أفكار وآراء

اختلاف الأفكار .. والنماذج السياسية والفكرية

لا شك أن اختلاف الأمم والشعوب في تنظيماتها الفكرية والثقافية والسياسية، سنة بشرية وخلقة إلهية، لا يمكن تجاهل نزعتها في التمايز والاختلاف عند الثقافات، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم عن الاختلاف: (ولذلك خلقهم)، وتلك سنة في البشر لا محيد عنها، إذ قد وجدت واستقرت بين الأمم، لاختلاف الأديان والثقافات والمشارب والعادات، ويجب أن تتقبلها الأمم كرغبة ذاتية

، والإرادة البشرية تريد هذا التمايز.

في الأسبوع المنصرم، تحدثنا عن ظروف الاحتلال الغربي للبلدان العربية ومؤثراته على بعض الدول العربية، إذ لم يكتفِ الاستعمار بالاحتلال العسكري فقط، بل على الاختراق الفكري والثقافي للمؤسسات التعليمية والثقافية في مصر والشام والمغرب العربي وغيرها من البلدان العربية، وحتى المحاكم لم تسلم من رغبته لتغيير ما استقرت عليه النظم والقيم في تلك المحاكم من تشريعات إسلامية وفقهية وعرفية وغيرها، واستطاع إرساء فصل بعضها عن بعض، والتفريق بين المحاكم الأهلية والمحاكم المختلطة، وهذا جرى في مصر بصورة خاصة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكنه وجد سدا منيعا من فرضها على كل المحاكم والمؤسسات الثقافية التي تتميز بكونها تستمد من الشريعة الإسلامية تطبيقاتها.

ولذلك جرت بين الإمام محمد عبده والدبلوماسي الفرنسي «ألبرت أوغست هانوتو»، واللبناني فرح أنطون، سجالات وحوارات فكرية وسياسية، حول الدين والدولة في الإسلام والمسيحية، والرد الذي طرحه الإمام محمد عبده على الانتقادات منها للإسلام حول النظرة غير الصحيحة له في قيمه الفكرية والسياسية، وهي تلك النظرة والرؤية الاستشراقية السابقة التي تتردد عند النقاشات الفكرية من بعض هؤلاء، وهي بلا شك أحكام مسبقة لا تمت للنقد المنهجي والعلمي، وثبت فيها التحامل غير العقلاني وغير المنصف من بعض المستشرقين والتي لم تتجرد من الأحكام غير المحايدة كلية.

ومحمد عبده طرح في نقاشه معهما الحقائق الناصعة كما هي، كما يراها هذا الدين في قضايا العلم والدولة والسياسة والرؤية التسامحية لدين الإسلام في قضايا كثيرة، تعامله مع أتباع الأديان السماوية، من خلال النصوص التي تقطع بخلاف النظرة المشّوهة التي طرحاها في هذه المساجلات بين الإمام محمد عبده و«أبرت هانوتو»، و«فرح انطون».

وقد أدرك بعض هؤلاء السياسيين الغربيين والمثقفين أنفسهم عند مجادلتهم للشيخ محمد عبده، أن هؤلاء يعرفون ما تهدف إليه هذه الردود الفكرية والسياسية عليهم، من حيث هدف الإصلاح والدعوة إليه من الشيخ محمد عبده، ومن حيث طرح الأفكار التي تقنع النخب الفكرية والسياسية العربية والإسلامية تجاه مخاطر التغريب والاختراق الثقافي الجاثم على الأرض، وكأن ردودهما عليه هي تكريس فكرة ومهمة هذا التغريب وأهدافه، ومن تلك الادعاءات أن هذا الاحتلال أتى من أجل نهضة وتقدم البلاد العربية المستعمرة، وأن الغرب عندما أقصى الكنيسة نهض وتقدم، وترك تراثه خلفه وقفز للإمام، وهذا قياس مع الفارق، لأن الكنيسة فيما قامت به خرجت عن مهامها الأساسية، أما الإسلام فلم يحارب العلم والتقدم والنهضة، بل عندما بزغ فكره فتح الباب للعلم والنهضة والتقدم، وأسس حضارة عربية إسلامية، شهد لها الغرب نفسه بمكانتها وتأثيرها على نهضة أوروبا بعد ذلك، ومن هذه المنطلقات، كانت فكرة محمد عبده التي أعطت لكل متابع للحوار سواء في جريدة الأهرام المصرية العريقة، أو مجلة الجامعة أو مجلة المؤبد، قدرته العلمية واستنباطاته المعرفية، أن يمتلك ناصية العلوم الدينية والعلوم العصرية على السواء، ولذلك فالدول الاستعمارية تتوجس من قدرة التأثير الكبير للإسلام وتأثيره وامتداده في الشرق والغرب، وهذا ما جاء في مقال «ألبرت هانوتو» في مجلة باريسية، من أن الإسلام يشكل خطرا علينا، فهو: قريب منا في (مراكش) تلك البلاد الخفية الأسرار التي يشبه وجودها الحاضر مقدور الأبد في الغموض والاشتباه قريب منا في طرابلس التي تتم بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر المتوسط، وبين الطوائف الإسلامية في باطن القارة الإفريقية. لا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرا في الآفاق فهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل للتدين بين كل ميل اعتناق دين سواه.

فهذا الطرح المرتبك إلى حد التخوف من «هانوتو»، يبرز أنهم مدركون لتأثير الإسلام الكبير في حياة الناس وفي وجدانهم، ولذلك سعوا بقوة للتغريب ومحاولة تغيير المناهج أو تعديل بعضها مما هو مستقر في ثقافات هذه الشعوب وفي ثقافاتهم، وفي هذا الجانب تم بذل جهد كبير في التحذير والتخويف ممن قدرته على التأثير، وذلك من أجل أن يقوم الاستعمار بدور أكبر لمحو الهوية الوطنية والقيم المستقرة للشعوب العربية، ونجح في بعض هذه الجهود، وخفق في بعضها.

ولعب الاستشراق دورا بارزا في ذلك، لكنه سرعان ما انكشفت أهدافه التي سعى إليها المستشرقون، عندما برزت العديد من الكتابات التي تنبه من أهدافهم غير العلمية، بالرغم من ضعف المسلمين آنذاك في فترة تراجعه وتخلفه التنموي والعلمي والاقتصادي، ومن هنا جاءت الفكرة الاستعمارية للتغيير ومحاولة الانضواء تحت لواء الغرب في فكره وثقافته وحتى سبل عيشه، لكن ردود الإمام محمد عبده جاءت ثاقبة لمراد الدبلوماسي الفرنسي هانوتو وهدفه من هذه الكتابات والإشارات التي لا تخلو من مغالطات تاريخية وفكرية عديدة، ومنها حول السلطة والدولة والكهانة وغيرها.

فجاءت ردود الإمام واضحة في منطلقاتها الفكرية، تجاه الإسلام وحقائقه الناصعة، تجاه قضايا عديدة على ما كتبه هانوتو، في أكثر من مقال له، ومن هذه الردود للإمام محمد عبده : إن الإسلام دين وشرع، فهو قد وضع حدودا، ورسم حقوقا.

ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام، إلا إذا وجدت قوة إقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة، والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في عمله. فكان الإسلام كمالا للشخص، وألفة في البيت، ونظاما للملك. كما أن ما جرى في الديانة المسيحية، في مجال السلطة الدينية، وفي اللاهوت الكنسي، لم يتم في دين الإسلام، منذ العصر الأول، ويرى الإمام محمد عبده: إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوروبا، فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر. وهي سلطة خولها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم، والأمة هي التي تولي الحاكم، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، وهو حاكم مدني من كل الوجوه.

ولا شك أن هذا الرد من محمد عبده، هدفه تبيان الفرق بين الإسلام والمسيحية في سلطة الحكم ونظامه، وفي قضية النظرة للحاكم الذي يختلف عن النظرة الكنسية كما كانت، قبل إقصاء صلاحية الكنيسة وتدخلاتها، واعتبار سلطة الحاكم من الحكم الإلهي، كما جرى في العصور الوسيطة في أوروبا، وهذا ما قاله محمد عبده في بعض ردوده: « لم يعرف المسلمون في عصر من العصور، تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحية، عندما كان يعزل الملوك ويحرم الأمراء ويقرر الضرائب على الممالك، ويصنع لها القوانين الإلهية. وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقا للحاكم الأعلى وهو الخليفة أو السلطان ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية والمدافع عنها بالحرب أو السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن».

ولا شك أن هذه الردود تهدف إلى إبراز حقائق الإسلام، عند مقارنة ذلك بما قاله ألبرت هانوتو وما بثه من معلومات خاطئة ومشوهة تجاه حقائق، لا يمكن حجبها، وهذه ضمن الجهود الإصلاحية يريدها محمد الشيخ عبده أن تنشر، حتى لا يقع البعض في حبائل الاختراق الفكري والثقافي الاستعماري، كما أوضحت فكرة الإمام محمد عبده في قضية الإصلاح، وعكست في المقابل، كما يقول الباحث زكي الميلاد: «رؤيته للدين وعلاقته بالحياة والعصر والعالم، الرؤية التي ظلت تتطور عنده وتتبلور وتزداد نضوجا ووضوحا. كما تقدمت معارفه وتراكمت تجاربه وتواصلت انفتاحاته، ولم تتغير هذه الرؤية عنده أو تتراجع حتى عندما كان الأستاذ الإمام، بل ظل يدافع عنها ويحاجج بها ويؤكد عليها، كما ظهر ذلك واضحا في كتابه (الإسلام والمدنية)».

وهذا ما جعله يدافع عن قدرة الدين الإسلامي على الاستجابة لكل ما يسهم في النهوض ويطرد فكرة تغريب واقع الأمة ومحو هويتها، ويعزز فكرة مدنية الحكم والسلطة بعكس الديانة المسيحية.