دعاية تصنع الواقعة وتسبقها
الاثنين / 26 / رجب / 1443 هـ - 21:45 - الاثنين 28 فبراير 2022 21:45
مضت الأسابيع الأخيرة والعالم يقف على قدم واحدة بانتظار آخر تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول مستجدات ما كان الإعلام يسميه قبل أيام معدودة فقط 'الأزمة الأوكرانية الروسية'. أما الآن، وبعدما بلغ التوتر الإعلامي عتبة الحسم بين موسكو من جهة وكييف وحلفائها الغربيين من جهة مقابلة، فقد حانت لحظة التجلي العسكرية التي استيقظ عليها الأوكرانيون وكما استيقظ عليها العالم المتفرج صباح الخميس الماضي (24 فبراير)، لنجد أن 'الأزمة' قد تحولت في شريط الأخبار بين عشية وضحاها إلى 'حرب'، وذلك بعدما أعلن الرئيس الروسي الحانق عن انطلاق عملية عسكرية خاصة في إقليم دونباس (شرقي أوكرانيا) لـ'تحرير أوكرانيا وتطهيرها من النازيين، والمناصرين للنازية وفكرها' كما صرح الكرملين. تمثل هذه الواقعة نقطة تحول في موازين القوى وتاريخ العالم الذي تكتبه الدبابات الروسية في هذه الأثناء على جغرافيا أوروبا الشرقية، فهذه هي المرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي التي لا تتدخل فيها الولايات المتحدة بوصفها شُرطي العالم الأوحد وقاضي قضاته، الأسلوب الذي تفردت بممارسته منذ نهايات القرن العشرين. وهكذا يدخل عالمنا المضطرب، الذي لم يكد يشفى من آثار معركته مع الوباء، في رحى معركة جديدة أطرافها واضحة ومعلنة هذه المرة، حتى وإن التبست الأسباب وما وراءها. ولكن أين موقع الإعلام من كل ما يحدث الآن على الأراضي الأوكرانية؟ وكيف تتدخل الدعاية (البروباغندا) الروسية والغربية على حد سواء في توجيه الحدث؟
يُقال دائماً بأن الحقيقة هي أول الضحايا في الحرب، ونجد أن مشهد الإعلام العالمي الآن يكرس هذه المقولة عبر الانحياز الواعي أو غير الواعي، وغير المهني في كل الأحوال، في سبيل اختراع 'حقائق' مضادة. بات من الواضح أن السياسة العالمية قد دخلت منذ سنوات ما بعد التلفزيون إلى مرحلة أصبح فيها الإعلام شريكاً حاسماً وقوياً في صناعة الأحداث. فهو لا يكتفي بمهمة النقل والإبلاغ كما يتصور كثيرون وفقاً للعقيدة الإعلامية القديمة، بل هو يسعى لتأسيس الواقعة ورسم مساراتها، بل ويسبقها في كثير من الأحيان كما هو الحال مع الحرب الدائرة الآن في أوروبا الشرقية، التي تعيدنا إلى حقبة الحرب الباردة واستقطاباتها العنيفة. ولعل المناخ السياسي المريب الذي ساد خلال العامين الماضيين من جائحة كورونا كان الشاهد الأقرب زمنياً على يد الإعلام الطولى في صناعة الحدث أو القضية وتوجيه السياق، إضافة إلى تدخله السافر في تعميم تأويلاته الخاصة حول الحدث. ونرى الآن كيف يعاد إنتاج ذات الأسلوب بمنهجية خطيرة عند الحديث عن الحرب الروسية على أوكرانيا في وسائل الإعلام العالمية. فمنذ الإعلان الرسميّ لمنظمة الصحة العالمية في 11 مارس عام 2020 عن تحول فيروس كورونا إلى جائحة، لم يستحوذ حدث عالمي على انتباه الإعلام، بمختلف أشكاله وتصنيفاته، كما استحوذت عليه الأزمة الجارية في أوكرانيا، والتي سرعان ما تحولت إلى حرب يقول المراقبون أنها فاتحة لخلخلة النظام العالمي القائم منذ عقود بزعامة الولايات المتحدة. وإذا كانت المعلومات المتاحة فقط تخبر عن وجود 800 قاعدة عسكرية حول العالم تابعة للإمبراطورية الأمريكية، فللمرء أن يتخيل عدد القواعد الإعلامية وحجم الترسانة الدعائية التي يتمتع بها الإعلامي الأمريكي! ولا شك في أن شبكة الإعلام الأمريكية تحديداً كانت قد مهدت منذ أشهر الشعب الأمريكي قبل الأوكراني لنتيجة كارثية كهذه، أي الحرب. وإلى اللحظة تظل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بخطابها الدعائيَّ ضد الخطر الروسي البؤرة الرئيسة لتفشي اللغة السائدة الآن في وسائل الإعلام الغربية والعربية على حد سواء.
يعمل الإعلام الآن بكل مجنديه، من صحفيين ومحللين ومصورين، على عرض الحدث مرفقاً بالتأويل الذي يفرضه الإعلام نفسه على المتلقي. فنجد مثلاً أن أبرز وسائل الإعلام الغربية كانت هي المسؤولة عن الترويج لفكرة 'الحرب العالمية الثالثة' التي داهمت موقع تويتر فجأة وأصبحت حديث الناس، بعد أن أشرفت على إشاعتها صحف ومحطات تلفزيونية في أمريكا وأوروبا، وقدمتها للمتلقين كمآل قاطع للتوترات التي ظلت تتفاقم خلال الأشهر الأخيرة قبل الحرب، والمؤججة بأبواق الحرب التي يُطلقها الإعلاميون قبل السياسيين. ومن هنا يتبدى لنا كيف أن الإعلام ليس مجرد منتج للخبر، بل هو المسؤول في الوقت نفسه عن رسم السيناريوهات والترويج لتأويلات معينة ليتبناها المتلقي بعملية أقل كلفة ذهنياً.
من مناورات الدبلوماسية إلى مناورات السلاح، تدخل الحرب الروسية على أوكرانيا مرحلتها العسكرية بحمولة إعلامية مثيرة للجدل، غابت فيها كثيراً المسافة الدقيقة بين الخبر الصحفي والإشاعة، بين التهويم الأعمى والتحليل السياسي الرصين، في فترة امتدت لأشهر قبل مارس 2021، أي قبل أن يُعلَن عن حشد روسيا لحوالي 100.000 جندي بالقرب من حدودها مع أوكرانيا. وما يحدث الآن من تداعٍ هائل للأخبار والمعطيات حول الحرب هو تكرار لما شهدناه خلال العامين الماضيين من جائحة كورونا، التي تشعبت إلى قضايا فرعية كأزمة اللقاح والمتحور الجديد وما رافقها من إشاعات وتضليل إعلامي. كلا الحدثين عرفا تدفقاً هائلاً في المعطيات والمعلومات يفوق الحاجة الاستيعابية للمتلقين وهواة التحليل السياسي. وعلى هذا النحو فإن أي معلومة إضافية تطرق ذهن المتلقي ستتحول من أداة تنوير إلى أداة تضليل تزيد الخيوط تشابكاً، مهما كان هذا المُدخل الجديد يتوخى الحقيقة إلى درجة ما. فليست الأخبار الكاذبة أو الإشاعات هي وحدها من يقف خلف التضليل الإعلامي، فلطالما أثبتت التخمة المعلوماتية الناتجة عن تطور الوسائط الإخبارية وسرعة الانتشار أنها سبب ضروري في غيبوبة الوعي، وهذه إحدى سمات العصر الرقمي الذي نعيش، حيث لا 'تنتشر' المعلومة، بل 'تتفشى'.
ليست الحرب الروسية على أوكرانيا حالة انقسام بين خصمين فقط، لأن واحدة من أهم ألاعيب الإعلام الدعائي هي فرض هذا الانقسام على الجمهور المتفرج من خلف الشاشات أيضاً، والذي لا صلة مباشرة له بالحدث، كما هو حال الجمهور العربي. كما أن الإعلام الجديد، الذي لا يكتفي بمهمة الإبلاغ فحسب، يكرس طاقاته في محاولة إشراكنا عنوة في سياق الأحداث وجعلنا طرفاً منها، فيفرض علينا الانحياز لطرف من أطراف الحرب ضد آخر، ويحرضنا على اتخاذ موقف ضروري ومعلن مما يجري، قد لا نكون مضطرين لاتخاذه في ظروف إعلامية أكثر احتراماً لعقولنا.
• سالم الرحبي كاتب وشاعر عماني
يُقال دائماً بأن الحقيقة هي أول الضحايا في الحرب، ونجد أن مشهد الإعلام العالمي الآن يكرس هذه المقولة عبر الانحياز الواعي أو غير الواعي، وغير المهني في كل الأحوال، في سبيل اختراع 'حقائق' مضادة. بات من الواضح أن السياسة العالمية قد دخلت منذ سنوات ما بعد التلفزيون إلى مرحلة أصبح فيها الإعلام شريكاً حاسماً وقوياً في صناعة الأحداث. فهو لا يكتفي بمهمة النقل والإبلاغ كما يتصور كثيرون وفقاً للعقيدة الإعلامية القديمة، بل هو يسعى لتأسيس الواقعة ورسم مساراتها، بل ويسبقها في كثير من الأحيان كما هو الحال مع الحرب الدائرة الآن في أوروبا الشرقية، التي تعيدنا إلى حقبة الحرب الباردة واستقطاباتها العنيفة. ولعل المناخ السياسي المريب الذي ساد خلال العامين الماضيين من جائحة كورونا كان الشاهد الأقرب زمنياً على يد الإعلام الطولى في صناعة الحدث أو القضية وتوجيه السياق، إضافة إلى تدخله السافر في تعميم تأويلاته الخاصة حول الحدث. ونرى الآن كيف يعاد إنتاج ذات الأسلوب بمنهجية خطيرة عند الحديث عن الحرب الروسية على أوكرانيا في وسائل الإعلام العالمية. فمنذ الإعلان الرسميّ لمنظمة الصحة العالمية في 11 مارس عام 2020 عن تحول فيروس كورونا إلى جائحة، لم يستحوذ حدث عالمي على انتباه الإعلام، بمختلف أشكاله وتصنيفاته، كما استحوذت عليه الأزمة الجارية في أوكرانيا، والتي سرعان ما تحولت إلى حرب يقول المراقبون أنها فاتحة لخلخلة النظام العالمي القائم منذ عقود بزعامة الولايات المتحدة. وإذا كانت المعلومات المتاحة فقط تخبر عن وجود 800 قاعدة عسكرية حول العالم تابعة للإمبراطورية الأمريكية، فللمرء أن يتخيل عدد القواعد الإعلامية وحجم الترسانة الدعائية التي يتمتع بها الإعلامي الأمريكي! ولا شك في أن شبكة الإعلام الأمريكية تحديداً كانت قد مهدت منذ أشهر الشعب الأمريكي قبل الأوكراني لنتيجة كارثية كهذه، أي الحرب. وإلى اللحظة تظل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بخطابها الدعائيَّ ضد الخطر الروسي البؤرة الرئيسة لتفشي اللغة السائدة الآن في وسائل الإعلام الغربية والعربية على حد سواء.
يعمل الإعلام الآن بكل مجنديه، من صحفيين ومحللين ومصورين، على عرض الحدث مرفقاً بالتأويل الذي يفرضه الإعلام نفسه على المتلقي. فنجد مثلاً أن أبرز وسائل الإعلام الغربية كانت هي المسؤولة عن الترويج لفكرة 'الحرب العالمية الثالثة' التي داهمت موقع تويتر فجأة وأصبحت حديث الناس، بعد أن أشرفت على إشاعتها صحف ومحطات تلفزيونية في أمريكا وأوروبا، وقدمتها للمتلقين كمآل قاطع للتوترات التي ظلت تتفاقم خلال الأشهر الأخيرة قبل الحرب، والمؤججة بأبواق الحرب التي يُطلقها الإعلاميون قبل السياسيين. ومن هنا يتبدى لنا كيف أن الإعلام ليس مجرد منتج للخبر، بل هو المسؤول في الوقت نفسه عن رسم السيناريوهات والترويج لتأويلات معينة ليتبناها المتلقي بعملية أقل كلفة ذهنياً.
من مناورات الدبلوماسية إلى مناورات السلاح، تدخل الحرب الروسية على أوكرانيا مرحلتها العسكرية بحمولة إعلامية مثيرة للجدل، غابت فيها كثيراً المسافة الدقيقة بين الخبر الصحفي والإشاعة، بين التهويم الأعمى والتحليل السياسي الرصين، في فترة امتدت لأشهر قبل مارس 2021، أي قبل أن يُعلَن عن حشد روسيا لحوالي 100.000 جندي بالقرب من حدودها مع أوكرانيا. وما يحدث الآن من تداعٍ هائل للأخبار والمعطيات حول الحرب هو تكرار لما شهدناه خلال العامين الماضيين من جائحة كورونا، التي تشعبت إلى قضايا فرعية كأزمة اللقاح والمتحور الجديد وما رافقها من إشاعات وتضليل إعلامي. كلا الحدثين عرفا تدفقاً هائلاً في المعطيات والمعلومات يفوق الحاجة الاستيعابية للمتلقين وهواة التحليل السياسي. وعلى هذا النحو فإن أي معلومة إضافية تطرق ذهن المتلقي ستتحول من أداة تنوير إلى أداة تضليل تزيد الخيوط تشابكاً، مهما كان هذا المُدخل الجديد يتوخى الحقيقة إلى درجة ما. فليست الأخبار الكاذبة أو الإشاعات هي وحدها من يقف خلف التضليل الإعلامي، فلطالما أثبتت التخمة المعلوماتية الناتجة عن تطور الوسائط الإخبارية وسرعة الانتشار أنها سبب ضروري في غيبوبة الوعي، وهذه إحدى سمات العصر الرقمي الذي نعيش، حيث لا 'تنتشر' المعلومة، بل 'تتفشى'.
ليست الحرب الروسية على أوكرانيا حالة انقسام بين خصمين فقط، لأن واحدة من أهم ألاعيب الإعلام الدعائي هي فرض هذا الانقسام على الجمهور المتفرج من خلف الشاشات أيضاً، والذي لا صلة مباشرة له بالحدث، كما هو حال الجمهور العربي. كما أن الإعلام الجديد، الذي لا يكتفي بمهمة الإبلاغ فحسب، يكرس طاقاته في محاولة إشراكنا عنوة في سياق الأحداث وجعلنا طرفاً منها، فيفرض علينا الانحياز لطرف من أطراف الحرب ضد آخر، ويحرضنا على اتخاذ موقف ضروري ومعلن مما يجري، قد لا نكون مضطرين لاتخاذه في ظروف إعلامية أكثر احتراماً لعقولنا.
• سالم الرحبي كاتب وشاعر عماني