أفكار وآراء

غزوة بوتين.. والمصير الجيوسياسي للعالم!

أحداث الغزو الروسي لأوكرانيا منذ الخميس الماضي 24 فبراير، بدا واضحًا منها أنها كانت متوقعة، وأن تهديد الأمن والديمقراطية في أوروبا أصبح أمرًا لا شك فيه. وكنا في الأسبوع الماضي، قد ذكَّرنا بموقف رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشمبرلين بغضه النظر عن غزو هتلر لبولندا مما أغرى الأخير باجتياح أوروبا. وهي حادثة تكرر ذكرها في الكثير من المقالات التي سال حبرها تعليقًا عن هذه الحرب.

لكن ما بدا واضحًا كذلك، أن أوروبا الغربية اليوم وعت الدرس تمامًا؛ ففي حزمة العقوبات الاقتصادية القاسية وعزل روسيا وغلق الأجواء أمام الطيران الروسي، وإعلان دعم أوروبا لأوكرانيا بالسلاح إلى درجة رأينا فيها ألمانيا تتخذ خطوة لم تُقدم عليها منذ الحرب العالمية الثانية (إمداد أوكرانيا بالسلاح)؛ كل ذلك عكس تمامًا إلى أي مدى تدرك أوروبا الخطر الجيوسياسي على العالم من احتلال بوتين لأوكرانيا.

لقد كان تفكك الاتحاد السوفييتي كنهاية للحرب الباردة في عام 1989 غير كافٍ لطرد شبح التهديد بالحرب في سماء أوروبا وفضائها الجيوسياسي، متى ما كان هناك وجود لشكل من أشكال التوتاليتارية في أقصى الشرق الأوروبي (روسيا) ومتى ما بقي رئيس كالرئيس بوتين يدرك تمامًا ماذا يعني له انهيار الاتحاد السوفييتي.

استفاقة أوروبا على خطورة الوضع في أوكرانيا جعل من الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي الأكثر قدرة على ردع بوتين، في خندق واحد مع أوروبا، الأمر الذي سيجعل من حصار بوتين قاسيًا وغير مسبوق.

إن أحداث غزو أوكرانيا في عقيدة بوتين هي جزء من الوعي الفاشي الذي ظل راسبًا في عقله الباطن ونابعا من العظمة القابلة للاستعادة المتوهمة -في خياله- لأيام الاتحاد السوفييتي في القرن العشرين، وهو ما تدل كل المعطيات اليوم على استحالة عودته في القرن الحادي والعشرين، الأمر الذي سيعني استعدادًا لقلب العالم النابض (أوروبا) لأيام وربما سنوات قد تتغير فيها المعادلات الجيوسياسية في العالم إذا انتصر بوتين في أوكرانيا، فالتعقيد الذي تعكسه ملابسات غزو بوتين لأوكرانيا في ظل تشابك المصالح الاقتصادية الجيوسياسية المتصلة بالنفط والطاقة (وهي مصالح اقتصادية روسية يتشكل ثلثاها مع أوروبا) سيجعل الوضع صعبًا وبالغ الخطورة، ولكن في الوقت نفسه هو وضع لا يمكن أبدًا أن يمر دون مواقف جيوسياسية قاسية من أوروبا والولايات المتحدة ضد روسيا.

فالأوروبيون يدركون تمامًا أن استقرارهم اليوم، الذي كان ثمرةً للاتفاقيات الدولية التي تم إبرامها بعد الحرب العالمية الثانية، مع إعادة تأسيس «الأمم المتحدة» عوضًا عن «عصبة الأمم السابقة» هو استقرار في مهب الريح. وهذا ما بدا واضحًا في خطاب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، تعليقًا على غزو بوتين لأوكرانيا، حين ذكر العالم أن المنظمة الدولية ولدت من رحم الحرب! القادة الأوروبيون يدركون اليوم أن ثمة علاقة لبوتين مع الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا ويدركون خطورة تلك العلاقة إذا ما انتصر بوتين في أوكرانيا وصمت العالم على تلك الحادثة، لكنهم يعرفون أيضًا أن كف قناعة بوتين عن أحلامه المستحيلة في أوكرانيا لها ثمن باهظ لابد من دفعه، وهذا ما يجعلنا نعتقد أن غزو بوتين لأوكرانيا سيكون حدثًا مفصليًا له ما بعده في مستقبل صورة العالم التي نعرف.

ذلك أن الذي فاجأ العالم بغزو بوتين لأوكرانيا ليس فقط هو عودة أشباح الحرب الباردة، بل شبح الحرب العالمية الثالثة كذلك، لاسيما بعد تصريحات بوتين الخطيرة حول السلاح النووي الروسي الذي أمر بجعله على أهبة الاستعداد! وفيما يبدو اليوم؛ أن التصدي لهذا الغزو الروسي لأوكرانيا قائم على قدم وساق في أوروبا والولايات المتحدة، فذلك لأن الجميع يعلم أن تداعيات الصمت على غزو بوتين لأوكرانيا ستكون لها عواقب جيوسياسية كارثية على العالم، فهناك الصين التي تنتظر نهاية هذا الغزو وعينها على تايوان، وهناك أنظمة أخرى في العالم تضمر شهيتها للاستثمار في الفوضى الجيوسياسية المحتملة لنتائج ذلك الغزو إذا مر مرور الكرام!

لهذا كله لن يمر هذا الغز البوتيني لأوكرانيا مرورًا عابرًا، بل ستتم مواجهته باستراتيجيات دولية لا تتوقف نهاياتها فقط عند كف بوتين عن أوكرانيا، بل ربما تنعكس ارتدادًا سلبيًا على سلطة بوتين في موسكو، ومن ثم ربما نشهد بعد ذلك تحولا جذريا للعالم ما بعد غزو أوكرانيا؛ إما باتجاه تعزيز الديمقراطية، أو باتجاه حرب عالمية!

محمد جميل أحمد كاتب من السودان