رأيه الخاص الأصيل تجاه كل ما يتلقاه من فكره ومنظومة معلوماتية عبر رحلة القراءة الاستكشافية للأفكار بتأمل واستبصار ينبجس عنها الوعي الفردي.
فالقراءة من ديدنها أن تبني وعي الإنسان في مستويين، ما بين تركز المعنى وفهمه المباشر، لتقتاد بذلك أكبر تجمهر للوعي بين الناس، إلى حالات أكثر تمددًا وتوسعًا للمعنى ليكون هنا وعيًا مميزًا لكل أولئك الذين قرأوا النص، فالقارئ يمتلك حرية داخلية ذاتية بفهم النص بلا مراء، وفق إضاءات منعكسة من بصيرته العميقة التي لا تشبه سواها، كما أن القارئ يصب قيمته الشعورية الخاصة في لحظة فعل القراءة، فيكون النص مناسبًا لتلك المشاعر والرؤى، ففهمه العام للنص المقروء، وما يصنعه من وعي جمعي مع العامة لا ينقذه من الفهم الشخصي والذاتي.
فتكون القراءة بفهم تأويلي للكلمات، للوصول إلى تفسيرات ذاتية جدلية بين أفكار النفس لتخزين تلك الكلمات بدلالات خاصة، قد لا تشابه ولا تتماثل مع قراء آخرين، فالكلمة داخل النص تحفل بمعان عديدة يستجليها القارئ من خلف رمزيتها، ليكون الانتقال من الوعي الجمعي إلى الذاتي من الكل إلى الجزء، فيبني القارئ معنى الكلمات من المعنى الذي هو مادته الأساسية للفهم.
الغاية الأولى لدى القارئ من تأويل النص القرائي بوعي ذاتي، ليس الوصول إلى أعلى درجات الحرية الفكرية، بل إنه يحاول اجتهادًا الوصول إلى المعنى الحقيقي الذي يختبئ خلف الكلمات، ويأتي التأويل الفردي للمقروء من تلك التساؤلات الناقدة من ذلك العلم الذي تم تلقيه على نحو مباشر من الكتب، التي يتصفحها لتكون لديه إجابات تحمل طابع فلسفي قوامه الشك والتساؤل، فكما يقول برتراند الفيلسوف والكاتب الإنجليزي: «العلم هو ما تعرف والفلسفة هي مالا تعرف».
في حين تهدم المعاني الخاطئة والأفكار غير المنطقية نفسها بنفسها، فالإنسان قادر بلا شك على دحض ونقد تلك الأفكار التي يتلقاها، فيسير مع العامة على نحو جمعي وفق إملاءات نفسية فطرية عقائدية، ثم ينجرف عنها نزوحًا إلى قوى الفكر الحرة التي تتجاذبه مرة بعد مرة، فتجعلك القراءة تشعر بجهلك فيتنامى نهمك نحو مزيد من المعرفة، فحتى قيل أن مدعي العلم أو المعرفة هو جاهل بالأصل.
تلك المعاني لا تتراص فوق بعضها عبثًا، بل وفق منظومة سابقة تراكمية اتحدت فيها التأثيرات البيولوجية والجغرافية والثقافية والتاريخية والاجتماعية، ليتخلق طور جديد من المنظومة المعرفية، لا يكون منفصلا وكيانا مستقلا بل إنه ينعقد مع سلسلة المعارف والمعاني السابقة في دواخلك، لتتوسع مداركك فتنظر إلى ما حولك برؤية كونية أكثر شمولية، ولتعيد تركيز النظر فتكون نظرتك ثاقبة وأكثر عمقا وتخصصية.
وختاما، إن كان ما نعلمه يقينا هيمنة القراءة على الرحلة ما بين الوعي الجمعي إلى الوعي الفردي، يبقى التساؤل الأكثر إلحاحًا، الذي يصعب البت فيه، هل هناك وعي جمعي بدون مجاميع من الوعي الفردي المستنير المتكامل؟، وهل من الممكن صناعة وعي فردي متفرد موفور وبتمام الاستقلالية بدون ذلك الوعي الجمعي؟.
فوزية الفهدي روائية وقاصة عمانية